ولا الجهاد في سبيل الله

بسم الله الرحمن الرحيم

ولا الجهاد في سبيل الله

عبادَ الله، تحلّ بالمسلمين أوقاتٌ فاضلة، هي للمؤمنين مغنَم لاكتساب الخَيرات، ورفعِ الدّرجات، و فُرصة لتحصيل الحسناتِ، والحَطّ من السيِّئات. إنّها أيّام العشرِ من ذي الحجّة، هي أعظمُ الأيّام عند الله فضلاً وأكثرها أجرًا، روى ابن عبّاس رضي الله عنهما عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال: «ما مِن أيّام العمل الصّالح فيها أحبّ إلى الله من هذه الأيام -يعني أيّامَ العشر-، قالوا: يا رسولَ الله، ولا الجهادُ في سبيل الله؟! قال: ولا الجهادُ في سبيل الله إلاّ رجلٌ خرج بنفسه ومالِه ثمّ لم يرجِع من ذلك بشيء» رواه البخاري .

قال ابن حجر رحمه الله: "والذي يظهَر أنّ السببَ في امتياز عشر ذي الحجة بهذه الامتيازاتِ لِمَكان اجتماع أمّهات العبادة فيها، وهي الصّلاة والصّيام والصّدقة والحجّ وغيرها، ولا يتأتّى ذلك في غيرها" .

عباد الله: من خصائِص هذه العشر فضيلةُ الإكثار من التهليل والتكبيرِ والتحميد، فربنا سبحانه يقول ﴿وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ﴾ ، وقد فسرت بأنها أيام عشر ذي الحجة، وقد استحب العلماء كثرة الذكر في هذه العشر .

قال البخاريّ في صحيحه: "كان ابن عمر وأبو هريرة رضي الله عنهما يخرجان إلى السّوق في أيّام العشر يكبِّران، ويكبِّر الناس بتكبيرهما" فيستحب رفع الصوت بالتكبير في الأسواق والدور والطرق وغيرها إعلاناً بحمد الله وشكراً على نعمه ﴿وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ﴾ .

 ومن العبادات الجليلة التي تعمل في عشر ذي الحجة ذبح الأضاحي تقرباً إلى الله عز وجل لقوله سبحانه: ﴿فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ﴾ ، وذبح الهدايا والأضاحي من شعائر هذا الدين الظاهرة ومن العبادات المشروعة في كل الملل. يقول سبحانه: ﴿وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكاً لِّيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ﴾ ، وذبح الأضحية مشروع بإجماع العلماء وصرح البعض منهم بوجوبها على القادر، وجمهور العلماء على أنها سنة مؤكدة يكره للقادر تركها. ومن عزم على الأضحية فلا يأخذ من شعره وأظفاره من حين دخول شهر ذي الحجة إلى أن يضحي، وذلك لقوله صلى الله عليه وسلم «إذا دخل شهر ذي الحجة وأراد أحدكم أن يضحي فلا يأخذ من شعره ولا من ظفره ولا من بشرته شيئاً» (م) وهذا الحكم خاص بمن سيضحي، أما من سيضحى عنه فلا يشمله هذا الحكم، فرب البيت الذي عزم على الأضحية هو الذي لا يأخذ من شعره أو أظفاره دون أهله وعياله.

أيّها المسلِمون: مَواسِم الخيراتِ عَلَى العِباد تترَى، فَما أن تنقَضِيَ شعيرة إلاَّ وتتَراءَى لهم أخرَى، وها هِيَ قلوبُ العبادِ أمَّت بيتَ الله العَتيق ملبِّيةً دعوةَ الخليلِ عليه السلام ﴿وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ﴾ ، بَيتٌ جعَلَه اللهُ مَثَابَةً للنّاسِ وأَمنًا، حَولَه تُرتَجى مِنَ الكريمِ الرَّحماتُ والعطايَا، حرمٌ مبارَكٌ فيه خَيرَاتٌ وَآياتٌ ظاهِراتٌ ﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وَضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ (96) فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً﴾ حَجُّه مِن عِمادِ الإسلام ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ البَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ العَالَمِينَ﴾ .

جاءَ الشَّرعُ بالأَمرِ بِبلوغِ رِحابِه لأدَاءِ فريضةِ الدِّينِ، قال عليه الصلاةُ والسلام: «يا أيّها الناس، قد فرَض الله عليكُم الحجَّ فحُجّوا» (م). فيه بذلٌ وعَطاء وعَناء وثوابٌ، «سئِل النبيُّ صلى الله عليه وسلم : أيُّ العمَلِ أفضَل؟ قال: إِيمانٌ باللهِ ورَسولِه، قيل: ثمّ ماذَا؟ قالَ: الجهادُ في سبيلِ الله، قيل: ثم ماذا؟ قال: حجٌّ مبرور» متفق عليه.

في أَداءِ ركنِ الإسلامِ الخامِس غُفرانُ الذّنوب وغَسلُ أدران الخطايا والعِصيان، يقول النبيّ صلى الله عليه وسلم : «مَن حجَّ فلم يرفُث ولم يفسُق رجَع كيوم ولدَته أمُّه» رواه البخاري.

ومَن لازَم التقوَى في حجِّه أعدَّ الله لَه الجنَّةَ نُزُلاً، قال عليه الصلاة والسلام: «العمرةُ إلى العمرةِ كفَّارةٌ لما بينها، والحجُّ المبرور ليس لَه جزاءٌ إلا الجنة» متّفق عليه، ومَن أمَّ البيتَ حقيقٌ بِلزوم ثلاثِ خِصال: ورَعٍ يحجِزُه عن معاصِي الله، وحِلمٍ يكفُّ به غَضبَه، وحُسنِ الصحبةِ لمن يصحَبه.

أيّها المسلمون: المغبونُ من انصرَف عن طاعة الله لا سيّما في هذه الأيام، والمحروم من حُرم رحمةَ الله جلّ وعلا، المأسوفُ عليه من فاتت عليه هذه الفُرَص وفرَّط في هذا الفضل. فيا ويحَ من أدرك هذه الأيامَ ثمّ لم يغتنِمها، والويلُ لمَن أمضاها في سيِّئ الأخلاق وقطعَها في المعاصي والآثام، فيا خسارةَ مَن دعَته دواعي الخير فأعرض عنها.

فاغتنِموا ـ رحمكم الله ـ هذه الأيامَ بالاجتهاد في العبادةِ بشتّى أنواعها والأعمال الصالحة بمختلف صوَرِها، فنبيُّكم صلى الله عليه وسلم يروي عن ربِّه عزّ وجلّ قوله: «يا عبادي، إنّما هي أعمالكم أحصيها لكم، ثم أوفِّيكم إيّاها، فمن وجد خيرًا فليحمَد الله، ومن وجد غيرَ ذلك فلا يلومنّ إلا نفسه» .

الخطبة الثانية:

أيها المسلمون: تأملوا حال الحَجِيجِ وَقَد وَقَفُوا في صَعِيدِ عَرَفَاتٍ، أَو في مُزدَلِفَةَ يَقضُونَ وَاجِبَ البَيَاتِ، أَو في مِنًى يَرمُونَ الجَمَرَاتِ، أَو حَولَ الكَعبَةِ يَطُوفُونَ، أَو بَينَ الصَّفَا وَالمَروَةِ يَسعَونَ، أَو وَهُم يُحَلِّقُونَ أَو يُقَصِّرُونَ أَو هُم يُوَدِّعُونَ، فَيَا فَرحَةَ مَن فَازَ بِالوُقُوفِ بِتِلكَ المَشَاعِرِ! وَيَا سَعَادةَ مَن تَشَرَّفَ بِالتَّلَبُّسِ بِتِلكَ المَنَاسِكِ ! حَطٌّ لِلذُّنُوبِ وَمَغفِرَةٌ لِلآثَامِ، وَنَفيٌ لِلفَقرِ وَإِعتَاقٌ مِنَ النَّارِ.

وَفي الوَقتِ الذي يَتَشَوَّقُ عِبادُ اللهِ الصَّالحونَ إلى حُضُورِ هَذَا الفضل العَظِيمِ وَالمجمَعِ الكَرِيمِ في كُلِّ عَامٍ، وَتَتَقَطَّعُ قُلُوبُهُم حَسرَةً وَأَلمًا عَلَى فَوَاتِهِ لِعُذرٍ أَو عَجزٍ أَو مَرَضٍ، تَجِدُ مِن أُمَّةِ الإِسلامِ مَن تَمُرُّ عَلَيهِ السُّنُونَ وَتَتَوَالى عَلَيهِ الأَعوَامُ وَقَضَاءُ الرُّكنِ وَأَدَاءُ الفَرِيضَةِ لم يَخطُرْ لَهُ عَلى بَالٍ، وَكَأَنَّ الحَجَّ عَلَى غَيرِهِ قَد فُرِضَ، أَو كَأَنَّهُ لَيسَ مِن أُمَّةِ الإِجَابَةِ، وَقَد عُلِمَ مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ الحَجَّ رُكنٌ مِن أَركَانِ الإِسلامِ وَمَبَانِيهِ العِظَامِ، دَلَّ على وُجُوبِهِ الكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالإِجمَاعُ، قال سُبَحانَهُ: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ البَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ العَالَمِينَ﴾ ، وقال عليه الصلاةُ والسلامُ: «بُنيَ الإِسلامُ على خمسٍ: شَهَادَةِ أَنْ لا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَأَنَّ محمدًا رَسُولُ اللهِ، وَإِقَامِ الصَّلاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَحَجِّ البَيتِ، وَصَومِ رَمَضَانِ»، فمتى استَطَاعَ المُسلِمُ الحَجَّ وَتَوَفَّرَت فِيهِ شُرُوطُ وُجُوبِهِ وَجَبَ أَن يُعجِّلَ بِأَدَاءِ فَرِيضَةِ اللهِ فِيهِ، وَلم يَجُزْ لَهُ تَأخِيرُهُ وَلا التَّهَاوُنُ بِهِ .

قَال ابنُ قُدَامَةَ رحمه اللهُ : "مَن وَجَبَ عَلَيهِ الحَجُّ وَأَمكَنَهُ فِعلُهُ وَجَبَ عَلَيهِ على الفَورِ ولم يَجُزْ لَهُ تَأخيرُهُ، وَبِهَذَا قَال أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ" .

وقال الشيخُ ابنُ بَازٍ رحمه اللهُ: "مَن قَدَرَ عَلى الحَجِّ ولم يَحُجَّ الفَرِيضَةَ وَأَخَّرَهُ لِغَيرِ عُذرٍ فَقَد أَتَى مُنكَرًا عَظِيمًا وَمَعصِيَةً كَبِيرَةً، فَالوَاجِبُ عَلَيهِ التَّوبَةُ إِلى اللهِ مِن ذَلِكَ وَالبِدارُ بِالحَجِّ".

وَإِنَّ المُتَأَمِّلَ في الوَاقِعِ اليَومَ لَيَجِدُ مِنَ النَّاسِ مَن بَلَغَ مِنَ العُمُرِ سِنِينَ مُتَطَاوِلَةً وَلم يحُجَّ، وَمِنَ النَّاسِ مَن وَجَبَ الحَجُّ عَلَى أَبنَائِهِ وَبَنَاتِهِ فَضلاً عَن وُجُوبِهِ عَلَيهِ وَمَعَ ذَلِكَ تَرَاهُم يُؤَخِّرُونَ الحَجَّ سَنَةً بَعدَ سَنَةٍ، وَيُؤَجِّلُونَ هَذَا الرُّكنَ عَامًا بَعدَ آخَرَ، فهل يَأمَنُ أَحَدُهُم مَوتًا مُجهِزًا يَأخُذُهُ عَلى غِرَّةٍ، أَو مَرَضًا مُقعِدًا يَهجُمُ عَلَيهِ عَلَى غَفلَةٍ، أَو فَقرًا يَعتَرِيهِ بَعدَ غِنًى وَقِلةَ بَعدَ كَثرَةٍ.

فَيَا أَيُّهَا المُسلِمُونَ، يَا مَن وَجَبَ عَلَيكُمُ الحَجُّ، بَادِرُوا بِهِ وَلا تُؤَخِّرُوهُ، ففَضل الحَجِّ عَظِيمٌ وَأجرُهُ كَبِيرٌ، قال صلى الله عليه وسلم «الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة» وقال صلى الله عليه وسلم : «مَا مِن يَومٍ أَكثَرَ مِن أَن يُعتِقَ اللهُ فِيهِ عَبدًا مِنَ النَّارِ مِن يَومِ عَرَفَةِ».