ألهاكم التكاثر

بسم الله الرحمن الرحيم

ألهاكم التكاثر

 فاتقوا الله تعالى حق التقوى فإن هذا ملاك الأمر كله، وسعادة الدنيا والآخرة، يقول ربنا تبارك وتعالى، واعظا وآمرا ومذكرا ﴿أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (1) حَتَّى زُرْتُمُ المَقَابِرَ﴾ ، أشغلكم يا عباد الله هذا التكاثر ،حتى حملتم على الرقاب، ووريتم في التراب، وإن من تدبر أحوال الناس اليوم ،بل وتدبر حال نفسه، وفتح الله بصيرته، وجد أن الناس أفسد دينهم ودنياهم التكاثر والتكلف، والله عز وجل نهاهم عن هذا في كتابه، التكاثر في الأموال ينفق العمر والجهد، والصحة والوقت ، لا يبحث عن ما يغنيه من المال ، وما يكفيه وولده من بعده، ولكن ليكون أكثر من فلان، وهذا أمر لا ينتهي وقد رأيتموهم في ظاهرة الأسهم لا أعادها الله على المسلمين، لم نرى أحدا انسحب قبل انفجارها إلا ما ندر مع أنهم قد ملكوا الأموال الطائلة، والذي منعهم من ذلك التكاثر، لا يقتنع ولا يستغني ، فالتكاثر هو الذي أشغل الناس، مسكنه طيب ويريد أجمل وأوسع، ماله كثير ويريد أكثر وأعظم، سيارته فارهة ، ويريد أحدث وأنعم، التكاثر في المناصب وفي الألقاب ، وهكذا لا ينتهي حتى ينتهي العمر، وهو لم ينصرف لما خلق من أجله.

فيا عباد الله تدبروا ما حولكم، تجدوا أن هذا التكاثر، أهلك الناس في دينهم وعلومهم ودنياهم، واستهلك أعمارهم ولذا قال الله ﴿أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (1) حَتَّى زُرْتُمُ المَقَابِرَ﴾ اليوم أو غدا، وانتهت الفرصة التي منحت لك، لكن أتظن الأمر انتهى ﴿كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ﴾ لم ينته الأمر، أعطيت فرصة فضيعتها في التكاثر، حتى زرت المقابر، والمقابر ليست إقامة، وإنما هي زيارة، وما بعدها أعظم منها ﴿كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ (3) ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ (4) كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ اليَقِينِ (5) لَتَرَوُنَّ الجَحِيمَ﴾ ، ما أعظمها من موعظة، لو وافقت قلوبنا ، كل واحد منا سيقف في العرصات، عاريا حافيا، غير مختون، والشمس قد أدنيت منه، ثم يؤتى بجهنم، كل واحد منا سيراها بأم عينه، لها سبعون ألف زمام مع كل زمام سبعون ألف من الملائكة الغلاظ الشداد يجرونها ﴿إِذَا رَأَتْهُم مِّن مَّكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً﴾ ﴿سَمِعُوا لَهَا شَهِيقاً وَهِيَ تَفُورُ (7) تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الغَيْظِ﴾ ، نعوذ بالله من النار ومن أسباب دخولها، فيقول الله لنا بعد أن نهانا عن التكاثر ﴿كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ اليَقِينِ (5) لَتَرَوُنَّ الجَحِيمَ﴾ ، تراها وأنت في أضعف حال، تنظر عن أيمن منك فلا ترى إلا ما قدمت، وتنظر أشأم منه فلا ترى إلا ما قدمت، ذهب المال الذي تكاثر من أجله، والولد والترقيات، والمناصب والولايات ﴿وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ﴾ ، وينظر تلقاء وجهه فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه «فاتقوا النار ولو بشق تمرة» يفر المرء من أخيه، وأمه وأبيه، وصاحبته وبنيه، لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه، فهذه النار ، ثم ماذا بعد الرؤية، أما الكفار وأهل الشرك وأهل ترك الصلاة، فهؤلاء يسحبون في النار على وجوههم ﴿ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ﴾ ، هؤلاء أهلها وسكانها، نعوذ بالله من ذلك وأما أهل الإسلام، وفيهم فساقهم وأهل معاصيهم، فينصب لهم الصراط على متن جهنم، لا تكفي الرؤية، حتى يأتي الورود قال الله ﴿وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَّقْضِياًّ (71) ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِياًّ﴾ ، لا بد أنا وأنت أن نراها بأعيننا، ثم إن أماتنا الله على الإسلام، ولم ينزع منا هذا الثوب، لا بد أن نمضي على الصراط، ثم على حسب استقامتنا، على صراط الدنيا ومسارعتنا فيه، يكون هذا الصراط ﴿كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ اليَقِينِ (5) لَتَرَوُنَّ الجَحِيمَ (6) ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ اليَقِينِ (7) ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ﴾ ، أين الصحة أين الفراغ، أين الأمن أين المال، أين التمكن من طاعة الله، يا لها من موعظة لو وافقت قلوبنا، لو وافقت قلوبا حية، قال بعض السلف :إذا رأيت الواعظ يعظ، ولا يتعظ والموعوظ، تزل الموعظة عن قلبه، كما تزل القطرة عن الصفا، فاعلم أن الله قد لعنهم فأصمهم وأعمى أبصارهم، نعوذ بالله من الخذلان ﴿أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾ ، أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه

الخطبة الثانية :

أيّها المسلمون، إنكم في دارٍ ليست للبقاء، وإن تراخى العمر وامتدَّ المدى. أيّامُها مراحل، وساعاتها قلائل، والمرءُ لا شكَّ عنها راحِل. شبابُها هرَم، وراحتُها سَقَم، ولذّاتُها نَدَم. الدنيا قنطرةٌ لمن عَبَر، وعبرةٌ لمن استبصَر واعتبر ﴿وَمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الغُرُورِ﴾ .

فاستبقوا الخيرات، وبادِروا قبل أن تتمنّوا المهلةَ وهيهاتَ هيهات، ولا تغترّوا بحياةٍ تقود إلى الممَات، لا يُرى في حُشودِها إلاّ الشتات، ولا يُسمَع في ربوعِها إلا "فلان مرِض" و"فلان مات".

فطوبى لمن فرَّ من مَواطِن الرِّيَب، ومواقِع المقتِ والغضَب، مستمسِكًا بدينه، عاقدًا عليه بكِلتا يدَيه، قد اتَّخذه من الشّرور ملاذًا، ومن الفِتنِ مَعاذًا. ويا خسارَ من اقتَحَم حِمى المعاصي والآثام، وأَرتعَ في الموبقاتِ العِظام، وأحكَم عَقدَ الإصرارِ، على الذنوبِ والأوزار. هلك المصِرّ الذي لا يُقلِع، وندِم المستمرُّ الذي لا يَرجِع، وخابَ المسترسِلُ الذي لا ينزِع ﴿وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ .

أيها المسلمون، الموتُ في كلّ حين ينشُر الكفنا، ونحن في غفلةٍ عمّا يُراد بِنا. سهوٌ وشرود، وإعراضٌ وصدود ﴿إِنَّ الإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ﴾ .

كم شيّعنا من الأقران، كم دفنّا من الإخوان، كم أضجعنا من الجيران، كم فقدنَا من الخِلاّن. فيا مَن يُقصدُ بالموت ويُنحَى، يا من أسمعته المواعظُ إرشادًا ونُصحًا، هلاّ انتهيتَ وارعَوَيت، وندمتَ وبكَيت، وفتحتَ للخير عينَيك، وقُمتَ للهُدى مَشيًا على قدمَيك، لتحصُل على غايةِ المراد، وتسعَد كلَّ الإسعاد، فإن عصيتَ وأبيت، وأعرضتَ وتولّيت، حتى فاجأك الأجل وقيل: "ميْت"، فستعلم يومَ الحساب مَن عصَيت، وستبكي دمًا على قُبح ما جَنيتَ، ﴿يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإِنسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى (23) يَقُولُ يَالَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي﴾ .

أيها المسلمون: إن الأيام تطوى، والأعمار تفنى، والأبدان تبلى، والسعيد من طال عمره وحسن عمله، والشقي من طال عمره وساء عمله، فعن أبي بكرة رضي الله عنه أن رجلاً قال: «يا رسول الله، أي الناس خير؟ قال: من طال عمره وحسن عمله، قال: فأي الناس شر؟ قال: من طال عمره وساء عمله» رواه الترمذي

عباد الله: هذا باب التوبة مفتوح، وقوافل التائبين تغدو وتروح، فالبدار البدار إلى توبة نصوح، قبل الممات والفوات، ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحاً﴾ .