المدنيـــة الزائفــــة

بسم الله الرحمن الرحيم

المدنيـــة الزائفــــة

يعيش أهل التوحيد اليوم معركة صراع قاسية، ويواجهون زحف حياة عصرية، وحضارة غربية مادية، ومدنية دنيّة، عارية عن القيم والأخلاق والآداب، اصطلى صانعوها بها، وذاقوا ويلاتها ودنياتها، ما هي إلا بلاء وشقاء، وشرور وفجور، وتمرد واضطراب، وهتك وفتك، وانتحار واختطاف، وإجهاض وشذوذ وإدمان. مدنية لا تفرق بين المشروع والممنوع، والنافع والضار، أسواقها لاغية، أنديتها لاهية، قلوب أهلها خاوية. مدنية خائبة، عاجزة عن حماية أفرادها، لم تستطع يوماً ما صون أعراضهم، أو حفظ كرامتهم، أو كفكفة دموعهم، أو إسعادهم في حياتهم، ضيق وضنك ونصب، غم وكرب، وذلك جزاء المعرضين عن شريعة رب العالمين ، وسائل ترفيه لا حصر لها، صنعت لتعالج أدواء القلق، وأخطار الأرق، فلم تستطع إلى ذلك سبيلاً ﴿كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ﴾ ، حضارة أنتجت واخترعت، فإذا هلاكها في ما صنعت، وإذا دمارها في ما أبدعت، تسابقت في اختراع وسائل تكدير وتعكير، وتسارعت في إيجاد وسائل إغواء وتدمير ﴿وَإِن يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ﴾ .

يقول جل في علاه: ﴿أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً﴾ ، وقال جل وعلا ﴿يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ﴾ ، تلك بعض خصائص مجتمعاتهم الكافرة، ومدنيتهم الفاجرة.

أيها المسلمون: واليوم يزحف العالم الكافر، بمدنيته وبليته إلى بلاد التوحيد، في محاولة مستميتة، لطمس معالم هويته الذاتية، وجره إلى تقليد الأنماط الغربية، في جميع النواحي الحياتية، العقدية والفكرية، والاجتماعية والأخلاقية ، يقول جل وعلا في كتابه المبين: ﴿وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً﴾ ﴿وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً﴾ ﴿وَدَّت طَّائِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ﴾ ، إنهم يودون ذلك، ويسعون إلى تحصيله وتحقيقه، بكل ما يستطيعون ﴿وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا﴾ ﴿وَلَن تَرْضَى عَنكَ اليَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ﴾ ، يقول جل في علاه لنبيه ومصطفاه محمد صلى الله عليه وسلم : ﴿وَإِن كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذاً لاَّتَّخَذُوكَ خَلِيلاً﴾ ، حقد دفين، وخوف رهيب، يملآن صدور أهل الكفر والعناد، ويدفعانهم إلى محاربة الإسلام، ومحاولة القضاء عليه وعلى أهله ﴿يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الكَافِرُونَ﴾ .

أيها المسلمون: لقد جنّد أعداء الإسلام كل ما وصلوا إليه من اختراع واصطناع لحرب الإٍسلام وأهله، وغزو بلاد المسلمين عقدياً وفكرياً، ليحكموا القبضة عليها، ويستولوا على مقومات الحياة فيها، حاصروا بلاد الإسلام بثورة إعلامية، وتقنية اتصال عالمية، وهاجموها بقنوات فضائية، شهوانية شيطانية، سم زعاف يقضي على الكرامة والعفاف، وريح عاصف، ومكر قاصف، وهجمة شرسة مستعرة، تتعرض لها أجيالنا الحاضرة، تُفجّر غرائزهم، وتدمر أخلاقهم، وتشيع الرذيلة في صفوفهم، وتجعلهم هائمين على وجوههم، يبحثون عن سبيل مشروع أو غير مشروع لتصريف ما أثير من شهواتهم.

وأغرقت أسواق المسلمين بكثير من المحرمات والمنكرات، ولم تسلم المرأة المسلمة من تلك الهجمة الحاقدة، فحاربوا حجابها وجلبابها، وسعوا في إغوائها وإغرائها، بما تصنعه دور الأزياء الخليعة، وبيوتات الموضة المنحلّة، ودعوها إلى الاختلاط، وجاءت الدعايات المضللة تدعو المسلمين إلى السياحة والترفيه في بلاد الكفر والفجور، بلاد خادعة للعقول، وغادرة للألباب، ليس فيها إلا مصائد هلاك، وفخوخ تلف، وحياة عابثة صاخبة. دعايات آثمة ، تبذل التسليات والمغريات، وتدفع الغوغاء والدهماء إلى تلك البلاد دفعاً، وتؤزهم إليها أزاً. وإن مما يذيب القلب كمداً أن يذهب بعض المسلمين إلى تلك البلاد بزوجاتهم وبناتهم وفلذات أكبادهم، ولا تسل عما يحدث بعد ذلك من الشرور وعظائم الأمور. كل ذلك ليسايروا ركب الحضارة المشؤوم، ويسلكوا درب المدنية المزعوم، إنها فتن مغرقة، وآثام موبقة، لا عاصم منها إلا التمسك الصادق بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم .

الخطبة الثانية :

الحمد لله

كيف تسير الأمة المسلمة إلى غازيها طواعية، كيف تنقاد إلى جزارها راضية، كيف تقتدي بعدوها في سلوكها وأخلاقها، ومعايير فهمها وتفكيرها، كيف ترغب عن تعاليم الإسلام، وما جاء به سيد الأنام محمد صلى الله عليه وسلم ، وتركن إلى تقليد الكفرة الفجرة. إن موارد الخسار، ومشارع البوار، إنما هي في طاعة الكفار والفجار، يقول جل وعلا: ﴿إِن تُطِيعُوا فَرِيقاً مِّنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ يَرُدُّوكُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ﴾ .

أيها المسلمون: إن الإسلام لم يمنع من أخذ المفيد من مخترعات هذه المدنية ومبتكراتها، وأبحاثها وتقنياتها، لكنه يرفض أمراضها المُدنِفة، وأسقامها المتلفة، التي تنجس كل من برز إليها، وتدنس كل من عبر عليها.

أيها المسلمون: ما فائدة حضارة ينحدر فيها مستوى الإنسان إلى العبودية لغير الله ليصبح عبد ديناره ودرهمه، عبد شهوته ومادته ، ويسقط في التعاسة والانتكاسة كما تعست وانتكست البشرية التي تسيطر عليها هذه المدنية المعاصرة، يقول رسول الهدى صلى الله عليه وسلم كما في (خ): «تعس عبد الدينار وعبد الدرهم وعبد الخميصة، إن أعطي رضي، وإن لم يعط سخط، تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش» إن من المؤسف حقاً أن يقف بعض من هم من جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا سماسرة للغرب، يتشدقون بتضخيمه وتعظيمه، ويدعون بكل صفاقة إلى تقليده واحتذاء أساليبه، معاول هدم وتخريب، ودعاة ضلال وتغريب، دعاة على أبواب جهنم، من أجابهم إليها قذفوه فيها. ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11) أَلاَ إِنَّهُمْ هُمُ المُفْسِدُونَ وَلَكِن لاَّ يَشْعُرُونَ﴾ .

أيها المسلمون: إن الواجب على جميع المسلمين رعاة ورعية أن يعلموا أصول هذه المدنية، ويقفوا على أهدافها وأدوائها، وأضرارها وسائر الخيوط المرتبطة فيها، وأن لا يستوردوا إلى بلادهم أو يدخلوا بيوتهم عادات سيئة، وأخلاقاً ذميمة، وسنناً جاهلية، صنعتها أيدي أعدائهم، لإضلالهم وإغوائهم، في (خ) يقول صلى الله عليه وسلم : «أبغض الناس إلى الله ثلاثة: ملحدٌ في الحرم، ومبتغٍ في الإسلام سنة الجاهلية، ومطّلِب دم امرئٍ بغير حق ليهريق دمه» .

أيها المسلمون: اعتزوا بدينكم، واحذروا الانجراف إلى الغاوية، أو السقوط في الهاوية، واحموا أنفسكم وأهليكم، ولوذوا بالله مما تحذرون، وارمقوا العواقب بمقلِ الفِكَر، وادرِعُوا لهذه الفتن بمدارع الحذر، فإن سهام إبليس نافذة، والقلب يتأثر بأدنى مؤثر، ويتكدر بأيسر مكدر، كما تتأثر العين بلطيف القذى، والمرآة بيسير الأذى.