تعظيم التوحيد في نفوس الصغار

بسم الله الرحمن الرحيم

تعظيم التوحيد في نفوس الصغار

فلئن تطلعت الأمة لإصلاح ناشئتها، ورغبت أن تقرّ أعينها بصلاحهم، فعليها أن تهتمّ بتربيتهم، وتسليحهم بسلاح الإيمان، وتحصينهم بدروع التقوى، وأخذهم بجدِّ وقوة ؛ للعلم النافع والعمل الصالح.

إن العناية بالنشء مسلك الأخيار، وطريق الأبرار، ولا تفسد الأمم إلا حين يفسد أجيالها الناشئة، ولا ينال منها الأعداء إلا حين ينالون من شبابها وصغارها. ولما كان توحيد الله تعالى أعظم الأمور وأصل الأصول، ومن أجله بعث الله الرسل وأنزل الكتب وفي تحقيقه سعادة الدين والدنيا، والبرزخ والآخرة، لما كان الأمر كذلك عني بذلك الأنبياء عليهم السلام، فعظموا شأن الله تعالى، وعظموا أسماءه وصفاته، وأفردوه بالعبادة سرا وجهارا، وحذروا وأنذروا وتوعدوا من أشرك بالله فدعا مع الله إلها آخر، وكفر بالله فدعا غير الله.

      عباد الله: ولما كان النبي صلى الله عليه وسلم هو المعلم والقدوة للناس كلهم، كان صلى الله عليه وسلم يعنى بشأن الصغار والناشئة عناية تامة، وكان توحيد الله وغرسه في نفوسهم له النصيب الأكبر في تربية الصغار عند النبي صلى الله عليه وسلم ، ومن شواهد ذلك؛ وصيته صلى الله عليه وسلم لابن عباس رضي الله تعالى عنهما وكان عُمْر ابن عباس آنذاك دون البلوغ، وكانت وصيته صلى الله عليه وسلم له وصية عقدية عظيمة تضمنت في كلماتها ومعانيها أصول التوحيد والآداب.

فعن أبي العباس عبدالله بن عباس رضي الله عنهما قال: كنت خلف النبي صلى الله عليه وسلم يوما فقال: «يا غلام إني أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف» رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح، وفي رواية غير الترمذي: «احفظ الله تجده أمامك، تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة، واعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك، وما أصابك لم يكن ليخطئك، واعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسرا».

أوصاه بحفظ أمر الله امتثالا، ونهيه اجتنابا، ثم أوصاه بسؤال الله واستعانته به، ثم رسخ في نفسه أن المقادير بيد الله تعالى، ثم بين له أن الصبر يورث النصر، وأن الكرب يعقبه فرج.

      عباد الله: ومن عنايته صلى الله عليه وسلم بشأن التوحيد مع الصغار؛ ما أخرجه الترمذي عن أبي رافع قال: «رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أذّن في أذن الحسن بن علي حين ولدته فاطمة» قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.

قال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: "وسر التأذين أن يكون أول ما يقرع سمع الإنسان كلماته المتضمنة لكبرياء الرب وعظمته، والشهادة التي أول ما يدخل بها في الإسلام، فكان ذلك كالتلقين له شعار الإسلام عند دخوله إلى الدنيا كما يلقن كلمة التوحيد عند خروجه منها".

عباد الله: ومن تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم للتوحيد في نفوس الصغار ما أخرجه الإمام أحمد وابن أبي شيبة أن النبي صلى الله عليه وسلم علّم الحسن بن علي رضي الله تعالى عنهما أن يقول إذا فرغ من قراءته في الوتر: «اللهم اهدني فيمن هديت، وعافني فيمن عافيت، وتولني فيمن توليت، وبارك لي فيما أعطيت، وقني شر ما قضيت، فإنك تقضي ولا يقضى عليك، إنه لا يذل من واليت ولا يعز من عاديت تباركت ربنا وتعاليت، لا منجا منك إلا إليك».

وإذا كان مولد الحسن بن علي في السنة الثالثة من الهجرة فيكون عمره عند موت النبي صلى الله عليه وسلم سبع سنين، ومع صغر سنه في حياة النبي صلى الله عليه وسلم فقد لقنه وعلمه النبي صلى الله عليه وسلم تلك الكلمات العقدية الجامعة في تعظيم شأن الله وأنه المستحق للعبادة.

      أيها المسلمون: ومن تعظيم التوحيد في نفوس الصغار أيضا ما أخرجه البخاري في صحيحه عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعوذ الحسن والحسين ويقول: «إن أباكما كان يعوذ بهما إسماعيل وإسحاق: أعوذ بكلمات الله التامة من كل شيطان وهامة ومن كل عين لامة» فكان يعنى بتعليم الصغار أخبار الأنبياء وزرع محبتهم في القلوب، وكذلك تعظيم شأن اللجؤ إلى الله تعالى وأنه هو الحافظ من كل سوء وبيان شر الشيطان وضرر الهامة والعين.

الخطبة الثانية

      فاتقوا الله أيها الناس، واشكروا نعمة الله عليكم بهؤلاء الأولاد الذين جعلهم الله فتنة لكم، فإما قرّة عين في الدنيا والآخرة، وإما حسرة وندم ونكد. وإن من شكر نعمة الله عليكم فيهم أن تقوموا بما أوجب الله عليكم من رعايتهم وتأديبهم بأحسن الأخلاق والأعمال وتنشئتهم تنشئة صالحة.

عباد الله: شعور يحسّ به الوالد حين يرى صغاره أمامَه، ويتذكّر قول الرسول صلى الله عليه وسلم : «لا يأتي زمان إلا والذي بعده شرّ منه»، ويرى ما هو فيه، ويتأمل هذه المتغيرات، ويشاهد هذا السيل الجارف من فتن الشهوات والشبهات، وهذا الهجوم العنيف من المواقع والشاشات، فيتساءل كيف الثبات؟ وكيف سينشأ هذا الجيل القادم؟ كيف سيصمد أمام هذه الأمواج العاتية، وفي كل يوم يفتح باب للشر جديد، ومسلك للدمار شديد، وطريق للأعداء سالك، وشبهة تجعل الحليم حيرانا، وشهوة ميسورة، وفتنة مضلة.

ألا فاعلموا ـ عباد الله ـ أن من أعظم الواجبات في هذا الزمان، ترسيخ العقيدة في نفوس الأولاد والبنات، وتأصيل مراقبة الله في القلوب، إغرس في قلب ولدك وبنتك «فإن لم تكن تراه فإنه يراك»، اجعله يراقب الله في خلواته، كما يراقبه في حضرة الناس، ذكره بأن الله مطلع عليه، وأنه لا محالة صائر إليه، علم بنتك بأن الحشمة والحجاب، والستر والعفاف ، عبادة لله عظيمة،علمهم بأن الخوف من الله، وتعظيم أمره، والانتهاء عن نهيه، عقيدة للمؤمن راسخة، لا تزعزعها غانية في قناة، ولا عاهرة في شاشة، ولا مثقف في صحيفة.

عباد الله : وثمة أمور جعلها الله من فِعل الأب وتنفع الابن من بعده، ومن أهمّ هذه الأمور صلاح الوالد في نفسه، فإنه سبب لحفظ الله عز وجل لأبنائه من بعده، يقول الله سبحانه: ﴿وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ﴾، يقول ابن عباس رضي الله عنهما: "حفظهما الله بصلاح والدهما ولم يذكر الله للولدين صلاحًا".

عباد الله: لا يغلبنّكم الشيطان على باب آخر مفتوح للمؤمنين وهو دعاء الوالد لولده، فقد صحّ عنه صلى الله عليه وسلم من حديث أبي هريرة أنه قال: «ثلاث دعوات مستجابات لا شكّ فيهن -وذكر منهن - دعوة الوالد لولده».

فاتقوا الله عباد الله، واعملوا صالحًا، وسيروا على النهج، وأصلحوا النشء؛ تسعدوا في حياتكم وبعد وفاتكم. اللهم هب لنا من أزواجنا وذريتنا قرة أعين، اللهم ارزقنا بر والدينا، وارزقنا بر أبنائنا بنا، اللهم حبب إلينا وإليهم الإيمان وزينه في قلوبنا وقلوبهم، وكره إلينا وإليهم الكفر والفسوق والعصيان واجعلنا من الراشدين.