الذكر الحسن

بسم الله الرحمن الرحيم

الذكر الحسن

أمّا بعد: فيا أيّها المسلمون، اتّقوا الله حقَّ تقاته، وسارعوا إلى مغفرته ومرضاته، وسابِقوا إلى رحمته وجنّاته

أيها المسلمون، لا خلودَ في دارِ الدنيا لأحَد، لكنّ الأعمال الجليلَة والآثار الجميلَة والسنَن الحسَنة تخلِّد ذكرَ صاحبها بين الناس، وتورثه في حياتهِ وبعدَ موتهِ ذكرًا وحمدًا وثناء ودعاءً.

كم من العلماء والفضلاء والعظَماء قد غيَّبهم الأجل وطواهم الموت ولازالت مآثرُهم وآثارُهم، وممادِحُهم ومفاخِرُهم، تبعَث في المجالس طيبًا وعَرفًا، يحمل الناس على عمل الخير وفعل الجميل والاقتداء الحسَن.

قد مات قوم وما ماتت مكـارمهم *** وعاشَ قوم وهم في الناس أموات

وبقاءُ الذّكر الجميل واستمرارُ الثناء الحسَن والصيتِ الطيب والحمدِ الدائم للعبد بعدَ رحيله عن هذه الدار نعمةٌ عظيمة يختصّ الله بها من يشاء مِن عباده ممن بذَلوا الخير والبرّ ونشروا الإحسان ونفعوا الخلق وجمعوا مع التقوى والصلاح مكارمَ الخصالِ وجميلَ الخلال، يقول جل في علاه: ﴿وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُوْلِي الأَيْدِي وَالأَبْصَارِ (45) إِنَّا أَخْلَصْنَاهُم بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ (46) وَإِنَّهُمْ عِندَنَا لَمِنَ المُصْطَفَيْنَ الأَخْيَارِ (47) وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الكِفْلِ وَكُلٌّ مِّنَ الأَخْيَارِ﴾ أي: شرف وثناءٌ جميل يُذكَرون به، وقال تعالى: ﴿وَوَهَبْنَا لَهُم مِّن رَّحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِياًّ﴾ ، قال ابن عباس رضي الله عنه: "يعني: الثناء الحسن".

وأرفعُ الناس قدرًا وأبقاهم ذكرا وأعظمُهم شرفًا وأكثرهم للخَلق نفعًا النبيُّ المعظَّم والرسول المكرَّم نبيُّنا وسيِّدنا محمّد صلى الله عليه وسلم ، الذي قال الله تعالى عنه: ﴿وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ﴾ .

قال أبو بكر بن عياش رحمه الله تعالى: "وأهلُ السنّة يموتون ويحيَا ذكرُهم، وأهل البدعة يموتون ويموتُ ذِكرهم؛ لأنّ أهلَ السنّة أحيَوا ما جاء به الرسولُ صلى الله عليه وسلم ، فكان لهم نصيبٌ من قوله تعالى: ﴿وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ﴾ وأهلُ البدعة شنَؤوا ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ، فكان لهم نصيبٌ من قوله تعالى: ﴿إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ﴾".

والإمام العادل القويّ الشجاع الذي يحمي الحوزة ويذبّ عن البيضة وينتصر لدينِه وعقيدته ،تراه معظَّمًا في النّفوس، كبيرًا في أعينِ النّاس، جليلاً عند أهلِ الإسلام، مُمَدَّحًا عند العلماء والمؤرخين. والعالم التقيّ المتواضِعُ للناس الذي يسعَى في نفعِهم وتعليمِهم والإحسانِ إليهم يعلُو في الأرض ذكرُه، ويرتفع في النفوس قدرُه، ويبقى بين الخلق أثره؛ لعلمه ودينِه واتّباعه للسنّة وإخلاصِه لله تعالى. والجواد الكريم السخيّ المعطاء الذي يعطِف على الفقراء ويرحَم المحتاجين ويشفِق على المساكين، فإنّ العامّة تضِجُّ بالدعاء له وذِكرِ محاسنه، ويُكتَب له قبولٌ تامّ وجاهٌ عريض. والعافُّ عن المحارِم الكافُّ عَن أعراضِ الناس الذي يبذُل الندى يكُفّ الأذى ويحتمل المشقّة ويرضِي الناسَ في غير معصية بأصالةِ رأي ورجاحَة عقل وسلامة قلب وعِفّةٍ في الفرج واليد واللسان، فذاك السيّد الوجيهُ الذي يقدَّم على الأمثال وتهابُه الرّجال ويَبقَى ذكرُه في الأجيال.

إذا شئتَ أن ترثِي فقيدًا من الورى *** وتدعو له بعـد النبِيّ المكرَّم

فلا تبكيَنّ إلا علـى فَقـد عـالمٍ *** يبـادِرُ بالتفهـيـم للمتعلِّـم

وفَقدِ إمـامٍ عـالِمٍ قـامَ ملكـه *** بأنوار حكم الشرع لا بالتحكّم

وفقد شجـاعٍ صـادقٍ في جهاده *** وقد كُسِرت رايتُـه في التقدُّم

وفقدِ كـريمٍ لا يَمـلّ من العطا *** ليطفئ بؤسَ الفقر عن كلّ معدم

وفَقـد تقـيٍّ زاهـدٍ مـتـورّعٍ *** مطيـعٍ لـربّ العالمين معظِّـم

فهم خمسة يُبكـى عليهم وغيرهم *** إلَى حيثُ ألقت رحلَها أمّ قشعَم

أوصى رجلٌ بنيه فقال: "يا بنيَّ، عاشروا الناسَ معاشرةً؛ إن غِبتم عنهم حنّوا إليكم، وإن متُّم بكوا عليكم". ويموت أناس فلا يُؤسَى على فراقهم ولا يحزن على فقدهم؛ فلم تكن لهم آثارٌ صالحة ولا أعمالٌ نافعة ولا إحسانٌ إلى الخَلق ولا بَذل ولا شَفَقَة ولا عَطف ولا رحمة ولا خُلُق حسن، يقول الله تعالى في أمثال هؤلاء: ﴿فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ﴾ ، لا يُرى لهم في الأرض شاكِر، ولا لهم بالخير ذاكر.

فالحقود الحَسود والجَموع المنوع والفاحِش البذيء وصاحب الظلم والكِبر والهوى والذي يعامل الناس بالغِلظة والقسوة والشدَّة يقطع الله الذّكر الحسَن عنه، ويبقى له البُغض في الأرض والذم من الخلق.

كم طامعٍ بالثنـا من غير بذل يـد *** ومشتـهٍ حمده لـكن بمجّـانِ

والناس أكيسُ من أن يمدحوا رجلاً *** حتى يـرَوا عنده آثـارَ إحسَانِ

أيّها المسلمون، الحبّ يسرِي والحمدُ يَبقى والثناء والدعاءُ يدوم لمن عمَّ نفعُه وشمِل عطاؤُه وإحسانه وتواصَل برُّه وخيره، فقدِّموا لأنفسكم من الآثارِ الطيّبة والأعمالِ الصالحة والقُرَب والطاعات والإحسان ما لا ينقطِع بها عَمل ولا تقِف معها أجور، مع تواصل الدعواتِ الصادقة لكم منَ المسلمين على مرّ الأيام والأعوام. اللهم اجعلنا مباركين أينما كنّا.

أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنبٍ وخطيئةٍ، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله :

وعند الإمام أحمد، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إذا أرادَ الله بعبدٍ خيرًا عسَله، فقيل: يا رسول الله، وما عسَله؟ قال: فتح له عملاً صالحًا بين يدَي موته؛ حتى يُرضِي عنه مَن حَوله» .

قال ابن قتيبة: "قوله: "عسَله" أراه مأخوذًا من العسل، شبّه العمل الصالح الذي يُفتَح للعبد حتى يرضى الناسُ عنه ويطيبَ ذكرُه فيهم بالعسل".

ومِن الأعمال الصالحة التي تُفتَح للموفَّقين فيرضَى الله بها عنهم ويُرضي بها خَلقَه ويلحقهم أجرها بعد الممات حبسُ النفس على التعليم وإقراء القرآن والتحديث ونشر العقيدة الصحيحة والتصدُّر للإفادةِ والتصنيف والتأليف وطباعة الكتبِ النافِعة وبناء المساجِد وسقي الماء وحفر الآبار وكثرة الصدقة وإدامَة البرّ والإحسان والشفقةُ على الضِّعاف وإعطاء المحروم وإنصاف المظلوم وقضاء الحوائج ومواساة الفقراء وإدخال السّرور على المرضى والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والنصيحة لأئمة المسلمين وعامّتهم والإصلاح بين المتخاصِمَين وجمع كلمةِ الأمّة على الخير والهدى والتقوى والصلاح، إلى غير ذلك من طرقِ الخير ووجوه البر.

فعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «سَبعٌ يجرِي للعبد أجرُهُنّ وهو في قبره بعد موته: مَن علّم علمًا، أو أجرى نهرًا، أو غرس نخلاً، أو بَنى مسجِدًا، أو ورَّث مصحفًا، أو تَرَك ولَدًا يستغفر له بعد موته» أخرجه أحمد.

أيّها المسلمون، والرَّجلُ حين يعامِل زوجَه وأولادَه بالرّفق والإحسانِ والشَّفَقَة والرحمة والمحبّة والعطف والبذلِ والكرَم يبقى محمودَ الذّكر بعدَ موته، والمرأةُ حين تحسِن إلى زوجِها وتحوطُه بالإكرامِ والاحترامِ يبقَى حبُّها في قلبهِ ويسري حمدُها على لسانِه، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: ما غِرتُ على أحدٍ من نساءِ النبي صلى الله عليه وسلم ما غِرتُ على خديجة، وما رأيتها، ولكن كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يُكثر ذكرَها، وربما ذبَحَ الشّاةَ ثم يقطِّعها أعضاء، ثم يبعثها في صدائق خديجة، فربما قلتُ له: كأن لم يكن بالدنيا إلا خديجة! فيقول صلى الله عليه وسلم : «إنها كانت وكانت، وكان لي منها ولد» أخرجه البخاري.

وعند الطبراني: وكان إذا ذكَر خديجة لم يَسأم مِن ثناءٍ عليها واستغفارٍ لها؛ فأعمالها الجليلة وصفاتها الحميدَة خلَّدت مكانتَها في نفس الرسولِ صلى الله عليه وسلم وقلبِه، فكان يكثِرُ ذكرَها وحمدَها والثناءَ عليها والدعاءَ لها.

أيّها المسلمون، والمؤمن لا يبذُل الخير اجتلابًا للمِدح، ولا رغبةً في الثناء، ولا طمعًا في الذكر، ولكن من بذَل الخير بنيّةٍ خالصة وقصدٍ حسن قَبِل الله سَعيَه، ووضَع له القبول والحبَّ بين عبادِه، ونشَر له الذّكرَ الحسن والثناء والدعاء في حياته وبعدَ مماته، فعن ابن عبّاس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «أهل الجنّة مَن ملأ الله أذنَيه من ثناءِ الناس خيرًا وهو يَسمَع، وأهلُ النار من مَلأ الله أُذنيه من ثناء الناس شرًا وهو يسمع» أخرجه ابن ماجه. جعلنا الله وإياكم من الموفَّقين الهداة المهتدين.