كلمة التوحيد (1)

بسم الله الرحمن الرحيم

كلمة التوحيد (1)

لأجل تحقيق العبودية لله وحده، خُلقت الخليقة، وأُرسلت الرسل، وأنزلت الكتب، وشرعت الشرائع، وفيها افترق الناس إلى مؤمنين وكفار، وسعداء وأشقياء. فتحقيق العبودية لله وحده هو أصل الدين وأساسه ورأس أمره.

"لا إله إلا الله" موقعُها من الدين فوق ما يصفه الواصفون، ويعرفه العارفون، كلمةٌ جليلة، ذات فضائل عظيمة، ومزايا جمّة، لها من المكانة ما لا يخطر ببال، ولها من المزايا ما لا يدور في خيال.

هي زبدة دعوة الرسل وخلاصة رسالتهم ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ﴾ ، وقال عز وجل ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ﴾ .

"لا إله إلا الله" هي العروة الوثقى التي من تمسَّك بها نجا وربح، ومن أخلّ بها هلك وخسر ﴿فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الوُثْقَى﴾ .

كلمة التوحيد هي منتهى الصواب وغايتُه، وأفضل الكلم وأجلُّه، قال جل وعلا ﴿يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفاًّ لاَّ يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَاباً﴾ ، قال ابن عباس رضي الله عنه: الصواب: لا إله إلا الله .

"لا إله إلا الله" هي أفضل الحسنات، وأجلُّ القربات ، "لا إله إلا الله" أفضلُ الأعمال ، في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، في يوم مائة مرة كانت له عدل عشر رقاب، وكتب له مائة حسنة، ومُحي عنه مائة سيئة، ولم يأت أحد بأفضل مما جاء به، إلا أحد عمل أكثر من ذلك» .

"لا إله إلا الله" نجاة لقائلها من النار، ففي صحيح مسلم «أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع مؤذناً يقول: الله أكبر الله أكبر، فقال رسول صلى الله عليه وسلم : على الفطرة، ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن لا إله إلا الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : خرج من النار» .

وفي الصحيحين من حديث عتبان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله حرم على النار من قال: لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله» .

"لا إله إلا الله" هي أفضل الذكر وأعظمه، جاء في الترمذي بسند حسن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أفضل الذكر لا إله إلا الله، وأفضل الدعاء الحمد لله» .

من قالها خالصاً من قلبه كان من أسعد الناس بشفاعة محمد صلى الله عليه وسلم ، في صحيح البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: يا رسول الله، من أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لقد ظننتُ ـ يا أبا هريرة ـ أن لا يسألني عن هذا الحديث أحد أوَّل منك لما رأيت من حرصك على الحديث، أسعدُ الناس بشفاعتي من قال: لا إله إلا الله خالصاً من قلبه» .

عباد الله: ومع هذه الأجور الكريمة والفضائل العظيمة والثمار النافعة في الدنيا والآخرة فلا بدّ أن يعلم المسلم أن "لا إله إلا الله" لا تُقبل من قائلها بمجرّد نطقه لها باللسان فقط، بل لا بد من أداء حقها وفرضها، واستيفاء شروطها الواردة في الكتاب والسنة .

جاء عن الحسن البصري رحمه الله أنه قيل له: إن ناساً يقولون: من قال: لا إله إلا الله دخل الجنة!! قال: "من قال: لا إله إلا الله فأدى حقها وفرضها دخل الجنة" .

وقال الحسن للفرزدق وهو يدفن امرأته: "ما أعددت لهذا اليوم؟" قال: شهادة أن لا إله إلا الله منذ سبعين سنة، فقال الحسن: "نِعم العدّة، لكن لـ"لا إله إلا الله" شروط، فإياك وقذف المحصنات" .

"لا إله إلا الله" لا تنفع إلا من عرف مدلولَها نفياً وإثباتاً، واعتقد ذلك وعمل به، فمن قالها وهو يصرف أنواعاً من العبادة لغير الله ، فهو مشرك بالله العظيم ولو نطق بـ"لا إله إلا الله".

"لا إله إلا الله" معناها الحقّ: لا معبود بحق إلا الله ، إن كلمة "لا إله إلا الله" ليست اسمًا لا معنى له، أو قولاً لا حقيقة له، أو لفظاً لا مضمون له، أو أن معناها هو إثبات الربوبية فقط، بل هي اسم لمعنى عظيم، وقولٌ له معنى جليل، هو أجلُّ من جميع المعاني في هذه الدنيا، وحاصله البراءة من عبادة كل ما سوى الله، والإقبال على الله وحده طمعاً ورغباً، إنابة وتوكلا، هيبة له وإجلالاً، محبة وخوفاً، رجاءً وتوكلا، دعاءً وطلباً، فصاحب "لا إله إلا الله" لا يسأل إلا الله، صاحب "لا إله إلا الله" لا يستغيث إلا بالله، لا يتوكَّل إلا على الله، لا يرجو غير الله جل وعلا، لا يذبح إلا لله، لا يصرف شيئاً من العبادة والخضوع والتذلل إلا لله وحده، مع الكفر بجميع ما يُعبد من دون الله، فالله جل وعلا يقول لسيد الموحدين وأفضل العالمين نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ﴿قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَّهُ الدِّينَ﴾ .

عباد الله: الموحِّد لله المحقِّق للمعنى الحق لكلمة التوحيد، مشاعر قلبه وخلجات ضميره مرتبطة بربه، مؤتمرة بأوامره، منتهية عن نواهيه، يقف عند حدوده منتصبَ القامة مرتفع الهامة، رضاه في رضا ربه، وسخطه في سخط إلهه، حياته وآخرته حركاته وسكناته تعني الدينونةَ الكاملة لله وحده في الأمور كلها، كما قال الله جل وعلا لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم ﴿قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ (162) لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ المُسْلِمِينَ﴾ .

الخطبة الثانية:

الحمد لله:

ليس إلا رابطة التوحيد جامعاً للقلوب المختلفة، ومؤلفاً بين الشعوب الإسلامية المتنافرة. جامعة التوحيد تتضاءل أمامها الشعارات القبلية والدعوات العنصرية والانتماءات الحزبية، وبها تتلاشى كل دعاوًى جاهلية، فالولاء لله ولرسوله، والأخوة بين الأمة أخوة إيمانية، والدين مصدر القوة والعزة، والتوحيد مناط الكرامة وحصن المنعة.

إن العالم يموج بموجاتٍ من الظلم والجور والفساد، وبألوان من الشهوات والملذات، انهيارٌ للقيم العالية والأخلاق النبيلة، تقاتلٌ على المصالح الخاصة والأنانيات المستحكمة، حروبٌ تستشري وأمراض تسري، مما تزداد الإنسانية معه كآبة وتحسُّرا.

إنه لا بد أن تستيقن الأمة أنه لا حياة لها إلا بعقيدة التوحيد الخالص، بقاؤها مرهون بالحفاظ عليه، وفناؤها راجع إلى التفريط في مضامينه وحقائقه. تدوم أمة الإسلام بدوام التوحيد في قلوبها، وسريانه في واقعها، وتضمحلّ باضمحلاله من نفوسها وزواله من حياتها، والدين بحقائقه ومضامينه هو المنهج الأوحد الذي يرفع الأمة عن مهاوي الرذيلة إلى مشارف الفضيلة، وهو الذي ينقلها من الذل والاستعباد والتبعية إلى العزة والكرامة وصحيح الحرية.

معاشر المؤمنين، إن الحياة البشرية لا تصلح ولا تستقيم ولا ترتفع ولا تصبح لائقة بالإنسان إلا بـ"لا إله إلا الله"، وتطبيقِها في الحياة كلها، وبجوانبها جميعاً.

عباد الله : لا يرتفع شقاءٌ عن الأمة ولا يزول همّ وغمّ يقع بها كما هو الآن إلا حين تستلهم منهجَ حياتها من "لا إله إلا الله"، وتنقاد ظواهرها وبواطنها بحقيقة هذه الكلمة في جميع أمورها.

فيا أيها المسلمون، متى تراجع الأمة أوضاعَها؟! متى تستفيق من غفلتِها؟! متى تعلم أنها قد أسرفت على نفسها كثيراً بالبعد عن منهج الله وعن منهج رسوله صلى الله عليه وسلم ؟! متى يفيق قومٌ بنوا نظامهم الاقتصادي على الربا، وأقاموا نظامهم القضائي على غير شرع الله، ؟! وإلى متى الاستغراق الكامل في الأهواء والشهوات، والتسمك بالقشور والماديات؟! فنبينا محمد صلى الله عليه وسلم لم يألُ جهداً حين قال: «تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد الخميصة، تعس عبد القطيفة» أخرجه البخاري

عباد الله : إياكم والتخلي عن جانب من جوانب هذا الدين، أو التشكيك فيه أو الانفصال عن دوحته المباركة، فتلك الخسارة التي ما بعدها خسارة، ولن تنال الشرفَ بغير هذا الدين، ولن ترتقي إلى العز بغيره سلما.