الربا وأثره

بسم الله الرحمن الرحيم

الربا وأثره

أيها المسلمون: لقد جربت بعض الدول النظام المالي الشيوعي، الذي صادر حق الفرد في التملك، وجعل الدولة كشركة، يعمل أفرادها فيها، مقابل ملء بطونهم، وستر أجسادهم، وتوفير الضروري من مقومات حياتهم، وليس لهم حق فيما زاد على ذلك، فساوى هذا الفكر المنحرف بين العامل والعاطل، وبين الجاد والكسول، ففشل وسقطت الدول التي كانت تتبنى الفكر الشيوعي, وانقسم بعضها إلى دويلات. واليوم ثبت فشل النظام الرأسمالي الذي تبنته مجموعة من الدول الغربية حيث أطلق للأفراد حرية التملك وتنمية المال بأي وجه؛ مما سمح للأقوياء أن يسحقوا الضعفاء وللأغنياء أن يبيدوا الفقراء بمسوغات السوق الحرة والتجارة الحرة.

لقد تنكب أولئك الخلق، طريق الحق، وخالفوا تعاليم الخالق ﴿أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الخَبِيرُ﴾ تفننوا في تشريع قوانين أرضية، تحترم رأس المال، ولا تحترم الإنسان؛ ووضعوا تشريعات تنحني للغني على حساب المسكين وذي العيلة .

عباد الله: ليست مفاجأة لنا ـ نحن المسلمين ـ أن يترنح اقتصاد يقوم على مبدأ الحرية المطلقة، ويتغذى على الربا، ويستند على السندات والديون، ويقامر حتى الثمالة! ولكنها مفاجأة للعالم المتحضر الذي لا يؤمن إلا بالقيم الرأسمالية, ولا يمتثل إلا لأفكارها.

أيها المسلمون، إن الربا ومعاملاته الجائرة، سبب رئيس لهذا الفساد الاقتصادي المهدد بالسقوط، وهذه حقيقة كشفها القرآن ، حين أعلن الله تعالى حربه على المصرين على التعامل بالربا، وأنى لقوة مهما كانت أن تصمد لحرب الله، والله يقول: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (278) فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾ .

عباد الله: ومن أسباب هذه الأزمة ظلم أولئك القوم للمسلمين وغير المسلمين، الظلم ما أشد عاقبته، وما أسوأ نهايته، وما أقبح خاتمته! فكم ظلموا المسلمين، وكم طغوا وبغوا ﴿وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ القُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ﴾ ، هكذا تكون العاقبة ﴿لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي البِلادِ﴾.

قال الشيخ السعدي رحمه الله: "هذه الآية المقصود منها التسلية عما يحصل للذين كفروا من متاع الدنيا، وتنعمهم فيها، وتقلبهم في البلاد، بأنواع التجارات والمكاسب واللذات، وأنواع العز والغلبة في بعض الأوقات، فإن هذا كله متاع قليل، ليس له ثبوت ولا بقاء، بل يتمتعون به قليلا ويعذبون عليه طويلا، هذه أعلى حالة تكون للكافر".

عباد الله: سبحان من جعل القوة سببًا لضعف الأقوياء، وسبحان من جعل الضعف قوة للضعفاء، لقد ظن أكثر الناس قبل سنوات قلائل، أن الغرب لا قوة تغلبهم، وقد رأوا أساطيلهم تغطي البحار، وطائراتهم العملاقة تحلق في السماء، وأيقنوا أن لا شيء يهز اقتصادهم، وقد بلغت صناعاتهم ما بلغت، وخيرات باطن الأرض تتدفق عليهم من كل مكان، وأعلنوا أن القرن قرنهم، وأن العالم كله مسخر لهم، وأن الدول تحت أيديهم وتصرفهم ﴿وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ .

لقد جاءهم العذاب من نظريتهم التي بنوها بأنفسهم، نظرية الرأسمالية، التي يرونها الآن تسير إلى طريق الانهيار، بلا علم منهم بأسباب ذلك ولا آثاره الحقيقية ولا نتائجه الأكيدة ﴿وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً﴾ ﴿وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ وَمَا هِيَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْبَشَرِ﴾ .

الخطبة الثانية:

الحمد لله :

عباد الله: منذ سنوات والشهادات تتوالى من عقلاء الغرب ورجالات الاقتصاد تنبه إلى خطورة الأوضاع التي يقود إليها النظام الرأسمالي، وضرورة البحث عن خيارات بديلة. فالغرب يحاول الاتجاه نحو الاقتصاد الإسلامي للخروج من أزمته المالية الطاحنة.

يقول أحد رؤساء التحرير في الصحافة الفرنسية: "لقد آن الأوان لأن يعتمد على الشريعة الإسلامية في المجال المالي والاقتصادي؛ لوضع حد لهذه الأزمة التي تهز أسواق العالم من جراء التلاعب بقواعد التعامل والإفراط في المضاربات الوهمية غير المشروعة".

وأصدرت الهيئة الفرنسية العليا للرقابة المالية قرارًا يسمح للمؤسسات والمتعاملين في الأسواق المالية بالتعامل مع نظام الصكوك الإسلامي في سوق المنظمة الفرنسية.

عباد الله: حقيقة ثابتة وقاعدة مقررة في كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم لا محيد عنها ولا مفر منها، ما ظهرت المعاصي في أمة من الأمم، ولا انتشر الفساد في دولة من الدول، إلا جاءها وعيد الله الذي لا يخلف، وتحققت فيها سنته التي لا تتخلف ﴿وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ القُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (102) إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّمَنْ خَافَ عَذَابَ الآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَّشْهُودٌ﴾ .

 يقول ابن تيمية رحمه الله تعالى: "ومن المعلوم بما أرانا الله من آياته في الآفاق وفي أنفسنا وبما شهد به كتابه أن المعاصي سبب المصائب، وأن الطاعة سبب النعمة".

عباد الله: عجبا لحال الناس في هذه الحياة، يعصون الله تعالى بالليل والنهار، ويعرضون عنه، وينسون فضله وإحسانه، ويكفرون نعمه عليهم، ثم إذا جازاهم على بعض أعمالهم بالقليل إذا هم يتسخطون ويقنطون من رحمة الله وفضله وإحسانه.

فاتقوا الله عباد الله، وانظروا إلى تخطف الناس من حولكم، وإلى الكوارث والمحن التي تصيب الدول القريبة منكم، واعلموا أنكم لستم بأفضل منهم إلا بمقدار تمسككم بشرع الله ومحافظتكم على دينه والبعد عن معصيته ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ القُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِن كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (96) أَفَأَمِنَ أَهْلُ القُرَى أَن يَأْتِيَهُم بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَائِمُونَ (97) أَوَأَمِنَ أَهْلُ القُرَى أَن يَأْتِيَهُم بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ (98) أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلاَّ القَوْمُ الخَاسِرُونَ﴾ .