المداومة على العمل الصالح

بسم الله الرحمن الرحيم

المداومة على العمل الصالح

فاتقوا الله فإن تقواه رأس الأمر كله، واعملوا بطاعته تفوزوا بمرضاته، واجتنبوا محارمه تنجوا من غضبه وعقابه، ولا تعودوا إلى الانغماس في معصيته، فإن الانغماس في المعاصي يوجب عذابَه، وقد ودَّعتم موسماً مباركاً عظيماً ، وامتنَّ ربكم على أهل هذه القبلة بفيض رحمته ورضوانه، وأعتق رقاباً قد أرَّقتها جرائر سيئاتها، فاستأثرت بالسعادة ونجت من الشقاوة، فهنيئاً لِمن فاز بجائزة ربه، ويا ويح من عاد بالخيبة والندامة.

أيها المسلمون: إن الشهورَ واللياليَ والأعوام مقاديرُ للآجال ومواقيتُ للأعمال، تنقضي حثيثاً وتمضي جميعاً، والموت يطوف بالليل والنهار، لا يؤخّر من حضرت ساعته وفرغت أيامه، والأيام خزائن حافظةٌ لأعمالكم، تُدعَون بها يوم القيامة، ﴿يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَراًّ﴾ ، ينادي ربكم: «يا عبادي، إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفِّيكم إياها، فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومنَّ إلا نفسه» رواه مسلم

عباد الله : ودعنا رمضان؛ فهنيئًا لمن زَكت فيه نفسُه، ورقّ فيه قلبُه، وتهذَّبت فيه أخلاقُه، وعظُمَت للخير فيه رغبتُه، هنيئًا لمن كان رمضانُ عنوانَ توبتِه وساعةَ إيابه وعودتِه ولحظةَ رجوعه واستقامتِه، هنيئًا لمن غُفِرت فيه زلّتُه، وأُقيلَت فيه عثرتُه، ومُحيت فيه خطيئته، وعفا عنه العفوُّ الكريم، وصفَح عنه الغفورُ الرحيم، هنيئًا لمن حقَّق جائزتَه ونال غنيمته، فأُعتِقت رقبتُه وفُكَّ أَسره، وفاز بالجنة وزُحزِح عن النار، جعلَنا الله جميعا منهم.

ويا ضيعةَ من قطَعه غافلاً ساهيًا، وطواه عاصيًا لاهيًا، وبدَّده متكاسِلاً متثاقِلاً متشاغِلاً. يا مَن أغوَته نفسه وألهاه شيطانه وضيّعه قرناؤه، لقد رحل شهركم بأعمالكم، وخُتم فيه على أفعالكم وأقوالكم.

عباد الله : إن استدامةَ أمر الطاعة وامتدادَ زمانها زادُ الصالحين وتحقيق أمل المحسنين، وليس للطاعة زمنٌ محدود، ولا للعبادة أجل معدود، بل هي حقّ لله على العباد، يعمرون بها الأكوان على مرّ الأزمان، وشهر رمضان ميدانٌ لتنافس الصالحين وتسابق المحسنين، يعملون بأنفسهم إلى الفضائل، ويمنعون عنها الرذائل.

أيها المسلمون: إن للقبول والربح في هذا الشهر علاماتٍ، وللخسارة والردّ أمارات، وإن من علامة قبول الحسنة فعلَ الحسنة بعدها، ومن علامة السيئة السيئة بعدها، فأتبعوا الحسنات بالحسنات تكن علامةً على قبولها، وأتبعوا السيئاتِ بالحسنات تكن كفارة لها ووقايةً من خطرها ﴿إِنَّ الحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ﴾ ، ويقول عليه الصلاة والسلام: «اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنةَ تمحُها، وخالق الناسَ بخلق حسن» رواه الترمذي

ومن عزم على العود إلى التفريط والتقصير بعد رمضان فالله حيّ لا يفنيه تداولُ الأزمان وتعاقب الأهلة، وهو يرضى عمن أطاعه في أي شهر كان، ويغضب على من عصاه في كلِّ وقت وآن، ومدار السعادة في طول العمر وحسن العمل، ومداومة المسلم على الطاعة من غير قصرٍ على زمان معيّن أو شهر مخصوص أو مكان فاضل من أعظم البراهين على القبول وحسن الاستقامة.

أيها المسلمون، إن انقضى موسمُ رمضان فإن الصيام لا يزال مشروعاً في غيره من الشهور، فقد سنَّ المصطفى صلى الله عليه وسلم صيام الاثنين والخميس، وقال: «إن الأعمال تعرض فيها على الله، وأحبُّ أن يُعرض عملي وأنا صائم» وأوصى نبيُّنا محمد صلى الله عليه وسلم أبا هريرة رضي الله عنه بصيام ثلاثة أيام من كل شهر، وقال: «صوم ثلاثة أيام من كل شهر صوم الدهر كله» متفق عليه

وأتبعوا صيام رمضان بصيام ست من شوال، يقول عليه الصلاة والسلام: «من صام رمضان ثم أتبعه ستاً من شوال كان كصيام الدهر» رواه مسلم ولئن انقضى قيام رمضان فإن قيام الليل مشروع في كل ليلة من ليالي السنة، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الله ينزل إلى السماء الدنيا كلَّ ليلة حين يبقى ثلث الليل الآخر، فيقول: من يدعوني فأستجيب له، من يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له و «أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل» والمغبون من انصرف عن طاعة الله، والمحروم من حُرم رحمةَ الله.

الخطبة الثانية :

الحمد لله :

أيها المسلمون: ذهب شهركم شاهدًا لكم أو عليكم، فاحتملوا زادًا كافيًا، وأعِدّوا جوابًا شافيًا، واستكثِروا في أعمارِكم من الحسنات، وتدارَكوا ما مضَى من الهفَوات، وبادروا فرصةَ الأوقات، قبلَ أن يناديَ بكم منادي الشتات ويفجَأكم هادم اللّذات، فعن جابر رضي الله عنه قال: سمعت النبيَّ صلى الله عليه وسلم وهو يَعِظ رجلاً ويقول له: «اغتنم خمسًا قبلَ خمسٍ: شبابَك قبل هرَمِك، وصحَّتَك قبل سقمَك، وغِناك قبل فقرك، وفراغك قبلَ شغلك، وحياتك قبل مَوتِك، فما بعد الدنيا من مستَعتَب، ولا بعد الدنيا دارٌ إلا الجنة أو النار» أخرجه الحاكم

أيّها المسلمون: توبوا إلى بارئكم قبل أن يشتملَ الهدم على البناء، والكدَر على الصفاء، وينقطع من الحياة حبلُ الرَّجاء، وقبل أن تخلُوَ المنازل من أربَابها، وتؤذِنَ الديار بخرابها، واغتَنِموا ممرَّ الساعاتِ والأيام والأعوام، وليحاسِب كلُّ واحدٍ منكم نفسه، فقد سعِد من لاحظها وحاسبها، وفازَ من تابعها وعاتَبها، وهلمّوا إلى دار لا يموت سُكّانها، ولا يخرَب بُنيانها، ولا يهرَم شَبَابها، ولا يتغيَّر حُسنُها، يقول النبيُّ صلى الله عليه وسلم : «من يدخلِ الجنة ينعم لا يبأس، لا تبلى ثيابُه ولا يفنى شبابُه» أخرجه مسلم

وكأنكم بالأعمال قد انقضت، وبالدنيا قد مضت، فاستعدّوا بذخائر الأعمال لما تلقَون من عظيم الأهوال، وقد آن وقتُ التحويل إلى الوقوف بين يدي الملك الجليل، فأنفاسكم معدودة، وملك الموت قاصدٌ إليكم، يقطع آثاركم ويخرّب دياركم، فرحم الله عبداً نظر لنفسه وقدَّم لغده من أمسه، فترحَّلْ من مواطن غيِّك وهلاكك إلى مواطن رشدِك وسدادك، ولا تغترَّ بكثرة الهالكين بزخارف الدنيا، ولا تستوحش من الحقّ لقلة السالكين.

يا عبدَ الله، استدرِك من العمر ذاهبًا، ودع اللهو جانبًا، وقم في الدُّجى نادِبًا، وقف على الباب تائبًا، فعند مسلم من حديث أبي موسى الأشعريّ رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم «إنَّ الله عزّ وجلّ يبسط يده بالليل ليتوبَ مسيء النهار، ويبسُط يدَه بالنهار ليتوبَ مسيء الليل، حتى تطلعَ الشمس من مغربها» .