التوبة

بسم الله الرحمن الرحيم

التوبة

الحمد لله الذي رضي الإسلام للمؤمنين ديناً ، ونصب الأدلة على صحته وبينها تبيينا ، وأعانهم على طاعته هداية منه وتوفيقاً ، الذي لم يتخذ ولداً ، ولم يكن له شريك في الملك ، ولم يكن له ولي من الذل ، وكبره تكبيراً ، الذي خلق من الماء بشراً فجعله نسباً وصهراً و كان ربك قديراً .

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في ربوبيته و إلهيته وأسمائه وصفاته ، الذي خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش ، الرحمن فاسأل به خبيراً .

 أيها المسلمون :

إن الأمور إذا استحكمت وتعقدت حبالها ، وترادفت المعاصي وطال ليلها ، وانزلق المسلم إلى ذنب ، وشعر بأنه باعد بينه وبين ربه ، فإن الطهور الذي يعيد إليه نقاءه ، ويرد إليه ضياءه ، ويلفه في ستار الغفران ، أن يجنح إلى التوبة ، لأنها النور الذي يشع للمسلم ليعصمه من التخبط ، وهي الواقية من اليأس والقنوط ، وهي الينبوع الفياض لكل خير ، وتذكروا حينما نتوب أننا نتوب إلى رب تواب ، يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل ،حتى تطلع الشمس من مغربها ،وينادينا نحن المذنبين المخطئين المسرفين ﴿ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ ﴾ لآيه ولنتذكر حينما نتوب أن الله يفرح بتوبة العبد روى مسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال قال الرسول صلى الله عليه وسلم « لله أشد فرحا بتوبة عبده حين يتوب إليه من أحدكم كان على راحلته بأرض فلاة فانفلتت منه وعليها طعامه وشرابه فأيس منها فأتى شجرة فاضطجع في ظلها وقد أيس من راحلته فبينما هو كذلك إذا هو بها قائمة عنده فأخذ بخطامها ثم قال من شدة الفرح اللهم أنت عبدي وأنا ربك أخطأ من شدة الفرح » وإننا حين نتوب ونستغفره فإننا ندعو ونستغفر ربا غفار ينادي عباده ( ياعبادي إنكم تذنبون بالليل والنهار ولا يغفر الذنوب إلا أنا فاستغفروني أغفر لكم ) وينادي وهو الغني عن عباده ( يا ابن ادم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ماكان منك ولا أبالي ياابن ادم لو لقيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لاتشرك بي شيئا لقيتك بقرابها مغف ره )إنه الرب الرحيم الرحمن الذي كتب في كتاب عنده ( إن رحمتي سبقت غضبي ) وهو الذي قسم الرحمة مائة جزء أنزل منها على خلقه جزءا واحد يتراحم به الخلق كلهم وابقى تسعة وتسعين جزءا يرحم بها عباده قدم على النبي صلى الله عليه وسلم بسبي فإذا في السبي امرأة تطوف بين السبي قد زاغ بصرها وشعث رأسها وهي في حالة ذهول تبحث عن فلذة كبدها تبحث عن ولدها وكان هذا التطواف منها بمرأى النبي صلى الله عليه وسلم إلى عاطفة الأمومة ورحمة الأم وتعجب الصحابة من ذلك فسألهم أترون هذه المرأة ملقية ولدها في النار قالوا لا يارسول الله فقال « لله أفرح بتوبة عبده من هذه بوالدها » . وحذار من أن نفهم أن التوبة لاتكون إلا بعد فاحشه ترتكب أو معصية كبيرة ولنتذكر أن التوبة وظيفة العمر وأن أفضل التوبة التي تأتي بعد طاعة وصفاء قلب وأنس بالله عز وجل ولذا ختم الصحابة جهادهم بتوبة الله عليهم . عاد المسلمون من غزوة تبوك بعد سفر بعيد وجهاد لاغب ومسافة طويلة وشقة بعيدة وأرض مترامية حرارة لافحة عادوا من غزوة العمرة التي كانت آخر غزوة غزاها النبي صلى الله عليه وسلم وسبقتها غزوات كثيرة وحروب مريرة وبعد أن عاد المسلمون من وعثاء السفر وطول البعد والعطش الشديد وقلة ذات اليد وقلة الظهر والزاد بع هذا كله فتلقاهم الله جل جلاله بالترحاب والبشرى وأنزل في سفرهم آيات تتلى تحيي صبرهم الكبير ومشوارهم الطويل ( لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة من بعد ماكاد يزيغ قلوب فريق منهم ثم تاب عليهم ليتوبوا إنه بهم رؤوف رحيم ) .أعظم عمل يعمل واضخم إنجاز ينجز بعد أن بلغ رسالات الله وفتح مكة بلد الله الأمين فدخل الناس في دين الله أفواجا ودانت له أرض الجزيرة يأمره الله قائلا ﴿ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا ﴾ إنها التوبة والاستغفار بعد هذا العمل الصالح المبرور وبعد الجهاد الطويل . فإذا كانت التوبة مأمور بها بعد الطاعات ، فكيف بمرتكبي الموبقات ، وكيف المقيم على الزلات ، إنه إليها أحوج ، وحرصه عليها أشد ، أقول ما تسمعون ………

 

 

 

الخطبة الثانية الحمد لله.. الحمد لله الذي كان بعباده خبيراً بصيراً، وتبارك الذي جعل في السماء بروجاً وجعل فيها سراجاً وقمراً منيراً، وهو الذي جعل الليل والنهار خِلفة لمن أراد أن يذكّر أو أراد شكوراً. والصلاة والسلام على من بعثه ربه هادياً ومبشراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً. أما بعد : أخذ النبي – صلى الله عليه وسلم – بمنكب ابن عمر، فقال له: «كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل». وكان ابن عمر – رضي الله عنهما – يقول: إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك . ، فإن المؤمن لا ينبغي له أن يتخذ الدنيا وطناً ومسكناً يطمئن إليه، لكن ينبغي أن يكون فيها كأنه على جناح سفر يا قوم إنما هذه الحياة الدنيا متاعٌ وإن الآخرة هي دار القرار وكان النبي - صلى الله عليه وسلم – يقول: « مالي وللدنيا، إنما مثلي ومثل الدنيا، كمثل راكب قال في ظل شجرة، ثم راح وتركها »

فإذا لم تكن الدنيا للمؤمن دار إقامة ولا وطناً، فينبغي عليه أن يكون فيها على أحد حالين : إما أن يكون كأنه غريب في بلد غُربة، فلا يتعلق بها قلبه، بل هَمّه التزود للرجوع إلى وطنه. أو يكون كأنه مسافر، غير مقيم البتة، بل هو في سير دائم، في الليل والنهار، إلى بلد الإقامة.

فيا أيها الناس:

إلى متى الركون إلى هذه الدنيا؟ وإلى متى التسويف بالتوبة؟

فالواجب على المؤمن، المبادرة بالأعمال الصالحة، قبل ألاّ يَقدِر عليها، ويُحال بينها وبينه؛ إما بمرض، أو موت، أو غير ذلك ، ومتى حيل بين الإنسان والعمل، لم يبق له إلا الحسرة والأسف ، ويتمنى الرجوع إلى حال يتمكن فيها من العمل، فلا تنفعه الأمنية. قال تعالى: وأنيبوا إلى ربكم وأسلِموا له من قَبْلِ أن يأتِيَكُمُ العَذابُ ثم لا تُنصرون واتَّبِعوا أحسنَ ما أنزل إليكم من رَبِّكم من قبل أن يأتيَكم العذابُ بغتةً وأنتم لا تشعرون أن تقولَ نفسٌ يا حسْرَتى على ما فرَّطتُ في جنبِ الله وإن كنت لمن السَّاخرين أو تقولَ لو أن الله هَدَاني لكنتُ من المتقين أو تقولَ حين ترى العذابَ لو أنَّ لي كرةً فأكون من المحسنين بلى قد جاءتك آياتي فكذَّبتَ بها واستكبرتَ وكنت من الكافرين  وقال تعالى: حتى إذا جاء أحدَهُمُ الموتُ قال رب ارجعونِ لعلِّي أعملُ صالحاً فيما تركتُ كلاّ إنها كلمة هو قائِلُها ومن ورائِهِم برزخٌ إلى يوم يُبْعَثون  فالتوبةَ التوبةَ عباد الله، فإن الله – عزّ وجل – ( يبسط يده بالليل ليتوب مسيءُ النهارِ، ويبسطُ يده بالنهارِ؛ ليتوب مسيءُ الليل، حتى تطلع الشمس من مغربها )

قال كثير من السلف: فإذا طلعت الشمس من مغربها، طُبع على القلوب بما فيها، وترفع الحفَظةُ الأعمال، وتُؤمرُ الملائكة ألا يكتبوا عملاً.