التوكل على الله

بسم الله الرحمن الرحيم

التوكل على الله

عباد الله: إن الخلق مهما تباينت اتجاهاتهم،وتفرقت مذاهبهم، وتباعدت دياناتهم، و تغيرت طبقاتهم، إلا أنهم مفطورون على الفقر والاحتياج إلى الغير،  ولهذا تجد أن الناس غنيهم  و فقيرهم، شريفهم  و وضعيهم: لهم من يركنون إليه، ويستعينون به،  ويستشيرونه في أمورهم، ولو انعزل أحدهم عن الناس، لضاقت  به الدنيا، لأنه خالف الفطرة التي فطر الله الناس عليها.

ولقد نجح وأفلح وسعد، من كان افتقاره واعتماده وتوكله على الله تعالى، وخاب  وخسر من كان لجوؤه وتوكله على مخلوق ضعيف مثله.

عباد الله : إن التوكل لا ينا في الأخذ بالأسباب، ولقد قرن المصطفى صلي الله عليه وسلم  بين التوكل على الله تعالى والأخذ بالأسباب،  وطبق ذلك في حياته، فلقد كان يلبس لامة الحرب،ويطلب الرزق من مظانه، وينهى عن الاتكال المفظي إلى ترك العمل وإنكار الأسباب.

وإن المتأمل في أحوال الخلق،  يجد أنهم على ثلاثة أصناف.

الصنف الأول : من توكل على ربه،  وعلم أن الأخذ بالأسباب من تمام التوكل، وهؤلاء هم المتوكلون حقا.

الصنف الثاني : هم من ادعى التوكل، وترك العمل،  وعجز عن فعل السبب، وهؤلاء هم المتواكلون المخالفون للهدي النبوي.

الصنف الثالث : هم الذين ركنوا إلى الأسباب،  وأعرضوا عن التوكل على الله، وهؤلاء هم المشركون في التوكل والضالون طريق الصواب. عباد الله :  لقد كثر من بعض الخلق، الانكباب على الأسباب الظاهرة،  وجعلها هي الأصل،  فهم إلى  الأسباب الظاهرة يهرعون، وما ذاك إلا لضعف اليقين،   وقلة الدين، وإن في ذلك لقدح في العقيدة، و إضعاف لركائز التوحيد. عباد الله :  إن التوكل على الله هو دواء القلوب،  وهو الطمأنينة والراحة والأمان،  بل هو نسيان القلق والحرص، اللذين هما داء كثير من الناس في هذا الزمن،  ولقد أمر الله جل وعلا بالتوكل،  وأخبر انه يحب المتوكلين فقال سبحانه ﴿ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ ﴾ وبين سبحانه أنه المستحق للتوكل عليه وحده دون سواه،  لفقدان جميع الخلق أهلية التدبير  ﴿ وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ * الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُوم * وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ * إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾،  ولهذا كان التوكل لا يصرف إلا لمن بيده الملك كله،  فلا راد لأمره، ولا معقب لحكمه، ﴿ رَبِّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً ﴾. وأخبر سبحانه بأنه لا يضيع من توكل عليه ﴿ وَمَن يَّتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ ﴾ ﴿ وَكَفَى بِاللهِ وَكِيلاً ﴾.عباد الله : إن  التوكل شعار المؤمنين،  وعلى رأسهم الأنبياء والمرسلون،  ولهذا  جاء الأمر به في كتاب الله في أوجه مختلفة،  وسياقات متعددة،  ومناسبات متكاثرة، فقال سبحانه عن أنبيائه و رسله ﴿ وَمَا لَنَا أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا ﴾ وأخبر سبحانه  عن نبيه شعيب أنه لما كاده قومه وهموا بإخراجه قال ﴿ عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنَا ﴾ وهكذا نبي الله موسى كان يوصي قومه بالتوكل ﴿ وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِن كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِن كُنْتُم مُّسْلِمِينَ﴾ وقال سبحانه لنبيه محمد صلي الله عليه وسلم  ﴿ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ ﴾ ﴿ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ وَكَفَى بِاللهِ وَكِيلاً ﴾ وقال عن أصحاب نبيه صلي الله عليه وسلم ﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ﴾ وقال عن أوليائه  ﴿ رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ﴾  وقال في صفات المؤمنين ﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾ وقال في جزاء المتوكلين ﴿ وَمَا عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ﴾عباد الله : هذا هو التوكل على الله في حقيقته وأثره وجزائه وصفات أهله. إن المتوكل حقا هو من يعلم أن الله كافل رزقه وأمره، فيركن إليه وحده ولا يتوكل على غيره.  فاتقوا الله عباد الله وحاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوها قبل أن توزنوا. وتأهبوا للعرض على الله.

الخطبة الثانية

الحمد لله عليه يتوكل المتوكلون، وإليه يفزع المضطرون، وإليه يلجأ الخائفون،  لا إله الا هو،  لا شريك له في ملكه، ولا مانع لما أعطى، ولا معطي لما منع، وهو المتفرد بالأمر كله، سبحانه وبحمده،  واشهد أن  محمد عبده ورسوله، سيد المتوكلين، صلوات ربي وسلامه عليه، وعلى من تبعه  واستن بسنته إلى يوم الدين، أما بعد :

فياعباد الله إن التوكل عمل قبلي، فلنقطع آما لنا بالناس، ولنعلقها برب الناس، فالناس أسباب،  والله هو المسبب. و لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة فمن  تأمل سيرة المصطفى صلي الله عليه وسلم  رأى فيها صدق التوكل والثقة بالله،  وتفويض الأمر إليه. فقد أخرج  الترمذي  من حديث أنس كان رسول الله إذا غزا قال : « اللهم أنت عضدي ونصيري، بك احول وبك أجول وبك أصول وبك أقاتل » وكان من ذكر رسول الله صلي الله عليه وسلم  « اللهم لك أسلمت، وبك آمنت، وعليك توكلت »

أخرج (خ،م) من حديث أبي بكر قال : قلت للنبي  صلي الله عليه وسلم   ونحن في الغار، لو أن أحدهم نظر تحت قدميه لأبصرنا، فقال :  « يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما» ؟؟ لاإله إلاالله أين الجبناء،الذين يحسبون كل صيحة عليهم ؟ أين الضعفاء،الذين حفيت أقدامهم في طلب الدنيا ؟  عباد الله : إن التوكل على الله هو قطع  عن العلائق، ورفض التعلق بالخلائق، وإعلان الافتقار، إلى مقدر الأقدار، إن طلبتم النصر والتمكين فتوكلوا على الله ﴿ إِن يَنْصُرْكُمُ اللهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُم مِّنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ﴾، وإن تعرضتم للبلاء فافزعوا إلى التوكل ﴿ قُل لَّن يُّصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللهُ لَنَا هُوَ مَوْلاَنَا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾ وإن أردتم أن تنالوا محبة الله فعليكم بالتوكل ﴿ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ ﴾  التوكل هو زاد المتقين، وأنس الخائفين، والمعين على طاعة رب العالمين،  فحققوا التوكل على الله بصالح النية، وصادق العمل، وكمال الثقة بالله، وتعاطي الأسباب المشروعة، وهجر الوسائل الممنوعة، خذوا ما حل، واتركوا ما حرم،، واجتهدوا في صالح العمل، وتوبوا من التقصير والزلل. أيها المسلمون :  يقال هذا الكلام، والأمة تمر بأصعب المواقف،  وأخطر التحديات، يقال هذا الكلام، وقد رضي بعض المسلمين بالتبعية العمياء لأعداء الملة، يقال هذا الكلام، وقد طال ليل الطغيان، وادلهم ظلام العدوان، لكننا ننتظر صبحاً أبلجاً،  أساسه توحيد الله، وبنيانه التوكل على الله، ﴿ وَلَيَنصُرَنَّ اللهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ