الأولاد وتربيتهم

بسم الله الرحمن الرحيم

الأولاد وتربيتهم

عباد الله: فلذات أكبادنا أمانة حُمِّلناها، فلنسعى لإرضاء ربنا فيها، عسى أن يكونوا قرة عين لنا في الدنيا والأخرى، فإن الإنسان إذا مات وكان له أولاد صالحون، فإنه ليرتفع في درجات النعيم بدعواتهم، وذلك كما جاء عند (م) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو ولد صالح يدعو له، أو علم ينتفع به».

وكلنا يعلم يا عباد الله: ما أصاب الكثير من المسلمين اليوم ! وبخاصة الشباب منهم، من تخلف وتهاون وتقصير، في جميع شرائع الدين، الظاهرة والباطنة، فمن أين أتى هذا التقصير ؟ وكيف حدث ؟ هل خلق في الأرحام مع مواليد هذا العصر ؟ أم أنه حدث من سوء رعاية وولاية ؟ والجواب في حديث من لا ينطق عن الهوى، محمد صلى الله عليه وسلم حيث يقول «ما من مولود إلا ويولد على الفطرة، فأبواه يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه» فهذا الخلل الذي حدث للجيل الناشئ، وإن كان من عوامل كثيرة، إلا أن عامله الأكبر: سوء رعاية المسئولين عنهم، أهملوهم في البيوت في الصغر، فلم يأخذوا على أيديهم، ولم يؤطروهم على الحق، وتساهلوا معهم في الكبر، فلم يأمروهم أمر إلزام، ولم ينهوهم نهي ردع، إلى أن قست قلوبهم، وعميت أبصارهم، وصمت آذانهم. تلقتهم وسائل الإعلام بقضها وقضيضها، وأجلبت عليهم بخيلها ورجلها، فزهدتهم في التدين، وشككتهم في المعتقد، وحببت إليهم الغرب وتقاليده، وشوهت الإسلام وتعاليمه، أوحت لهم بأن الدين رجعية، وأن الإسلام إرهاب، وأن تقليد الغرب تقدم، وأن الميوعة حضارة، وأن الخروج على القيم حرية. حتى خفيت معالم الحق على كثير من المسلمين، ومضت سهام الفتن في الإضلال، وبرزت بوارق الشهوات، واستحكمت كثير من الشبهات.

عباد الله: الأولاد نعمة كبرى، ومنة عظمى، أنعم الله بها على من شاء من عباده ﴿المَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ وإن العاقل الذي أوتي هذه النعمة ليدرك أن استقرارها، واستمرار أثرها على الإنسان في حياته و بعد مماته ؛ لا يكون إلا بتوجيهها التوجيه الذي أمر الله به، والبعد كل البعد عن التساهل والتفريط في شأنها، فإنها بجانب كونها نعمة، هي ابتلاء واختبار وفتنة، قال جل وعلا: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ﴾ وقال: ﴿وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً﴾. قلب طرفك في صفحات التاريخ، تقف على حقائق رائعة، ونماذج فذة، كلها صفاء وبهاء، من اهتمام السلف الصالح بتربية أبنائهم، والاعتناء بهم ؛ لأنهم أدركوا ما وراء شكرها والقيام بحقها، من تتابع أجر، وبقاء ذكر، يقول سبحانه عن عباده المؤمنين: ﴿يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً﴾ .

قال عكرمة - رحمه الله -: والله ما أرادوا صباحة وجوه أبنائهم، ولا جمال أجسادهم، إنما أرادوا أن تقر أعينهم بصلاحهم، وأن يكونوا مطيعين لله عز وجل.

و قال تعالى عن إبراهيم ويعقوب عليهما السلام: ﴿وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَابَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ﴾ وعن لقمان أنه قال لولده يوصيه: ﴿يَابُنَيَّ لاَ تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾ ويقول له ليزرع في قلبه مراقبة الله جل جلاله: ﴿يَابُنَيَّ إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُن فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَوَاتِ أَوْ فِي الأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ﴾ .

وعن نبيكم صلى الله عليه وسلم : «يا غلام احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة، إذا سألت فسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله» .

هكذا كانت أساليب الأنبياء والصالحين في التربية: ﴿أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ﴾ .  

إن لم تكونوا مثلهم فتشبهوا *** إن التشبه بالكرام فلاح

ولكن أكثر الناس اليوم قد أهملوا هذا الجانب، إهمال المستبدل الأدنى بالذي هو خير، فمنهم من يمسي ويصبح، ودنياه همه، وشغله الشاغل، لا يكاد يلتفت إلى أولاده، إلا بقدر ما يوفر لهم من المأكل والمشرب، وما يدري المسكين أنه بعمله هذا ترك لباب ذات اللباب النافع، وجمع قشوره، وأشر من هذا من يأخذ بهم في تربيته إلى العصيان .

قال العلامة ابن القيم: "من أهمل تعليم ولده ما ينفعه وتركه سدى، فقد أساء إليه غاية الإساءة، وأكثر الأولاد إنما جاء فسادهم من قبل الآباء وإهمالهم لهم، وترك تعليمهم فرائض الدين وسننه، فأضاعوهم صغارا، فلم ينتفعوا بأنفسهم، ولم ينفعوا آباءهم كبارا " أ.هـ

أيها الأب المبارك: كيف ترجو صلاح ولدك وإحسانه، وأنت قد جلبت له أسباب شقاءه، هيأت له ما تقسوا به القلوب، ترجو خيره وأنت لا تأمره بصلاة، تراه مقيما على المعصية فلا تنهاه، لا تأمره بمعروف، ولا تنهاه عن منكر، لا تدري إلى أين ذهب، ولا مع من ركب، لا تدري ماذا يشاهد، وماذا يقرأ، وماذا يسمع ؟!! بل لربما وصل بك الأمر أن تكون أول من يفعل المعصية أمامه.

فتداركوا رحمكم الله ما فات بما بقي، وتفقدوا رعيتكم، راجعين بهم إلى الصواب، قبل أن تعصف بالقلوب الفتن، ويتعذر الإدراك، ﴿إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ﴾.

الخطبة الثانية:

عباد الله: روي عن محمد الباقر بن زين العابدين قال: أوصاني أبي فقال: لا تصحبن خمسة، ولا تحادثهم ولا ترافقهم في طريق: لا تصحبن فاسقا؛ فإنه يبيعك بأكلة فما دونها، قلت: يا أبت وما دونها؟ قال: يطمع فيها ثم لا ينالها، ولا تصحبن البخيل؛ فإنه يقطع بك أحوج ما تكون إليه, ولا تصحبن كذابا؛ فإنه بمنزلة السراب يُبعد عنك القريب، ويقرب البعيد, ولا تصحبن أحمقا؛ فإنه يريد أن ينفعك فيضرك، وقد قيل عدو عاقل خير من صديق جاهل, ولا تصحبن قاطع رحم، فإني وجدته ملعونا في مواضع في كتاب الله، منها قوله تعالى: ﴿فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ (22) أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ﴾.

فباعدوا عباد الله: بين أبنائكم وبين قرناء السوء، وفاسدي الأخلاق، وفاقدي المروءة والشرف، كيلا يسري فسادهم إليهم، شأن الجمل الصحيح مع الجمل الأجرب, أدبوهم بالرفق واللين، لا بالعنف والشدة؛ خشية أن ينفروا منكم, قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :كما عند (خ) «إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه ولا ينزع من شيء إلا شانه» .

واتقوا الله عباد الله، في أبنائكم وبناتكم، وما ائتمنتم عليه، وقوموا بواجبكم نحو خالقكم ودينكم، وأنفسكم وأهليكم، وأولادكم وأمتكم، وكونوا سبباً في تثبيت عرى الإسلام في الأرض، ولا تكونوا سبباً في نقضها، فالإسلام دينكم ومجدكم، وعزكم وفخركم وشعاركم، ولا خير فيمن هدم دينه ومجده، وعزه وفخره وشعاره، فارفعوا لواءه عالياً بما أوتيتم من علم وقوة، وبيان وحكمة، وأعدوا أولادكم لرفع لوائه بعدكم، والله لا يضيع عمل عامل منكم، ولا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء.

اللهم اهدنا وذرياتنا سبيلك، ووفقنا لخدمة دينك، وعاملنا بغفرانك، وفقهنا في دينك، وأعذنا من الشيطان الرجيم، برحمتك يا أرحم الراحمين.