مكانة العلمـاء

بسم الله الرحمن الرحيم

مكانة العلمـاء

فإنَّ فئة في المجتمع بلغت شخوصهم سماء العزّ والمجد، وتملّكت نفوسهم أعالي الشرف والسؤدَد، حصّلوا السعادة والبهجة في طي البلاء والنقمة، وحازوا المكارم رغم المصاعب، لم يرفعهم جاه ولا سلطان، ولم يجمّلهم مُلك ولا كبرياء، ولم يبلِّغهم نسب ولا يَسار، هم في واقعنا أضخم الأسماء وأكثرها بريقًا وأشدّها دويا، قبِلَهم الناس بلا شروط ولا ميثاق، وأذعنوا لفضلهم دون تردّد أو اضطراب؛ لصدقهم وأمانتهم وديانَتهم.

تمنى أحد أكابِر ملوك الإسلام أن يكونَ واحدا منهم، متَّصفا بصفتهم، وسائرا على هديهم وطريقتهم، وقد جيء إليه بسائر متَع الدنيا الفانيات وقدّمت له أنفس اللذات.

إنهم العلماء حراس الشريعة وحماة الدين ومنارات الكون، بهم صلاح الناس وهدايتهم، العلماء كالنجوم لأهل الأرض، إذا أضاءت اهتدوا بها، وإذا أفلت ضلّوا وتحيروا، مَن مثلهم في نشر السنن ودرء الفتن ونبذ البدع وسائر الخرافات؟!

همُ العدولُ لِحمل العلم كيف وهم *** أولو المكارم والأخلاق والشيَمِ

هم ناصرو الدين والْحامون حوزته *** من العـدو بجيـش غير منهـزمِ

لم يبق للشمس من نـور إذا أفلت *** ونورهم مشرقٌ من بعد موتِهـمِ

 ولقد خص الله تعالى أهل العلم بأنهم أهل خشيته من بين الناس، كما قال سبحانه: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ العُلَمَاءُ﴾ ورفعهم الله تعالى درجات فقال: ﴿يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾ .

وقال العلامة ابن القيم رحمه تعالى : "العلماء هم في الأرض بمنزلة النجوم في السماء بهم يهتدي الحيران في الظلماء وحاجة الناس إليهم أعظم من حاجتهم من الطعام والشراب".

عباد الله : إنكم لتبحثون عن النجاة وتطلبون السلامة في هذه الحياة، فاعلموا أن نجاتكم مرهونة بوجود العلماء الربانيين الصادقين، فإذا قبض العلماء حلت الهلكة والفوضى والفتن، ثبت في الصحيحين من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يُبقِ عالما اتخذ الناس رؤوسا جهالا، فسُئلوا فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا» .

أيها المسلمون: إن علماء الشريعة لهم علينا حقوق وواجبات، يجب علينا مراعاتها ونشرها وتعليمها أبناءنا ، فمن أجلِّ حقوقهم إظهارهم ونشر فضائلهم ومحاسنهم وصرف الجيل إلى محبتهم والاستماع إليهم، فهم صفوة الأمة ونبلاؤها وقادتها وصلحاؤها.

ومن حقوق علمائنا علينا إجلالهم واحترامهم والإصغاء لمواعظهم وتوجيهاتهم، روى أبو داود عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن من إجلال الله تعالى إكرام ذي الشيبة المسلم وحامل القرآن غير الغالي فيه ولا الجافي عنه، وإكرام ذي السلطان المقسط».

روى الحاكم وغيره أن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أخذ بركاب ناقة زيد بن ثابت رضي الله عنه وقال: "هكذا أُمرنا أن نفعل لعلمائنا وكبرائنا".

ومن حقوقهم الدفاع عنهم والذب عن أعراضهم، وفي هذه العصور ظهر أناس، يهمزون العلماء ويقدحون فيهم، وربما انتقصوهم أمام العامة وحاولوا التقليل من شأنهم، ولا ريب أن انتقاص العلماء والوقيعة فيهم من أخطر الذنوب على العبد .

قال ابن عساكر رحمه الله: "واعلم ـ يا أخي وفقنا الله وإياك لمرضاته وجعلنا ممن يخشاه ويتقيه حق تقاته ـ أن لحوم العلماء رحمة الله عليهم مسمومة، وعادة الله في هتك أستار منتقصيهم معلومة؛ لأن الوقيعة فيهم بما هم منه براء أمر عظيم، والتناول لأعراضهم بالزور والافتراء مرتع وخيم، والاختلاف على من اختاره الله فيهم لنشر العلم خلق ذميم".

وإن من علامة البدعيّ وقوعه في العالم الشرعي، قال أبو حاتم الرازي رحمه الله: "علامة أهل البدع الوقيعة في أهل الأثر" .

وقال الحسين الكرابيسي: "مثل الذين يذكرون أحمد بن حنبل مثل قوم يجيئون إلى أبي قُبيس يريدون أن يهدموه بنعالهم".

قال عبدالله بن المبارك رحمه الله: "حق العاقل أن لا يستخف بثلاثة: العلماء والسلاطين والإخوان؛ فإن من استخف بالعلماء ذهبت آخرته، ومن استخف بالسلطان ذهبت دنياه، ومن استخف بالإخوان ذهبت مروءته".

الخطبة الثانية :

الحمد لله :

اتقوا الله تبارك وتعالى حق التقوى، وراقبوه في السر والنجوى، واعلموا أنكم ملاقوه وإليه الرجعى، حاسبوا أنفسكم، وزنوا أعمالكم، وتزينوا للعرض الأكبر على الله ﴿يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لاَ تَخْفَى مِنكُمْ خَافِيَةٌ﴾ .

عباد الله: للعلماء مكانة في الدين لا تنكر، ولهم فضل كبير، فقد جاءت نصوص الشرع متوافرة متعاضدة تعزز من مكانتهم، وتبين فضلهم، فهم من شهود الله على أعظم مشهود به كما قال تعالى: ﴿شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا العِلْمِ

عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من سلك طريقاً يطلب فيه علماً سلك الله به طريقاً من طرق الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضاً لطالب العلم، وإن العالم ليستغفر له من في السموات ومن في الأرض، والحيتان في جوف الماء، وإن فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب، وإن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً، ورَّثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر» رواه أبو داود.

عباد الله:العلماء بالله تعالى وبشرعه هم أهل خشية الله، وشهداء الله في أرضه، وخلفاء الرسول في أمته، قال ابن عباس رضي الله عنهما: "العالم بالرحمن من عباده: من لم يشرك به شيئاً، وأحل الحلال، وحرم الحرام، وحفظ وصية الله، وأيقن أنه ملاقيه، ومحاسبه بعمله".

عباد الله: ألاَ وإنَّ مِنْ تَعْظِيمِ الشَّريعَةِ والدِّينِ تَعْظيمُ العُلَمَاءِ، فهُمْ خَلَفُ أنْبيَاءِ الله فِي دَعْوَتِهِمْ، قَالَ عَليْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: «وإنَّ العُلَمَاءَ ورَثَةُ الأنْبِيَاءِ» رَوَاهُ أحمدُ. حَقٌّ عَلَى النَّاسِ تَبْجِيلُهُمْ وتَوقِيرُهُمْ، وعَلَى هَذَا سَارَ أسْلاَفُ هَذَا الدِّينِ .

يَقُولُ الرَّبيعُ بنُ سُلَيْمَانَ: "ما اجْتَرأتُ أنْ أشْرَبَ الماءَ والشَّافِعِيُّ يَنْظُرُ إليَّ هَيبَةً لَهُ".

فسُؤَالُهَمْ عِلْمٌ، ومُجَالَسَتهمْ سَعَادَةٌ، ومُخَالَطَتُهُمْ تَقْويمٌ للسُّلُوكِ، ومُلازَمَتُهُمْ حِفْظٌ للشَّبَابِ بإذْنِ الله مِنَ الزَّلَلِ .

يَقُولُ مَيمُونَ بنُ مِهْرَانَ: "وَجَدْتُ صَلاحَ قَلْبِي فِي مُجَالَسَةِ العُلَمَاء".

ثَمَرَةُ مُجَالَسَةِ العُلَمَاءِ لَيسَتْ في التَّزَوُّدِ مِنَ العُلُومِ والمَعَارِفِ فَحَسْب، بلِ الاقْتِدَاءُ بِهِمْ في الهَدي والسَّمْتِ وعُلُوّ الهِمَّةِ ونَفْعِ الآخَرينَ عِلْمٌ آخَر يَحْتَاجُ إليْهِ كُلّ أحَدٍ.