السلسلة المنهجية – براهين الحق

بسم الله الرحمن الرحيم

السلسلة المنهجية – براهين الحق

الحمد لله المتفرد بالخلق والإبداع، الذي أتقن ما صنع، وأحكم ما شرع، فأغنى عن الابتداع، وبعث رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم مبلغا لرسالته، وناصحا لعباده، وأمر أن يتبع ويطاع، أحمده سبحانه على أن جعلنا مسلمين، وأكمل لنا الدين، وأتم به النعمة علينا من بين العالمين، وقال ﴿وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الخَاسِرِينَ﴾.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الملك القدوس السلام، يعدكم مغفرة منه ورضوان، ويدعو إلى الجنة دار السلام، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صاحب النهج القويم، والخلق العظيم، الذي أوصى أمته بالتمسك بالكتاب والسنة، وحذرها من الضلالة والبدعة، وأخبرها أن المحدثات هي شر الأمور على مر العصور. صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه، الذين كانوا أفضل هذه الأمة، وأبرها قلوبا، وأعمقها علما، وأقلها تكلفا، اختارهم الله لصحبة نبيه، لإقامة دينه، فاعرفوا لهم حقهم، واتبعوهم على أثرهم، وتمسكوا بما استطعتم من أخلاقهم وسيرهم، فإنهم كانوا على الهدى المستقيم... أما بعد:

عباد الله: إن مبنى دين الإسلام على قاعدتين عظيمتين، هما مقتضى الشهادتين، شهادة أن لا إله إلا الله، وشهادة أن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم .

القاعدة الأولى: أن لا يعبد إلا الله وحده لا شريك له، فلا معبود بحق سواه، فكل معبود معه، أو من دونه فعبادته باطلة، وعابده من المشركين الجاحدين، وإن عد نفسه من المسلمين، قال سبحانه ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ﴾ وقال ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ﴾.

وصرّح سبحانه أن كل رسول خاطب قومه أول ما خاطبهم فقال ﴿يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ﴾ ونعى سبحانه على المشركين الذين جعلوا أهواءهم وأصنامهم وأوثانهم، أندادا لرب العالمين، فسووهم به في المحبة والخضوع، والطاعة في المشروع والممنوع، وأنهم يندمون على تلك التسوية يوم الدين، حين لا ينفع الندم، إذا دخلوا النار مأوى شر الأمم ﴿قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ (96) تَاللَّهِ إِن كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ (97) إِذْ نُسَوِّيكُم بِرَبِّ العَالَمِينَ﴾ .

عباد الله: وأما القاعدة الثانية: فهي أن لا يعبد الله إلا بما شرع على لسان نبيه ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم ، فلا يعبد بالأهواء ولا البدع، قال تعالى ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ وقال سبحانه ﴿شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُوا فِيهِ﴾ إلى قوله ﴿فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ﴾، فجعل سبحانه الهوى مقابلاً للدين، فكل من تدين بدين لم يشرعه الله، فحقيقة أمره أنه متبع لهواه، قال تعالى ﴿أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ﴾، وقال تعالى ﴿مَن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَن تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً﴾ ، وقال ﴿وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقاً﴾ ، وقال سبحانه ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُّبِيناً﴾ ، وقال جل وعلا ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ العِقَابِ﴾ وقال سبحانه ﴿فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ .

عباد الله: لقد تواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم الوصاية للأمة بالتمسك بالكتاب والسنة، وأن فيهما لمن تمسك بهما العصمة من كل ضلالة، والسلامة من كل فتنة، والنجاة من كل هلكة.

عباد الله: وما أشكل فهمه من نصوص الكتاب والسنة، أو لم يُعرف وجه تطبيقه وتحقيقه، فإنه يرجع فيه إلى صحابة النبي صلى الله عليه وسلم ، فإنهم هم خلفاؤه الراشدون، وهم من بعده أئمة أمته المهديون، قال صلى الله عليه وسلم : «إنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيرا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ» .

وقال حذيفة: كل عبادة لم يتعبدها أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فلا تتعبدوها، فإن الأول لم يترك للآخر مقالا.

وقال ابن مسعود: ستكون هنات وهنات، فبحسب امرىء إذا رأى منكرا لا يستطيع له تغييرا، أن يعلم الله من قلبه أنه له كاره.

وقال عمر بن عبد العزيز: سن رسول الله صلى الله عليه وسلم وولاة الأمر من بعده – يعني الخلفاء الراشدين، وأئمة الصحابة – سنناً، الأخذ بها تصديق لكتاب الله، واستكمال لطاعة الله، وقوة على دين الله، ليس لأحد تغييرها ولا تبديلها، ولا النظر في شيء مما خالفها، من عمل بها مهتد، ومن انتصر بها منصور، ومن خالفها اتبع غير سبيل المؤمنين، وولاه الله ما تولى، وأصلاه جهنم وساءت مصيراً.

الخطبة الثانية:

الحمد لله:

عباد الله: الكتاب والسنة، وما كان عليه سلف الأمة، هي براهين الحق، ومعالم الهداية، وموازين الأمور، وهي التي تزكي النفوس، وتُطَمْئِن القلوب، وتشرح الصدور، وتُنوِّر البصائر، وتُرجّح العقول، وتسدد الأقوال، وتصلح الأعمال، وتجمل الأحوال، وتُحَسِّن المآل، وما سوى هذه الثلاثة فهي شر المحدثات، وأنواع الضلالات المهلكات، التي تصد عن الهدى، وتنافي التقوى، وتجلب العمى، وتورث الشقاء، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم ينهى عنها في كل خطبة جمعة فيقول: «أما بعد: فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار».

وجاء التحذير من البدع في أحاديث كثيرة، وصيغ بلغية، ومناسبات متعددة، كقوله صلى الله عليه وسلم في (خ م): «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد» وعند (م) : «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد»، وخرّج (م) عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة من غير أن ينقص من أوزارهم شيء» ، وفيه عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئاً». وفي (خ م) عن ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ليس من نفس تُقتل ظلما إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها، لأنه كان أول من سن القتل».

عباد الله: وإنما جاء هذا الوعيد الشديد لأهل البدع، لأن البدع تفسد القلوب، وتفتح لليشطان الباب، فيزين للمبتدع سوءُ عمله، ويغريه ببدعته، حتى يرى المعروف منكراً، والمنكر معروفاً، فيعرض عن الحق حين يدعى إليه، ويشتغل بشر ما هو فيه، ويسعى في تغيير الدين، وإضلال المسلمين، وتشتيت الكلمة، وتفريق الأمة، حتى يفرق الناسُ دينهم شيعا، كل حزب بم لديهم فرحون.

عباد الله: إن البدع في الدين أصل كل بلاء وفتنة، فإنها حدثٌ في الدين وتغيير للملة، ومن شؤمها أنها لا تزيد أصحابها من الله إلا بعداً، وحظهم من اجتهادهم، وتعبهم في بدعهم، أن تصدهم عن الحق صدا، وصدق الله ﴿قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً (104) أُوْلَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ وَزْناً﴾ .

فاحذروا عباد الله البدع وأهلها، فإنهم أعداء السنة، ودعاة الجاهلية، وهم عبّاد الهوى، الصادون عن الهدى، فما أشأمهم على أنفسهم، وما أشقى المجتمعات بهم، إنهم دعاة على أبواب جهنم، من أطاعهم قذفوه فيها، فاحذروهم وحذروا منهم، وعادوهم وتقربوا إلى الله بعداوتهم ومقتهم.

عباد الله: مما سبق يتبين لكم أن التنكر لمنهاج السلف الصالح في الأقوال والأفعال، وتنقص العلماء الأكابر، والتشهير بالحكام على المنابر، وتحديث العوام بما لا يعرفون، وإيغار الصدور والتهويل في الأمور للحكام، والتسبب في تفريق شمل المسلمين، والسعي في إفساد ذات البين، وهي الحالقة التي تحلق الدين، والتشديد إلى حد التكفير بما دون الشرك من الكبائر، وغض النظر عن دعاة الشرك والخرافة من كل وثني حائر، والاحتجاج بمتشابه القرآن، وترك الصحيح الصريح مما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم من بيان، والتعاطف مع مثيري الفتن، والتعاون مع كل حزبي نتن، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدعوة لله على غير ما توجبه الشريعة، ومخالفة أصول عقيدة أهل السنة والجماعة في طاعة الأئمة، ونصح الأمة، كل ذلك من أنواع المحدثات، التي هي شر الضلالات، وآثام المبتدعات، وهي كفيلة بهدم الدين، وجلب الشقوة على المسلمين، فاحذروا عباد الله هذه الأمور وداعتها أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ﴿وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ المُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً﴾ .