القرآن وآدابه

بسم الله الرحمن الرحيم

القرآن وآدابه

كانتِ البشريّةُ تعِيش في ظلامٍ دامِس ولَيل بهيمٍ، لعِبت بعقولِها انحرافاتٌ وخُرافات، حتى أكرَم الله هذه البَشريّةَ وأنزل علَيها القرآن؛ ليخرِجَها من الظلمات إلى النّور ومِن الخضوعِ للأوثان والأصنامِ إلى خضوعٍ كامِل للواحِد الديّان.

أنزل الله القرآنَ معجزةً خالِدة، وتحدَّى به الثّقلَين، فأذعَن لفصاحَتِه بلَغاؤُهم، وانبَهَر بأسرَارِه علماؤهم، وانقطَعَت حُجَج معارِضيه، وظهَر عَجزُهم، كيف لا وهو كلام الحكيمِ الخبير الذي لا يطاوِله كلام ولا يجاريه أسلوب؟! قولُ إيجازٍ وآياتُ إعجاز.

يسَّر ذكرَه للذاكرين، وسهَّل حِفظَه للدّارسين، فهو للقلوبِ ربيعُها وللأبصارِ ضياؤها، جعَله الله نورًا، وإلى النّور يهدِي، حقًّا وإلى الحقِّ يرشِد، وصِراطًا مستقيمًا ينتهي بسالِكيه إلى جنّةِ الخلد، لا تملُّه القُلوبُ، لا تتعَب من تلاوته، لاَ يخلَق معَ كثرةِ التّرداد.

القرآن دليلُ دربِ المسلمين، دُستور حياةِ المؤمِنين، عَمود الملّةِ، ينبوع الحكمة، آيَة الرِّسالة، نور الأبصار والبصائر، لا طَريقَ إلى الله سواه، ولاَ نجاةَ بغَيره، الجيلُ الأوّل في صدرِ الإسلام ساروا على نهج القرآن، فأصبَحوا خيرَ أمّةٍ أخرِجَت للناس، لم يكُن القرآن عندَهم محفوظًا في السّطور، بل كان مَكنونًا في الصّدور ومحفوظًا في الأخلاقِ والأعمال، يَسير أحدُهم في الأرضِ وهو يحمِل أخلاقَ القرآن وآدابَه ومبادِئَه.

يخبِر الربُّ تبارك وتعالى عن عَظمةِ القرآنِ وجَلاله، وأنّه لو خوطِب به صُمُّ الجبال لتصدَّعت من خَشيةِ الله ﴿لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا القُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُّتَصَدِّعاً مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ﴾ ، قرآن يخاطب النفس فتخشع، والقلب فيخضع، والروح فتقنع، والأُذُن فتسمع، والعين فتدمع، ولو نزل على صخر لتصدّع. له حلاوة وعليه طلاوة، لا يشبع منه العلماء، ولا يروى منه الحكماء، أفحم الخطباء، وأخرس الفصحاء، وأسكت الشعراء، وأدهش الأذكياء، وتحدّى العرب العرباء. قوة برهان، وإشراق بيان، ووضوح حجة، واستقامة محجّة، تتحاكم العقول إليه ولا يقاس أيّ كتاب إليه، حارَت الأذهان في وصفه، وعجبت البشرية من سبكه ورصفه، ﴿لاَ يَأْتِيهِ البَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ﴾، تلاوته تُذهب أحزانك، وتثير أشجانكَ،َ وترفع شأنك، وتُثقَل ميزانكَ، ، وتثبت إيمانك. مصاحبته تُذهب كل داء وتطرد كل بلاء، وتبيد كل شقاء، وتدفع كل ضرّاء وتُزيل كل بأساء وهو هُدًى وشفاء.

مُسَامَرَتُهُ حياة، واتباعه نجاة، واقتفاؤه صلاح، واتباعه فلاح والعمل به نجاح، قارئُه ينتظر الرحمات، ويرتقب البركات، وكل حرف بعشر حسنات، يبهر العقل، ويرفع الجهل، وهو فصل ليس بالهزل، حسن نظام، وجميل إحكام، هو كتاب الرحمة، ودستور الحِكمة، والطريق إلى كل نعمة، والصّارف لكل نقمة، أذهلَ العرب، هيمن على الكتب، أتى بالعجب، بيِّن حلاله وحرامه، وبديعة أحكامه، هو السّلوة في الغربة، والأنيس في الوحشة، والعزاء عن كل أحد، والجَلاء لكل ريب، والشفاء لكل مرض، والدّواء لكل داء، سمير وأنيس، صاحب وجليس، تلاوته أجر، وحروفه حسنات، ومُطالعته بركات، وتدبّره رحمات، والعمل به نجاة، والتحاكم إليه فلاح، والرضا به سعادة، والاستغناء به ثروة، ومصاحبته غنيمة، شافع مشفّع، هدىً لا ضلالة بعده، ونور لا ظلمة فيه، وشفاء لا سقم عنده، يُؤنسك في القبر، يحفظك في الحَشر، يُنجيك على الصِّراط، يُوصلك الجنة، يبعدك عن النار، يحميك من غضب الجَبّار، يُذهِب همّك، يجلو غمّك، يُزيل تعبك، يطرد نَصَبك، يشرح صدرك، يرفع ذِكرك، يُعلِي قدرك، هو قُرَّة العيون، وسَلوة القلوب، وبهجة النفوس، وحلية الأولياء، ومأدبة العلماء، يعصم من الغي، يحمي من الضلالة، يحصن من الجهالة، يمنع من الغواية، القرآن منهج حياة، ومشروع حضارة، ومُنطلق دعوة، ووثيقة إصلاح، وحلّ لمشكلات البشرية، وشفاء لأسقام الإنسانية، طُهر للضمائر، وعمارة للسّرائر، وهدى للناس، وبشرى للمؤمنين، ودعوة للعالم، وغيث لأهل الأرض، فيه قصة الإنسان، ومسيرة الخلق، وتوحيد الخالق، وصفات الرُّسُل، وخبر الملائكة، ونعيم الجنة، وعذاب النار، وخاتم الكتب، ومعجزة النبوّة، وأُعجوبة الدهر، ﴿كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ﴾ .

الخطبة الثانية:

الحمد لله :

ففي القرآن خبر القرون، وقصة فرعون وهامان وقارون ، وحديث ثمود وعاد، وإرم ذات العماد، وفيه ذكِر الأنبياء، وصفات الأولياء، وخاتمة الشهداء، ونعيم السعداء، وعذاب الأشقياء، ومصير الأبرار، ونهاية الفُجّار، وعد ووعيد، وبشارة وتهديد، وجنة ونار، وفوز وبوار، تحدّى بالذُّباب، وضرب المثل بالبعوضة، وشبّه بالعنكبوت، وتحدّث عن النّملة، وتعجز بالنحلة، وأهلَكَ بالناقة، وشبّه بالحمار

عباد الله : إنَّ تعظيمَ كلامِ الله تعظيمٌ لله ، قال النوويّ رحمه الله: "أجمع المسلِمون على وجوبِ تعظيمِ القرآنِ العزيزِ على الإطلاقِ وتنزِيهِه وصِيانتِه" ، قال القاضي عياض رحمه الله: "من استخفَّ بالقرآن أو بالمصحَف أو بِشيءٍ منه فهو كافِرٌ بإجماعِ المسلِمين" .

يعظم كتابُ اللهِ بحُسنِ التلاوة وتصديقِ الأخبارِ وامتثال الأوامِر واجتِنابِ النّواهي وبما شرَعَ الله لكم أن تعَظِّموه به. ,وإنَّ تعظيمَ كلام الله لَيس بتَزيينِه وتفخِيمِ طِباعته وكتابتِه، وليسَ بتعليقِه على جُدرانِ البيوت، وليس بقراءتِه على الأمواتِ، بل بإقامةِ حروفِه وحدودِه وتعظيمِ شأنِه والسَّير على منهاجِه ﴿كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ﴾ .

ومِن تعظيم كتابِ الله أن لاَ يقرَأَه الإنسانُ وهو جنُب، وأن لا يمَسَّ المصحفَ إلاّ على طَهارة؛ لأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم كتَب إلى عمرو بنِ حزم أن لا يمسَّ القرآنَ إلاّ طاهِر .

ومِن تعظيم القرآن أنّه لا يجوزُ الكلامُ فيه بِغير عِلم، يقول الإمام النوويّ رحمه الله: "ويحرُم تفسيرُه بغيرِ علمٍ والكلامُ في معانيه لمن لَيس من أهلِها، والأحاديثُ في ذلك كثيرةٌ، والإجماعُ منعقِد عليه، أمّا تفسيره للعلماء فجائِزٌ حسَن، والإجماع منعقِد عليه" .