الأمن وفئة الضلال

بسم الله الرحمن الرحيم

الأمن وفئة الضلال

فرَض الله الفرائضَ وحرَّم المحرَّماتِ وأوجب الحقوقَ رِعايةً لمصالحِ العباد، وجعل الشريعةَ غِذاءً لحِفظ حياتِهم ودواءً لدَفع أدوائهم، وجاءت دعوةُ الرّسل بإخلاصِ العبادةِ لله وحدَه بخضوع وخشوعٍ وطمأنينة، ومَقَتت ما يصرِف القلوبَ عن خالقِها.

عباد الله: فضَّل الله البيتَ الحرام فأحل فيه الأمنِ والاستقرار ﴿وَإِذْ جَعَلْنَا البَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْناً﴾ ، وامتنَّ الله على ثمودَ قومِ صالح ﴿وَكَانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الجِبَالِ بُيُوتاً آمِنِينَ﴾ ، وأنعمَ اللهُ على سبَأ وأغدَق عليهم الآلاء المتتابعةَ وأسكنهمُ الدّيار الآمنة ﴿سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ﴾ ، ويوسفُ عليه السلام يخاطبُ والدَيه وأهلَه ممتنًّا بنعمة الله عليهم بدخولهم بلدًا آمنًا مستقرًّا تطمئنّ فيه نفوسهم ﴿ادْخُلُوا مِصْرَ إِن شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ﴾ .

ومن نعيمِ أهل الجنة في الجنّة أمنُ المكان، فلا خوفَ ولا فزعَ ولا تحوُّل ﴿ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ آمِنِينَ﴾ ، وقال سبحانه: ﴿وَهُمْ فِي الغُرُفَاتِ آمِنُونَ﴾ ، ﴿إِنَّ المُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ﴾ .

عباد الله: لقد جمعت شريعةُ الإسلام المحاسنَ كلّها، فصانت الدينَ، وحفِظت العقول، وطهَّرتِ الأموال، وصانت الأعراض، وأمَّنت النفوس، أمرتِ المسلمَ بإلقاء كلمة السلام على أخيه المسلم ،إشارةً منها لنشرِ الأمن بين الناس، وأوجبت حفظَ النفس حتى في مظِنَّة أمنها في أحبِّ البقاع إلى الله، قال عليه الصلاة والسلام: «إذا مَرَّ أحدُكم في مسجدِنا أو في سوقنا ومعه نَبلٌ فليمسِك على نِصالها ـ أو قال: ـ فليقبِض بكفِّه أن يصيبَ أحدًا من المسلمين منها بشيء» متفق عليه

وحذَّرت من ترويع المسلمين، قال صلى الله عليه وسلم : «لا يُشِر أحدُكم إلى أخيه بالسلاح؛ فإنه لا يدري لعلَّ الشيطانَ ينزِع في يده، فيقعُ في حفرةٍ من النار» متفق عليه

وحرَّمت على المسلم الإشارةَ على أخيه المسلم بالسّلاح ولو مازحًا، قال النبيّ صلى الله عليه وسلم : «من أشار إلى أخيه بحديدةٍ فإنّ الملائكة تلعنُه حتى يدعَها، وإن كان أخاه لأبيه وأمه» رواه مسلم .

قال النوويّ رحمه الله: "هذا مبالغة في إيضاح عُموم النهي في كلِّ أحدٍ، سواء من يُتَّهم فيه ومن لا يتَّهم، وسواء كان هذا هزلاً ولعبًا أم لا؛ لأن ترويعَ المسلم حرامٌ بكلِّ حال" .

ودعا الإسلامُ إلى كلِّ عمل يبعَث على الأمن والاطمِئنان ، وأمر بإخفاء أسباب الفزَع في المجتمع، فقال عليه الصلاة والسلام «لا يحلُّ لمسلمٍ أن يروِّع مسلِمًا» رواه أحمد

ولمَّا دخل النبيّ صلى الله عليه وسلم مكَّة عامَ الفتح، منح أهلَ مكَّة أعظمَ ما تتوُق إليه نفوسهم، فأعطى الأمانَ لهم وقال: «من دخَل دارَ أبي سفيان فهو آمن، ومن ألقَى السّلاحَ فهو آمن، ومن دخل المسجدَ فهو آمن» رواه مسلم

وما شُرعت الحدود العادِلة الحازمة في الإسلام على تنوُّعها إلاَّ لتحقيقِ الأمن في المجتمعات.

أيها المسلمون: بالأمن والإيمان تتوحَّد النفوسُ، وتزدهِر الحياة، وتغدَق الأرزاق، ويتعارف الناس، وتُتَلقَّى العلومُ من منابعها الصافية، ويزدادُ الحبلُ الوثيق بين الأمة وعلمائها، وتتوثَّق الروابطُ بين أفراد المجتمع، وتتوحَّد الكلمةُ، ويأنس الجميعُ، ويتبادل الناسُ المنافع، وتُقام الشعائر بطمأنينة، وتقُام حدود الله في أرض الله على عباد الله.

وإذا اختلَّ الأمنُ تبدَّل الحالُ، ولم يهنأ أحدٌ براحةِ بال، فيلحقُ الناسَ الفزعُ في عبادتهم، فتُهجَر المساجد ويمنَع المسلم من إظهارِ شعائر دينه، قال سبحانه: ﴿فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِّن قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِّن فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَن يَفْتِنَهُمْ﴾ ، وتُعاق سُبُلُ الدعوة، وينضَب وُصول الخير إلى الآخرين، وينقطع تحصيلُ العلم وملازمة العلماء، ولا توصَل الأرحام، ويئنُّ المريض فلا دواءَ ولا طبيب، وتختلُّ المعايش، وتهجَر الديار، وتفارَق الأوطان، وتتفرَّق الأسَر، وتنقَضُ عهودٌ ومواثيق، وتبور التجارة، ويتعسَّر طلبُ الرزق.

باختلال الأمن تُقتَل نفوسٌ بريئة، وترمَّل نساء، ويُيتَّم أطفال. إذا سُلِبت نعمةُ الأمن فشا الجهلُ وشاع الظلم وسلبتِ الممتلكات، وإذا حلَّ الخوفُ أُذيق المجتمعُ لباسَ الفقر والجوع، قال سبحانه: ﴿فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ﴾ .

قال القرطبي رحمه الله: "سمَّى الله الجوعَ والخوفَ لباسًا لأنه يظهِر عليهم من الهُزال وشحوبةِ اللون وسوءِ الحال ما هو كاللباس" .

الخطبة الثانية:

عباد الله:

عِبادَ الله، لقد كان من دعاء إبراهيم ﴿رَبِّ اجْعَلْ هَذَا البَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ﴾ ، ويَقُولُ في آيَةٍ أُخْرى: ﴿رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُم بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ﴾ .

فانْظُرُوا هَاتَينِ الآيَتَينِ، فإبْراهيمُ طَلَبَ في الآيَةِ الأولَى تَحقيقَ الأمْنِ حَتَّى يَتَحقَّقَ لهُ عِبادَةُ الله عَلَى الوَجْهِ الصَّحيحِ ﴿وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ﴾ لأنَّ الإنْسَانَ في حَالِ الفِتْنَةِ والقَلاقِلِ يَشْغَلُهُ الخَوفُ عِنْ عِبَادَةِ رَبِّهِ، ورُبَّمَا زَاغَ كَثيرًا عَن الحَقّ، ألمْ يُخبِر الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم عَنْ أنَّ المُتَمَسِّكَ بدِينهِ في آخِرِ الزَّمَانِ حِينَ تَكْثُرُ الفِتَنُ كالقَابِضِ عَلَى الجَمْرِ؟

أمَّا الآيَةُ الثَّانيَةُ فطَلَبَ إبْراهيمُ تَحقيقَ الأمْنِ، ثُمَّ قالَ: ﴿وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ﴾ ؛ لأنَّ بَلدًا لا أمْنَ فِيهِ كَيفَ تَسْتقيمُ للنَّاسِ فِيهِ أرْزَاقُهُمْ؟

عباد الله: إنَّ مَا حَصَلَ خِلالَ الفترة المَاضِيَةِ مِنْ تَفْجيراتٍ ومَا أعْقَبَهَا مِنْ تَدَاعياتٍ كُلُّهَا مُؤذِنَةٌ بِخَطَرٍ عَظيمٍ، إنَّ هذَا الفِكْرَ الذِي خَرَجَ بهِ أولَئِكَ وأوصَلَهُمْ إلَى مَا رأيتُمْ، مَا هُوَ إلاَّ حَصِيلَة شُبَهٍ وأوهَامٍ أكثَرُوا مِنْ تَدَاولِهَا حَتَّى صَارَتْ بَينَهُمْ مِنَ المُسَلَّماتِ، فاسْتَحَلُّوا بِهَا الدِّمَاءَ، وتَرْويعَ النُّفُوسِ، وإزْهَاقَ الأرْوَاحِ.

إن خطرهم عظيم، وفكرهم لازال يسري في بعض الشباب، الذين قلت بضاعتهم من العلم، وهجروا العلماء الراسخين، واستبدلوا الذي هو أدني بالذي هو خير، اجتالتهم الشياطين، وتلقفهم علماء السوء، وابتعدوا عن نصوص الوحيين، بفهم السلف الصالح، فازداد خطرهم، ووجب التصدي لهم، ببيان شبههم، وإظهار باطلهم، حتى لا تروج بضاعتهم، وعلى كل منا مسؤولية عظمى، وأمانة كبرى، بتفقد أبنائنا، وتحصينهم، من شبه الضلال.

عباد الله: العلماءُ الربانيّون هم ورثةُ الأنبياء، وفي ملازمتِهم وزيارتهم وسؤالهم والاستنارةِ بآرائهم سدادٌ في الرأي وتوفيقٌ للصواب ودرءٌ للمفاسد. وببركةِ الأمرِ بالمعروف والنهي عن المنكر تُمنَع الشرور والآفات عن المجتمعات. وحِفظُ العبد نفسَه من شهواتِ النفس وشبهاتِ القلبِ أصلٌ في صيانةِ المجتمع من المخاوف والمكاره.

اللهم آمنا ................................