لا عدوى ولا طيرة

بسم الله الرحمن الرحيم

لا عدوى ولا طيرة

15/2/1429 هـ (غ)

أمّا بعد: فيا أيّها الناس، أوصيكم ونَفسي بتقوَى الله عزّ وجلّ، فمَن اتَّقاه وَقَاه، ومن توكَّل عليه حَمَاه. أيّها المسلمون، مِن لوازمِ الإيمان الصّحيحِ، والتوحيد الكامِل، أن يتجنّبَ المرءُ كلَّ ما يؤثِّر في اعتقادِه، أو ينافي إيمانَه بالله جلّ وعلا، ومن ذلك الحذَرُ من الخرافةِ بجميعِ صُوَرها، ومن الضّلالات بشتى أشكالِها. ومِن تلك الخرافاتِ تشاؤُم بعض الناس بشهرِ صفَر ، يتوهَّمون فيه كثرةَ الدَّواهي وحصولَ المصائب وعدَمَ التوفيق، فلا يعقِدون فيه نِكاحًا ولا يشرَعون سَفرًا ولا يبدؤونَ عمَلاً. أيّها المسلمون: إنَّ التشاؤمَ بمثل ذلك وغيره، عقيدةٌ من عقائد الجاهلية الأولى، وخُرافة من خرافاتِ أهلِ الشرك والوثنية، تحوِّل من اتِّجاههم وتوقِف مِن عزَائِمهم وتصدُّهم عن حاجاتهم ومَصالحهم، فجاءَت شريعةُ الإسلام شريعةُ التوحيد بإبطالِ ذلك كلِّه وبهدمِ بُنيانه من أساسِه، محرِّرةً العقولَ مِن رقِّ الوثنيّة وضلالات الجاهليّة. عباد الله: التّشاؤمَ في نظرِ الإسلام من الأوهامِ والسَّخافات والخيالاتِ، واجبٌ محاربتُها واجتثاثُها من جذورها وأصلها، ففي (خ،م) قال صلى الله عليه وسلم : « لا عدوَى ولا طِيَرةَ ولا هامةَ ولا صفَر» بمعنى أنّه لا تأثيرَ لتلك الأمور بذاتها في جلبِ نفع أو دَفع ضرّ. فقوله صلى الله عليه وسلم « لا عدوى» يعني: لا عدوى مؤثّرة بطبعها؛ لأن أهل الجاهلية كانوا يعتقدون أن العدوى تؤثر بنفسها تأثيرًا لا مردَّ له، وتأثيرًا لا صارفَ له، وأن العدوى ناقلةٌ للمرض لا محالة و لا بد أن يكون؛ مع أنه صلى الله عليه وسلم لا ينفي أصلَ وجود العدوى، وهي انتقال المرض من المريض إلى الصحيح بسبب المخالطة بينهما، فإنّ الانتقال بسبب المخالطة حاصلٌ ومُلاحَظٌ ومَشْهُود؛ لذا فقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: « لا يُورِد ممرضٌ على مُصِحّ، ولا يُورد مصحّ على ممرض» رواه مسلم من حديث أبي هريرة ، وقال صلى الله عليه وسلم « فِرَّ من المجذوم فِرارَكَ من الأسد» رواه أحمد . ومع هذا فإنّ المرض لا ينتقل إلا بقضاء الله وقدره، وهذا ما لا يعتقده أهلُ الجاهلية؛ ولذلك لما قال النبي صلى الله عليه وسلم « لا عدوى، ولاصفر، ولا هامة» قال أعرابي: يا رسول الله، فما بال إبلي تكون في الرمل كأنها الظباء، فيأتي البعيرُ الأجربُ فيدخل بينها يُجْرِبُها؟! فقال صلى الله عليه وسلم : « فمن أعدى الأول؟!» متّفق عليه من حديثِ أبي هريرة صلى الله عليه وسلم . وقوله: « فمن أعدى الأول؟!» أي: أنَّ الأول إنما جَرُبَ بقضاء الله وقدره. والطِّيَرة وهي التشاؤم ببعض الأشخاص أو الأمكنة أو الأزمنة أو الطيور أو نحوها وهي من الشركِ المنافي لكمال التوحيدِ الواجب، فعن ابن مسعود رضي الله عنه مرفوعًا: « الطِّيَرة شرك، الطِّيَرة شركٌ» أخرجه أبو داود والترمذيّ . عباد الله: من لم يخلِص توكّلَه على الله جلّ وعلا واسترسَلَ مع الشيطان في التشاؤُم والتطيُّر، فقد يعاقَب بالوقوع فيما يكرَه ويبغِض؛ لأنّه أعرض عن واجبِ الإيمان بالله الذي الخيرُ كلُّه بيدَيه، هو الذي يجلبُه للعبد بمشيئتِه، وهو الذي يدفع عنه الضرَرَ وحدَه بقدرته ولطفِه وإحسانه. في الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم أنّه قال: « لا عدوَى ولا طيَرةَ، ويُعجِبني الفأل»، فسئِل: ما الفأل؟ فقال: « الكَلِمةُ الحسنة» والفألُ كلُّ ما ينشِّط على إنهاء حاجة الإنسان من الأقوالِ والأفعال الحسَنَة الطيّبة مع عدَمِ السكون إلى هذه الأمور، بل إلى خالقِها ومسبِّبها وهو الله جلّ وعلا، قال بعض أهلِ العلم: وإنما كانَ يُعجِبه صلى الله عليه وسلم الفألُ لأنّ التشاؤمَ سوءُ ظنٍّ بالله جل وعلا، والتفاؤل حُسنُ ظنٍّ به عزّ وجلّ، والمسلم مأمور بحسنِ الظنِّ بالله جل وعلا في كلِّ الأحوال. فالفألُ يزيد الإنسانَ نشاطًا وإقدامًا فيما توجَّه إليه، فينشرِحُ بذلك صدرُه، ويأنَس قلبه، ويذهب الضيقُ الذي يوحيه الشيطانُ في قلبه، وأمّا الطيرة فهي توجِب تعلُّقَ الإنسان بالمتطيَّر به، وتقتضي ضعفَ توكّلِه على الله جل وعلا، مع رجوعه عما همَّ به من حاجةٍ مِن أجل ما رآه أو سمِعه من الأمورِ القبيحة، روَى الترمذيّ وصحّحه عن أنسٍ رضي الله عنه أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم كان يعجبه إذا خرَج لحاجةٍ أن يسمَع: يا راشدُ يا نجيح وأما الهامة، فهو طائر من طير الليل يقال له البومة، وكان أهل الجاهلية يتشاءمون بها، فإذا نزلت على بيت أحدهم قال: نعت إلى نفسي أو أحدا من أهل داري، فأثبت النبي صلى الله عليه وسلم أن لا شؤم بالبومة أو غيرها. فاتّق الله أيها المسلم، واعلَم أنّ ما أصابك لم يكن ليخطئَك، وأنَّ ما أخطأك لم يكن ليصيبَك، فكن متوكِّلاً على الله جلّ وعلا، معتمِدًا عليه، واثقًا به........................................

اللهم الحمد لله: أيّها المسلمون: مَن استمسك بعروةِ التوحيد الوُثقى واعتصم بحبل الله المتين وتوكَّل على الله جلّ وعلا قطعَ هاجِس الطّيَرة قبل استقرارِها، وبادَر خواطرَها من قبل استكمالها، قال عكرمة: كنّا جلوسًا عند ابنِ عبّاس رضي الله عنهما فمرَّ طائر يصيح، فقال رجل من القوم: خيرٌ، فقال له ابن عبّاس: (لا خيرَ ولا شرّ) فبادَره رضي الله عنه بالإنكارِ عليه لئلاّ يعتقد تأثيرَه في الخير أو الشرّ. ثم اعلَموا أنّ الزمانَ كلَّه خَلقٌ لله جل وعلا، وفيه تقع أفعالُ بني آدم، فكلُّ زمان شغَله المؤمن بطاعةِ الله جل وعلا فهو زمانٌ مبارَك عليه، وكلُّ زمان شغَلَه المرء بعصيانِ الله جل وعلا فهو شُؤم عليه. ثم اعلَموا أنَّ أعظم الأوقات بركةً هو ما صُرِفت في طاعة الله جل وعلا. واعلموا ـ عباد الله ـ أن ما من خيرٍ إلا دلّنا رسولُنا عليه, وَمَا مِنْ شَرٍّ إلا حذرنا منه، فقد حذرنا الطيرةَ ونهانا عنها, ودلّنا على كفارتها وعلاجها، فقال صلى الله عليه وسلم « من رجَّعَتْهُ الطِّيَرَةُ عَنْ حَاجَتِهِ فَقَدْ أَشْرَكَ»، قالوا: وَما كفَّارَةُ ذلكَ يا رسُولَ اللهِ؟ قال: « أَنْ يَقُولَ أحَدُهُم: اللهُمَّ لا طيْرَ إلا طَيْرُكَ، ولا خَيْرَ إِلا خَيْرُكَ، ولا إلهَ غَيْرُكَ» ثُمَّ يَمْضِي لحاجَتِهِ. (م). وفي حديثٍ آخرَ لما ذكرت الطيرةُ عند رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « أحسنها الفأل، ولا تردّ مسلما، فإذا وجد ذلك أحدُكم فليقل: اللهم لا يأتي بالحسنات إلا أنت، ولا يَذْهَبُ بالسيئات إلا أنت، لا حَوْلَ ولا قُوَّة إلا بِكَ» (د) فاتقوا الله عباد الله، واحذروا ما تَنْشُرُهُ بعضُ الصُّحِفِ والمجلات أو ما تَبثهُ بعضُ القنواتِ من قراءةٍ في الأبراج والطوالع، فنجدُ من يبحثُ عن سعادتهِ في بُرْجِ الميزان، وآخرُ يخاف أن يكونَ من أهل برج العقرب، وهكذا تحيا الْخُرَافَة، ولقد ذكر شيخُ الإسلامِ ابن تيميةَ رحمه الله أن عليَّ بن أبي طالب عندما أراد المسِيرَ لقتالِ الخوارجِ عَرض له مُنَجِّمٌ فقال له: يا أمير المؤمنين، لا تسافر، فإن القمرَ في العقرب، وإنّك إذا سافرت والقمر في العقرب هُزِمَ أصْحَابُكَ، فقال: بل نسافر ثِقَةً بالله وتوكلاً على الله وتكذيبًا لك. فسافر فَبورِكَ له في ذلك حتى قتلَ عَامَّةَ الخوارج". فاتقوا الله عباد الله، واحْرِصُوا على تحقيق توحيدِكُم وسلامة عقيدَتِكُم.