الاستغفار فضائل وآثار

بسم الله الرحمن الرحيم

الاستغفار فضائل وآثار

الحمد لله الواحد القهار , العزيز الغفار , وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولو كره الكافرون , ربٌّ رحيم , جوادٌ كريم , أثنى على التائبين وأشاد بالمستغفرين فقال وهو أصدق القائلين: ﴿الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ﴾ أحمده على نعمه الغِزار , وأشكره على فضله المدرار. وأشهد أن نبينا محمَّداً عبد الله ورسوله المختار, أرشد أمته ودلَّهم على خير ما يعلمه لهم ومن ذلك الاستغفار, صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه البررة الأطهار وعلى التابعين لهم بإحسان ما تعاقب الليل والنهار.

أمَّا بعدُ فيا أيُّها المُسلمون : ما أكثر ما نقع في المخالفات , ونجترح السيئات , وما أكثر ما نرتكب من المنهيات , ولهذا فإن من رحمة ربنا بنا وفضله علينا أن شرع لنا ما يكفر هذه السيئات ويحولها إلى حسنات , إنه علاج ناجع , ودواء للذنوب نافع , ذلكم يا عباد الله هو: الاستغفار ,  وهو طلب العبد وسؤاله لله بأن يمحو عنه الآثام والذنوب , وأن يصونه من أن يمسه العذاب أو يناله العقاب , يقول ذلك العبد بلسانه وفِعاله , ولقد أمر الله بالاستغفار وأمر رسوله بأن يستغفر للمؤمنين والمؤمنات , فقال تعالى: ﴿فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ﴾ وقال سبحانه آمراً رسوله بالاستغفار: ﴿فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً﴾ وقال سبحانه مخبراً عن الملائكة المقربين واستغفارهم للمؤمنين ﴿الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ﴾ .

ودعا- سبحانه- إلى التوبة والاستغفار كل من وقع في الذنوب والأوزار , ولو كانت من العظائم الكبار , فقال داعياً أهل الكتاب الذين جعلوا له ولداً تعالى عن ذلك: ﴿أَفَلاَ يَتُوبُونَ إِلَى اللّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ وقال جل وعلا: ﴿وَمَن يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللّهَ يَجِدِ اللّهَ غَفُورًا رَّحِيمًا﴾ .

والاستغفار أمانٌ من العذاب , قال تعالى: ﴿وَمَا كَانَ اللّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ﴾  وفي صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «والذي نفسي بيَده لو لَم تُذنبوا لذهب الله تعالى بكم وَلَجاء بقومٍ يذنبون فيستغفرون الله تعالى فيغفرُ لهم».  

ولقد كان سيد المستغفرين وإمام المتقين نبينا محمد صلى الله عليه وسلم يستغفر الله في اليوم مائة مرة كما خرجه مسلم, وعند البخاري عند أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «واللهِ إنِّي لأستغفر الله وأتوبُ إليه في اليوم أكثر من سبعينَ مرة» .

ولقد أثنى الله عز وجل على طائفة من المؤمنين فقال ﴿وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُون (135) أُوْلَئِكَ جَزَآؤُهُم مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ﴾ .

قال القرطبي رحمه الله: "الاستغفار عظيم , وثوابه جسيم , قال النبي صلى الله عليه وسلم : «من قال أَسْتَغفرُ اللهَ الذي لا إله إلا هو الحيّ القيُّوم وأتوب إليه غفرْتُ ذنوبه وإن كان قد فرَّ من الزَّحف».

أيُّها المُسلمون: ما أكثر فوائد الاستغفار وما أعظم بركته على العبد , إنه سبب لغُفران الذنوب مهما عظمت وكثُرت , فقد قال صلى الله عليه وسلم : «قال اللهُ تعالى: يا ابن آدم إنك ما دَعوتَني ورجَوتَني غفرْتُ لك على ما كان منك ولا أبالي , يا ابن آدم لو بلَغَتْ ذنوبُك عَنان السماء ثم استغفرتني غفرتُ لك , يا ابن آدم إنك لو أتيتني بقُراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تُشرك بي شيئا لأتيتك بقُرابها مغفرة».

إن على المرء أن يلزم الاستغفار في جميع أحواله, فلربما صادف ساعة إجابة مع خضوع وانكسار فيحظى بمغفرة الله ورضوانه وذلك هو الفوز العظيم , قال لقمان لابنه: "يا بني عوِّد لسانك الاستغفار فإن لله ساعات لا يرد فيها سائلا".

وأفضل أنواع الاستغفار أن يبدأ العبد بالثناء على ربه , ثم يثنِّي بالاعتراف بذنبه , ثم يسأل الله المغفرة كما جاء ذلك في سيد الاستغفار , وهو الدعاء الجامع لمعاني التوبة كلها , فقد روى البخاري عن شداد بن أوس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «سيِّد الاستغفار أن يقول العبد: اللهم أنت ربِّي لا إله إلا أنت , خلقتني وأنا عبدُك , وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت , أعوذ بك من شرِّ ما صنعتُ , أبوء لك بنعمتك عليَّ وأبوء بذنبي , فاغفر لي فإنَّه لا يغفر الذنوب إلا أنت . قال: من قالها من النهار موقناً بها فمات من يومه قبل أن يُمسي فهو من أهل الجنة , ومن قالها من الليل وهو موقنٌ بها فمات قبل أن يُصبح فهو من أهل الجنة».

اللهم إنا نسألك مغفرة الذنوب, وستر العيوب, ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين. اللهم إنا نستغفرك وأنت الغفور الرحيم فاغفر لنا أجمعين يا خير الغافرين والحمد لله رب العالمين.

الخطبة الثانية :

أمَّا بعدُ فيا أيُّها المُسلمون : اتقوا ربكم وتوبوا إليه واستغفروه إنه رحيم ودود يحب التوابين والمستغفرين.

عباد الله : الاستغفار المطلوب هو الذي يحل عقد الإصرار , ويثبت معناه في الجَنان , لا التلفظ باللسان فحسب , فأما من قال بلسانه: أستغفر الله , وقلبه مصرٌّ على معصيته فاستغفاره ذلك يحتاج إلى استغفار , وصغيرته لاحقة بالكبائر . 

وروي عن الحسن البصري رحمه الله أنه قال: "استغفارنا يحتاج إلى استغفار". قلت: هذا يقوله في زمانه فكيف في زماننا هذا الذي يرى فيه الإنسان مكبَّاً على الظلم حريصاً عليه لا يقلع ..." اهـ كلامه رحمه الله.

فالله المُستعان: هذا كلام القرطبيِّ في القرن السابع , فماذا عسى أن نقول في عصرنا هذا وقد استولت الغفلة على القلوب , وران عليها كدر الذنوب , وأصبحت كثير من البيوت تعجُّ بآلات اللهو , والمعازف والمنكرات , من الأجهزة المفسدة التي تصد عن ذكر الله وعن الصلاة .

عباد الله : لقد كان الاستغفار والذكر من أوثق الأعمال التي يداوم عليها سلفنا الصالح ويحثُّون عليها :

فهذا أبو هريرة رضي الله عنه يقول: "إني لأستغفر الله وأتوب إليه كلَّ يومٍ ألف مرَّة". 

وكان أبو مسلم الخولاني رحمه الله كثير الذكر والاستغفار فرآه بعض الناس فأنكر حاله , فقال لأصحابه : أمجنونٌ صاحبكم ؟ فسمعه أبو مسلم فقال: لا يا أخي ولكن هذا دواء الجنون .

وهذا يحيى بن معاذ الرَّازي يقول مشوِّقاً لدوام الذكر والاستغفار : "يا غَفول يا جَهول لو سمعت صرير الأقلام في اللوح المحفوظ وهي تكتب اسمك عند ذكرك لمولاك  "لما غفلت" ،ولمُتَّ شوقاً إلى مولاك". 

وكان أحمد بن حرب إذا جلس بين يدي الحجَّام ليحفي شاربه يستغفر ويسبح فيقول له الحجَّام: اسكت ساعة , فيقول: اعمل أنت عملك وأنا في عملي، فربما قطع من شفته وهو لا يعلم.

وكانت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها تقول: "طوبى لمن وُجد في صحيفته استغفاراً كثيراً". 

وقال بعض السلف: ما جاور عبدٌ في قبره من جارٍ أحبَّ إليه من استغفارٍ كثير. 

وقال قتادة: "إن هذا القرآن يدلُّكم على دائكم ودوائكم , فأما داؤكم فالذنوب , وأما دواؤكم فالاستغفار". 

وكان بعض السلف يقول : إنما معوَّل المذنبين البكاء والاستغفار , فمن أهمته ذنوبه أكثر لها من الاستغفار.

اللهم وفقنا للتوبة والاستغفار وأعذنا من الغفلة وأحوال الغافلين.