نعمة الوضوء

بسم الله الرحمن الرحيم

نعمة الوضوء

عباد الله: إن من أوائل ما نزل على رسولنا صلى الله عليه وسلم من التشريعات قوله تعالى ﴿وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ﴾، والمقصود من الطهارة هنا كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله: "ثلاثة أنواع: الطهارة من الكفر والفسوق، فكما أن الكفار يوصفون بالنجاسة ﴿إِنَّمَا المُشْرِكُونَ نَجَسٌ﴾ فبعكسهم المؤمن، والطهارة من الحدث، والطهارة من النجاسات كلها "أ.هـ ولقد امتازت أمة الإسلام عن غيرها من الأمم بالطهارة والنظافة، حتى أن الطهارة من الأحداث تعادل نصف الإيمان، في صحيح (م) من حديث أبي مالك الأشعري يقول صلى الله عليه وسلم : «الطُّهور شطر الإيمان».

عباد الله: الوضوء هو النظافة والطهارة، فإذا تنظف المصلي صار وضيئاً مشرقاً، مقبلا على الله. والوضوء فريضة لازمة على كل مسلم، يقول سبحانه ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى المَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الكَعْبَيْنِ﴾ ، وإن أعظم ما شُرِع له الوضوء: الصلاة، عند (م) يقول صلى الله عليه وسلم : «لا يقبل الله صلاة بغير طهور»، وفي ( خ م ) يقول صلى الله عليه وسلم : «لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ».

عباد الله: وإن من رحمة الله تعالى بنا: أن شرع لنا من العبادات ما يكون سببا لتكفير السيئات عنا، وإن الإنسان لا يمكن أن يُصدر أي عمل إلا من أحد أربعة مواضع: الوجه واليدان، والرأس والرجلان، فحواس الإنسان تجتمع في هذه المواضع، وقد جاء الوضوء ليكون مُكفراً لكل ما يصدر من هذه الأعضاء، فروى ( م ) عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إِذَا تَوَضَّأَ الْعَبْدُ الْمُسْلِمُ - أَوِ الْمُؤْمِنُ - فَغَسَلَ وَجْهَهُ، خَرَجَ مِنْ وَجْهِهِ كُلُّ خَطِيئَةٍ نَظَرَ إِلَيْهَا بِعَيْنَيْهِ مَعَ الْمَاءِ - أَوْ مَعَ آخِرِ قَطْرِ الْمَاءِ -، فَإِذَا غَسَلَ يَدَيْهِ خَرَجَ مِنْ يَدَيْهِ كُلُّ خَطِيئَةٍ كَانَ بَطَشَتْهَا يَدَاهُ مَعَ الْمَاءِ - أَوْ مَعَ آخِرِ قَطْرِ الْمَاءِ -، فَإِذَا غَسَلَ رِجْلَيْهِ خَرَجَتْ كُلُّ خَطِيئَةٍ مَشَتْهَا رِجْلاَهُ مَعَ الْمَاءِ - أَوْ مَعَ آخِرِ قَطْرِ الْمَاءِ - حَتَّى يَخْرُجَ نَقِيًّا مِنَ الذُّنُوبِ».

وروى (م) أيضاً عن عثمان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «منْ تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ خَرَجَتْ خَطَايَاهُ مِنْ جَسَدِهِ حَتَّى تَخْرُجَ مِنْ تَحْتِ أَظْفَارِهِ».

عباد الله: إذا جاء يوم القيامة، واختلطت الأمم، امتازت أمة محمد صلى الله عليه وسلم بالوضوء، فخرّج (م) عَنْ أَبِى حَازِمٍ قَالَ: كُنْتُ خَلْفَ أَبِى هُرَيْرَةَ وَهُوَ يَتَوَضَّأُ لِلصَّلاَةِ، فَكَانَ يَمُدُّ يَدَهُ حَتَّى تَبْلُغَ إِبْطَهُ، فَقُلْتُ لَهُ: يَا أَبَا هُرَيْرَةَ مَا هَذَا الْوُضُوءُ؟ فَقَالَ: يَا بَنِى فَرُّوخَ، أَنْتُمْ هَا هُنَا، لَوْ عَلِمْتُ أَنَّكُمْ هَا هُنَا مَا تَوَضَّأْتُ هَذَا الْوُضُوءَ، سَمِعْتُ خَلِيلِى –صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «تَبْلُغُ الْحِلْيَةُ مِنَ الْمُؤْمِنِ حَيْثُ يَبْلُغُ الْوَضُوءُ». وفي (حم) عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «أنا أول من يؤذن له بالسجود يوم القيامة، وأنا أول من يؤذن له أن يرفع رأسه، فأنظر إلى بين يديَّ، فأعرف أمتي من بين الأمم، ومن خلفي مثل ذلك، وعن يميني مثل ذلك، وعن شمالي مثل ذلك ، فقال له رجل: يا رسول الله، كيف تعرف أمتك من بين الأمم، فيما بين نوح إلى أمتك؟ قال: هم غر محجّلون من أثر الوضوء، ليس أحد كذلك غيرهم، وأعرفهم أنهم يؤتون كتبهم بأيمانهم، وأعرفهم يسعى بين أيديهم ذريتهم».

عباد الله: الوضوء سبب لتكفير الذنوب والخطايا، فعند ( م ) عن عثمان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَا مِنِ امْرِئٍ مُسْلِمٍ تَحْضُرُهُ صَلاَةٌ مَكْتُوبَةٌ، فَيُحْسِنُ وُضُوءَهَا وَخُشُوعَهَا وَرُكُوعَهَا، إِلاَّ كَانَتْ كَفَّارَةً لِمَا قَبْلَهَا مِنَ الذُّنُوبِ، مَا لَمْ يُؤْتِ كَبِيرَةً وَذَلِكَ الدَّهْرَ كُلَّهُ».

والصلاة مفتاح الجنة، ومفتاح الصلاة الوضوء، يقول صلى الله عليه وسلم كما عند (حم ت ): «مفتاح الجنة الصلاة، ومفتاح الصلاة الوضوء». بل إن الوضوء وحده موجب لفتح أبواب الجنة الثمانية، يتخير أيّها شاء، كما صحّ ذلك عند (م).

عباد الله: الشيطان خلق من نار، والنار إنما تطفأ بالماء، ولأجل ذا شرع الوضوء في المواضع التي يشعِلها الشيطان أو يحضرها، فالوضوء يخمد ثوران النفس، عند (حم) يقول صلى الله عليه وسلم : «إذا غضب أحدكم فليتوضأ». ألم تروا إلى ما يصاحب أصحاب الإبل من الخُيلاء والأنفة والكبر، ولهذا أُمر المصلي أن يتوضأ من لحوم الإبل.

عباد الله: إن شأن الوضوء أعظم من ذلك، هو طارد للشيطان، مُنْه لدابره، فإذا أراد النائم أن يرتاح في نومه فعليه أن يتوضأ، في (خ م) يقول الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ قال رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إِذَا أَخَذْتَ مَضْجَعَكَ فَتَوَضَّأْ وُضُوءَكَ لِلصَّلاَةِ، ثُمَّ اضْطَجِعْ عَلَى شِقِّكَ الأَيْمَنِ، ثُمَّ قُلِ: اللَّهُمَّ إِنِّى أَسْلَمْتُ وَجْهِى إِلَيْكَ .. إلخ الدعاء».

فإذا نام الإنسان على غير وضوء، فإن نومه مجال للشيطان يلعب به ويشوش، فإن استيقظ النائم فبدأ بالوضوء أفسد على الشيطان كل ما صنع، يقول صلى الله عليه وسلم كما في (خ م) : «يَعْقِدُ الشَّيْطَانُ عَلَى قَافِيَةِ رَأْسِ أَحَدِكُمْ ثَلاَثَ عُقَدٍ إِذَا نَامَ، بِكُلِّ عُقْدَةٍ يَضْرِبُ: عَلَيْكَ لَيْلاً طَوِيلاً، فَإِذَا اسْتَيْقَظَ فَذَكَرَ اللَّهَ انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ، وَإِذَا تَوَضَّأَ انْحَلَّتْ عُقْدَتَانِ، فَإِذَا صَلَّى انْحَلَّتِ الْعُقَدُ الثلاث، فَأَصْبَحَ نَشِيطًا طَيِّبَ النَّفْسِ، وَإِلاَّ أَصْبَحَ خَبِيثَ النَّفْسِ كَسْلاَنَ». ولا غرو – عباد الله – إن فرط النائم في هذه الأمور، أن يبول الشيطان في أذنيه، فلما أُخبر صلى الله عليه وسلم عن رجل نام حتى أصبح قال : «ذَاكَ رَجُلٌ بَالَ الشَّيْطَانُ فِى أُذُنَيْهِ».

الخطبة الثانية:

الحمد لله:

عباد الله: شرع الوضوء في مواضع كثيرة، فلا يمس القرآن إلا طاهر، ولا يطوف بالبيت محدث، وإذا كان الإنسان جنباً فأراد أن يأكل، فيسن له أن يتوضأ، تقول عائشة كما في (م) قال صلى الله عليه وسلم : «إذَا أَتَى أَحَدُكُمْ أَهْلَهُ ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَعُودَ فَلْيَتَوَضَّأْ».

العين حق، ومن عان أخاه فليتوضأ له، في موطأ الإمام مالك: «لما اغْتَسَلَ سَهْلُ بْنُ حُنَيْفٍ بِالْخَرَّارِ، فَنَزَعَ جُبَّةً كَانَتْ عَلَيْهِ، وَعَامِرُ بْنُ رَبِيعَةَ يَنْظُرُ، وَكَانَ سَهْلٌ رَجُلًا أَبْيَضَ حَسَنَ الْجِلْدِ، فَقَالَ لَهُ عَامِرُ بْنُ رَبِيعَةَ: مَا رَأَيْتُ كَالْيَوْمِ، وَلَا جِلْدَ عَذْرَاءَ!! قَالَ فَوُعِكَ سَهْلٌ مَكَانَهُ، وَاشْتَدَّ وَعْكُهُ، فَأُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأُخْبِرَ أَنَّ سَهْلًا وُعِكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : عَلَامَ يَقْتُلُ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ؟ أَلَّا بَرَّكْتَ، إِنَّ الْعَيْنَ حَقٌّ، تَوَضَّأْ لَهُ ، فَتَوَضَّأَ لَهُ عَامِرٌ، فَرَاحَ سَهْلٌ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَيْسَ بِهِ بَأْسٌ».

عباد الله: إن من حافظ على الوضوء في كل يوم وليلة، فإنه جدير أن يتصف بالإيمان، قال صلى الله عليه وسلم - كم عند (حم) : «اسْتَقِيمُوا وَلَنْ تُحْصُوا، وَاعْمَلُوا وَخَيْرُ أَعْمَالِكُمْ الصَّلَاة،ُ وَلَا يُحَافِظُ عَلَى الْوُضُوءِ إِلَّا مُؤْمِنٌ».

والوضوء عبادة، وكل عبادة لابد أن تؤخذ عن النبي صلى الله عليه وسلم ، فمن نقص فيه عن صفته فقد أخطأ، ومن زاد فقد تعدى، يقول عبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو: رَجَعْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ، حَتَّى إِذَا كُنَّا بِمَاءٍ بِالطَّرِيقِ، تَعَجَّلَ قَوْمٌ عِنْدَ الْعَصْرِ فَتَوَضَّئُوا وَهُمْ عُجَالٌ، فَانْتَهَيْنَا إِلَيْهِمْ وَأَعْقَابُهُمْ تَلُوحُ لَمْ يَمَسَّهَا الْمَاءُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم :«وَيْلٌ لِلأَعْقَابِ مِنَ النَّارِ، أَسْبِغُوا الْوُضُوءَ».

عباد الله: توضأ النبي صلى الله عليه وسلم وغسل أعضاءه مرة مرة، وتوضأ أخرى فغسلها مرتين مرتين، وتوضأ ثالثة فغسل ثلاثاً ثلاثاً، فمن زاد عن الثلاث فقد خالف السنة، جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَسْأَلُهُ عَنْ الْوُضُوءِ، فَأَرَاهُ الْوُضُوءَ ثَلَاثًا ثَلَاثًا، ثُمَّ قَالَ: «هَكَذَا الْوُضُوءُ، فَمَنْ زَادَ عَلَى هَذَا فَقَدْ أَسَاءَ وَتَعَدَّى وَظَلَمَ».

عباد الله: إن هذا الوضوء الذي يتجدد على المرء في يومه وليلته، يذكرنا بنعمة عظمى منَّ الله بها على عباده، وهي نعمة الطَّهور ﴿وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُوراً﴾ ﴿وَجَعَلْنَا مِنَ المَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلاَ يُؤْمِنُونَ﴾ ، أُنزل الماء ليكون رِيّاً للظمآن، وإنباتاً للزرع، وإدراراً للضرع، وتطهيراً للأبدان، وجمالاً للمنظر، ألم تروا أن البلد إذا أجدب من المطر والغيث؛ ذهب عنه نوره وبهاؤه.

فاتقوا الله عباد الله: وواظبوا على ما أمركم، تفوزوا وتفلحوا.