كثرة طرق الخـــير

بسم الله الرحمن الرحيم

كثرة طرق الخـــير

من أرادَ الفلاحَ فليستبضِع بضاعةَ المتقين، ومن أحبَّ أن يكونَ الله وليَّه فالله وليّ المتقين، وأكرمُ الناس عند الله أتقاهم، والآخرة عند ربِّك للمتقين. الساعي لغيرِ باب الله عاثِر القدَم، والشاكر لغير نِعَم الله مسلوبُ النِّعم.

أيّها المسلمون، النّاس في هِمَمِهم متفاوتون، وفي طبائِعهم متمايِزون، وفي ميولهم ورغباتِهم متنوِّعون، وبعضُهم لبعض مسخَّرون ﴿أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِياً وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ﴾ .

لله في خلقه شؤون، سننه فيهم ماضِية، قسم بينهم مواهبَهم ، كما قسم أرزاقهم وطبائعهم وأخلاقهم، وفاوت بين عقولِهم وفهومِهم كما فاوتَ بين ألسنتهم وألوانهم ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ﴾ .

عباد الله : خلق الله الخلقَ لعبادته وطاعتِه، وفاوت بينهم في الاجتهاداتِ فيها، في البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلّم يقول: «من أنفَق زوجين من شيءٍ من الأشياء في سبيلِ الله دُعِي من أبواب الجنة: يا عبد الله، هذا خيرٌ، فمن كان من أهلِ الصلاة دُعِي من باب الصلاة، ومن كان من أهلِ الجهاد دُعِي من بابِ الجِهاد، ومَن كَان من أهل الصّدقة دُعي من بابِ الصدقةِ، ومن كان مِن أهل الصيام دُعِي من باب الصيام وباب الريان ، فقال أبو بكر رضي الله عنه: ما على هذا الذي يُدعَى من تلك الأبواب من ضرورة فهل يُدعَى منها كلِّها أحدٌ يا رسول الله؟ قال: نعم، وأرجو أن تكونَ منهم يا أبا بكر» .

أيّها المسلمون، طُرق الخير كثيرة، وأبواب العملِ الصالح مشرَعَة، وقد كان أصحابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم أجمعين من شِدّة حُبِّهم للخير وحرصهم على العمل الصالح يسألون رسولَ الله صلى الله عليه وسلم : أيّ الأعمال أفضَل؟ ويسألونه: أيُّ الأعمال أحبُّ إلى الله؟ لأنّهم يعلمون أنّ الإنسانَ ليس في وسعِه ولا في طاقَته أن يأتيَ بجميع الأعمال.

وقد كان جوابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم متعدِّدًا في أوقاتٍ مختلفة وفي أحوال مختَلفة أيضًا، وقد بيّن أهل العلم رحمهم الله الحكمةَ في تعدُّد إجاباتِ النبيّ صلى الله عليه وسلم واختلافها فقالوا: إنّ ذلك من أجل اختلافِ أحوال السائلين واختلافِ أوقاتهم، فأعلَمَ كلَّ سائل بما يحتاج إليه، أو بما له رغبةٌ فيه، أو بما هو لائق به ومناسبٌ له. فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: «سألتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم : أيّ الأعمال أحبّ إلى الله؟ قال: الصلاة على وقتها، قال: ثمّ أيّ؟ قال: بر الوالدين، قال: ثمّ أيّ؟ قال: الجهاد في سبيل الله، قال: حدَّثني بهنّ ولو استزدتُه لزادني». متفق عليه

وفي مسند أحمدَ من حديث ماعز رضي الله عنه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم : «أيّ الأعمال أفضل؟ قال: إيمان بالله وحدَه، ثمّ الجهاد، ثم حجَّة برَّة تفضُل سائرَ العمل كما بين مطلع الشمس ومغربها» وفي سنن النسائي من حديث أبي أمامة رضي الله عنه: «أيّ الأعمال أفضل؟ قال: عليك بالصوم، فإنه لا عِدل له» ، وعند أحمد ومسلم من حديث أبي ذرّ رضي الله عنه قال: «يا رسول الله، أيّ الأعمال أفضل؟ قال: إيمانٌ بالله، وجهاد في سبيله، قال: فأيّ الرِّقاب أفضل؟ قال: أغلاها ثمنًا وأنفسها عند أهلها، قال: أرأيتَ إن لم أفعل؟ قال: تعين صانعًا أو تصنَع لأخرَق، قال: أرأيت إن ضعفتُ؟ قال: تمسِك الشرَّ، فإنّه صدقة تصدَّقُ بها على نفسك» .

وعن معاذ رضي الله عنه قال: سألتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم : أيّ الأعمال أحبّ إلى الله؟ قال: «أن تموتَ ولسانُك رطبٌ بذكر الله» أخرجه ابن حبان في صحيحه.

عبادَ الله، إنَّ طرق الخير كثيرة، وأبواب العملِ الصالح واسِعة، بل إنّ العمل الواحدَ يتفاوت الفضلُ فيه بحسَب ما يمنَح الله عبدَه فيه من قوّة الإيمان وصِدق الإخلاص وزَكاء النفس وتحقيق التوكّل.

وإذا كان الأمرُ كذلك فانظروا فيما يفتح الله على عباده من ألوان الطاعاتِ وصنوفِ العبادات وأنواعِ الاجتهادات وطُرق المسابقات إلى الخيرات، فتجدون من يفتَح الله عليه في القرآن الكريم والعنايةِ به وتلاوته قيامًا وقعودًا وعلى جنبه، ومنهم من يفتح الله عليه في تعليمه وإقرائه، ومن الناس من يفتح الله عليه في العِلم وطلبه، ومنهم من يُحسن التدريس، ومنهم من يحسِن الوعظ والتذكير، ومنهم من يشتغِل بالجمع والتأليف.

ومِن عباد الله من يفتَح الله عليه في الصلاة، فهي شغلُه الشاغل، وهي قرّة عينه من الليل والنهار، وآخر يفتح الله عليه في صيام النوافل، بينما ترى آخرين قد خصَّهم الله عزّ وجلّ بمزيدٍ من برّ الوالدين وصِلة الأرحام وتفقُّد الأقارب وزيارتهم والسؤال عنهم ، ومنهم من يُفتح له في مساعدةِ المحتاجين وإغاثةِ الملهوفين ، فيسعى على الأرملةِ والمسكين ، في عملٍ متواصِل في تفريجِ الكروب وسدِّ الديون وكفالةِ الأيتام ورعايتِهم ومواساتِهم وتعليمِهم والمحافظةِ عليهم.

ويفتح الله على أقوام في بناء المساجدِ وإنشاء الأوقاف، وآخرون يفتح الله لهم في الاحتساب بالأمرِ بالمعروف والنهيِ عن المنكر والصبرِ على الأذى فيه، فيطيقُ في ذلك ما لا يطيق غيره.

وفي الناس من يُفتح له في بابِ الشفاعة والإصلاح بين الناس، فيفكّ أسيرًا، ويحقن دمًا، ويدفع مكروهًا، ويحِقّ حقًّا، ويمنع باطلاً ويحجز ظلمًا، يقدر على ما لا يقدر عليه غيره، ﴿لاَ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً﴾ .

اللهم ...

الخطبة الثانية:

الحمد لله لم يزل بالنِّعَم مُنعمًا، وبالإحسان محسِنًا، يجير خائفًا، ويرسِل بالآيات تخويفًا، أحمده سبحانه وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له مسلمًا له حنيفًا، وأشهد أنّ سيّدنا ونبيّنا محمّدًا عبد الله ورسوله، بعثه مصدِّقًا لما بين يديه أمينًا شريفًا، صلى الله وسلّم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه، صلاةً وسلامًا يزدادون بها تفضيلاً وتشريفًا، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أيّها المسلمون: العمل الصالح واسعُ الميادين شامل المفاهيم، ينتظم أعمالَ القلوب والجوارحِ من الأقوال والأعمال والمقاصد في الظاهر والباطن ، من أعمالٍ خاصّة وعامّة، فرديّة وجماعية، في إكرام الضيف وعيادةِ المريض واتّباع الجنائز وإجابة الداعي ونُصرة المظلوم ومواساةِ الفقير وسقيِ الماء وتفريج الكروب وإنظار المعسر وإرشاد الضالّ وإيجاد فرَص العمل، وإنَّ لكم في البهائم لأجرًا، ومن زرع زرعًا أو غرس غرسًا فأكل منه إنسانٌ أو طير أو بهيمة كان له به أجر، ومن جهّز غازيًا فقد غزا.

فتنافسوا في أعمالِ البرّ، ولتكن هِممُكم عالية، فإنّ ثمّة أقوامًا يُدْعَوْن من كلّ أبواب الجنّة تعظيمًا لهم وتكريمًا لكثرة صيامهم وصلاتِهم وأفعالهم الخيِّرة، فيخيَّرون ليدخلوا من أيّ أبواب الجنّة شاؤوا، فلتكن الهِمَم عالية في المسابقة إلى الخيرات والمنافسة في الأعمال الصالحة، ليغتنمِ العبد ما فتِح له من هذه الأبواب من النوافل وفروض الكفايات.

فاتقوا الله تعالى، وبادروا حياتكم قبل فنائها، وأعماركم قبل انقضائها بفعل الخيرات والاكثار من الطاعات، فإن الفرص لا تدوم، والعوارض التي تحول بين الانسان وبين العمل غير مامونة، وأنت أيها العبد بين زمان مضى لا تستطيع رده، وزمان مستقبل لا تدري: هل تدركه أو لا؟ وزمان حاضر إن استفدت منه، وإلا ذهب منك وأنت لا تشعر، فاستدرك ما مضى بالتوبة مما فرطت فيه، واستغل حاضرك بإغتنام أيامه ولياليه، واعزم على الاستمرار في الطاعة فيما تدرك من مستقبلك يكتب لك ثواب نيتك إن لم تدركه، وتوفق إن أدركته لعمل ما نويته فيه.