سنة الابتلاء

بسم الله الرحمن الرحيم

سنة الابتلاء

عندَما يَنزِل البَلاء، وتحُلّ المِحَن، وتدلهمّ الخطوب، وتَعُمّ الرزايا؛ تَضطرِب أفهامُ فَريقٍ مِنَ النّاس، وتلتاثُ عُقولُهم، وتطيش أحلامُهم، فإذَا بِهم يذهَلون عَن كثيرٍ منَ الحقّ الذي يَعلَمون، ويَنسَون منَ الصّواب ما لا يجهَلون، هنالك تقَع الحَيرة، وتُتَّبع الظّنون وما تهوى الأنفس، ويُحكَم على الأمورِ بغير علمٍ ولا هدًى ولا كتاب منير، ففي غَمرةِ الغفلةِ يَنسَى المرءُ أنَّ سنةَ الله في الابتلاءِ مَاضيةٌ في خَلقِه، وأنَّ قضاءَه عدل فيهم، وكيفَ ينسَى ذلك وهو يَتلو كتابَ ربِّه حيث قال سبحانَه: ﴿الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الكَاذِبِينَ﴾ ، ثم ليعلم العبد إن الله لم يقدر عليه المصائب ليهلكه بها ولا ليعذبه، وإنما ابتلاه ليمتحن صبره ورضاه وشكره وابتهاله ودعاءه، قال ابن القيم: ومما يتسلى به المصاب الصبر على البلوى فإن الصبر جواد لا يكبو، وصارم لا ينبو، وجند غالباً لا يهزم، وحصن حصين لا يهدم، فالنصر والصبر أخوان شقيقان، وقد مدح الله في كتابه الصابرين فقال ﴿وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُهْتَدُونَ﴾ ، ومما يتسلى به المصاب أن يعلم إن الدنيا دار بلاء وامتحان ، فهي إن أضحكت قليلاً أبكت كثيراً، وأن سرت يوماً أحزنت شهوراً، وإن أعطت يسيراً منعت كثيراً، فلا يبقى لها حبور، ولا يدوم فيها سرور، قال تعالى ﴿اعْلَمُوا أَنَّمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ﴾ ، قال ابن الجوزي رحمه الله: ولولا أن الدنيا دار ابتلاء، لم تخلق الأمراض والأكدار، ولم يضيق العيش على الأنبياء والأخيار، ولقد لزق بهم البلاء وعدموا الراحة، فآدم يعاني المحن إلى أن خرج من الدنيا، وإبراهيم يكابد النار وذبح الولد، ويعقوب يبكي حتى ذهب البصر، وموسى يقاسي فرعون ويلقى من قومه المحن، وعيسى لا مأوى له إلا البر، في العيش الضنك، ومحمد صلى الله عليه وسلم يصابر الفقر وفراق الزوجة وقتل من يحبه. وهذا ابن عباس رضي الله عنه نعي إليه أخوه قثم وهو في سفر فأسترجع ثم تنحى عن الطريق، فأناخ ثم صلى ركعتين، فأطال فيها الجلوس ثم قام يمشي إلى راحلته وهو يقول: ﴿وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ﴾ ومما يتسلى به المصاب أن يجعل مكان الأنين والشكوى إلى الخلق، ذكر الله تعالى والاستغفار والشكوى إلى الله الواحد القهار، وقد رأى أحد الصالحين أخاه يشكو إلى الخلق فقال له: يا هذا ما زدت على إن شكوت من يرحمك إلى من لا يرحمك.

فالابتلاء يزيد رجال الإيمان نضوجاً وصلابة، والدعاةَ الصادقين عمقاً وثباتاً، وأما الكاذبون فيختبرهم سبحانه ليعيدهم إلى الإيمان تائبين متذكرين نادمين، فإن لم يتوبوا ولم يتذكروا عراهم أمام الناس وخلص صفوف المؤمنين منهم.

عباد الله: ومما يتسلى به المصاب أن يعلم أن المصائب والشدائد تمنع من الفخر والخيلاء والتكبر ، فإن النمرود لو كان فقيراً سقيماً فاقد السمع والبصر لما حاج إبراهيم في ربه، ولو ابتلي فرعون بمثل ذلك لما قال ﴿أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى﴾ فمن رحمة الله أنه يرعى عبده كل حين بأنواع من أدوية المصائب تكون حمية له من أدواء العجب والتكبر حفاظاً لصحة عبوديته ، حتى إذا هذبه ونقاه وصفاه أهّله لأشرف المراتب في الدنيا، ورقاه إلى أرفع ثواب الآخرة وهو رؤيته في الجنة.

ومما يتسلى به المصاب أن يعلم أن المصائب تتفاوت، فأعظم المصائب مصيبة المسلم في دينه وتحوله عنه، ورجوعه إلى المعصية بعد الطاعة، وإلى الغفلة بعد الذكر. وإذا رأيت انساناً لا يبالي بما أصابه في دينه، من ارتكاب الذنوب والخطايا وفوات الجمعة والجماعات، وأوقات الطاعات فأعلم أنه ميت لا يحس بألم المصيبة .

قال شريح: إني لأصاب بالمصيبة فأحمد الله عز وجل أربع مرات أحمده إذ لم تكن أعظم مما هي، وأحمده إذ رزقني الصبر عليها، وأحمده إذ وفقني للاسترجاع لما أرجو منه من الثواب، وأحمده إذا لم يجعلها في ديني.

وليتدبر المصاب عز الربوبية وذل العبودية ، فالمصيبة تذكر العبد بذنوبه وتزيل قسوة القلب وترجع العبد إلى الله ليقف ببابه ويتضرع إليه ويستكين، وقد ذم سبحانه من لم يتضرع إليه وقت البلاء كما قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُم بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ﴾ ، وليعلم المصاب أن الله إذا أحب قوماً ابتلاهم ، فعند (حم،ت) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أشد الناس بلاءً: الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل يبتلي الرجل على حسب دينه، فإن كان دينه صلباً اشتد بلاؤه وإن كان في دينه رقه ابتلي على حسب دينه، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض ما عليه خطيئة» قال بعض السلف: لولا مصائب الدنيا لوردنا الآخرة من المفاليس .

الخطبة الثانية:

الحمد لله:

فإنه لا يمر يوم من الأيام، إلا ويحل في الخلق من المصائب ما الله به اعلم، كالفقر والمرض والموت والهموم والظلم و الضوائق النفسية و الاجتماعية، وغلاء الأسعار، وقلة المال، وشح الأمطار، وغزو الغبار، وغيرها فعلينا إن نستقبل ذلك راضين محتسبين ليبرد مر المصيبة ولترفع بها عند الله الدرجات وتحط السيئات.

قال الشيخ محمد بن صالح بن عثيمين رحمه الله: "الناس حال المصيبة على مراتب أربع:

المرتبة الأولى: التسخط، وهو على أنواع: النوع الأول: أن يكون بالقلب، كأن يتسخّط على ربه يغتاظ مما قدره الله عليه، فهذا حرام وقد يؤدي إلى الكفر، قال تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ﴾ النوع الثاني: أن يكون التسخّط باللسان، كالدعاء بالويل والثبور وما أشبه ذلك، وهذا حرام. النوع الثالث: أن يكون التسخّط بالجوارح، كلطم الخدود وشق الجيوب ونتف الشعور وما أشبه ذلك، وكل هذا حرام مناف للصبر الواجب. المرتبة الثانية: الصبر، وهو كما قال الشاعر:

والصبرُ مثلُ اسمه مُرٌّ مَذَاقُهُ *** لكنْ عواقبه أحلى من العَسَلِ

فيرى أن هذا الشيء ثقيل عليه، لكنه يحتمله، وهو يكره وقوعه، ولكن الصبر يحميه من السخط، فليس وقوعه وعدمه سواء عنده، وهذا واجب؛ لأن الله تعالى أمر بالصبر فقال: ﴿وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ .

المرتبة الثالثة: الرضا، بأن يرضى الإنسان بالمصيبة، بحيث يكون وجودها وعدمها سواء، فلا يشق عليه وجودها ولا يتحمل لها حملاً ثقيلاً، وهذه مستحبة وليست بواجبة على القول الراجح.

المرتبة الرابعة: الشكر، وهو أعلى المراتب، وذلك بأن يشكر الله على ما أصابه من مصيبة، حيث عرف أن هذه المصيبة سبب لتكفير سيئاته، وربما لزيادة حسناته، قال صلى الله عليه وسلم: «ما من مصيبة تصيب المسلم إلا كفَّر الله بها عنه، حتى الشوكة يُشاكُها»" انتهى كلامه رحمه الله.

عباد الله :إذا ادْلَهَمّت الأمور واسودت الحياة وعظمت المصائب وكثرت الرزايا فالصبر ضياء. إذا نزل المكروه وحَلّ الأمر المخوف وعظم الجزع واحتيج لمصارعة الحُتُوف فالصبر التجاء. إذا انسدت المطالب وهيمن القلق واشتد الخوف وعظمت الكربة فالصبر دواء. إذا أصبح الدين في غربة والإسلام في كُربة وعمت المعاصي وعظمت الشبهات والشهوات فالصبر عزاء.

اصْبِرْ لكـلِّ مصيبـةٍ وتجَلَّدِ *** واعلم بأنّ المرءَ غيرُ مُخَلـَّدِ

أَوَما ترى أنّ الْمصائبَ جَمَّةٌ *** وترى الْمنيّةَ للعبـاد بِمَرْصَدِ

مَن لم يُصب ممن ترى بمصيبةٍ *** هذا سبيلٌ لستَ فيـه بأَوْحَدِ

وإذا ذكرتَ مصيبةً تَسْلُو بها *** فاذكر مُصَـابَكَ بالنبي محمّدِ