الإجازة والترفيه

بسم الله الرحمن الرحيم

الإجازة والترفيه

عباد الله: في مثل هذه الأيام، يُشغل كثير من الآباء والأمهات، بقضيتين هامتين، هما: الفراغ وهمومه، والترفيه ومفهومه. وإن الترفيه والمراوحة في الأشياء، تزيل التعب والإرهاق، وتجدد النشاط، وتقوي على العمل، فليس من سبيل المؤمن حقاً أن يقطع يومه لهوًا ولعبًا، ويشغل وقته عبثا ومجونا، بالعكوف على أفلام ومجلات ، وقنوات وشاشات، تثير الغرائز، وتفسد القلوب.

يقول عمر بن عبد العزيز: لا بأس على المسلم أن يلهو ويمرح ويتفكه، على أن لا يجعل ذلك عادته وخلقه، فيهزل في موضع الجد، ويعبث ويلهو في وقت العمل. وكان عبد الله بن مسعود يقول – كما في (خ م)-: "وإني لأتخولكم بالموعظة كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يتخولنا بها مخافة السآمة علينا".

ومن الناس من يحتج بمثل هذه النصوص؛ لِتَضِيق ساعة الذكر والجد، وتوسّع ساعة الترفيه واللعب، فتهجرُ مجالس العلم والوعظ إلا قليلاً.

عباد الله: ليس الترفيه والترويح سلوك بلا ضوابط، وممارسة بلا منهج، وتعدٍ على حدود الشرع، فيبحث عن الترفيه والترويح بأي وسيلة، دون نظر إلى حِلّ أو حرمة.

كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمزح ويداعب؛ عند (حم د) أنه صلى الله عليه وسلم كان يسابق عائشة.

وفي (خ) أنه خرج صلى الله عليه وسلم على قوم من أسلم يتناضلون في السوق فقال: «ارموا بني إسماعيل، فإن أباكم كان راميًا». وجاءته امرأة عجوز تقول: يا رسول الله، ادع الله لي أن يدخلني الجنة، فقال لها: «يا أم فلان، إن الجنة لا يدخلها عجوز» .

فانزعجت المرأة وبكت، ظنًا منها أنها لن تدخل الجنة، فلما رأى ذلك منها، بيّن لها أن العجوز لن تدخل الجنة عجوزًا، بل يبعثها الله خلقًا آخر، فتدخلها شابة بكرًا، وتلا قول الله تعالى: ﴿إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاءً (35) فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَاراً (36) عُرُباً أَتْرَاباً﴾. وجاءته امرأة في حاجة لزوجها، فقال لها: من زوجك؟ فقالت: فلان، قال: الذي في عينيه بياض؟ فانصرفت عجلى إلى زوجها، وجعلت تتأمل عينيه، فقال لها: ما شأنك؟ فقالت: أخبرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن في عينيك بياضًا, فقال لها: أما ترين بياض عيني أكثر من سوادهما؟ وعند (د) عن أنس بن مالك قال: قال لي رسول الله : «يا ذا الأذنين».

عباد الله: هذه الشخصية التي تمارس المزاح والمداعبة، هي ذاتها التي تقوم الليل، وتصوم النهار، وتجاهد في سبيل الله، تبذل النفس والنفيس، ويدها سحّاء، فمع كونه يمزح ويداعب، كان طويل العبادة والخشوع، كثير البكاء والخضوع، لا يفتر لسانه من ذكر، ولا يهدأ باله من تأمل وفكر. وقال صلى الله عليه وسلم كما في (خ): «إن لربك عليك حقًا، ولنفسك عليك حقًا، ولأهلك عليك حقًا، فأعط كل ذي حق حقه».

ولنا أيضاً في سلفنا الصالح قدوة حسنة:

فهذا ابن مسعود رضي الله عنه يبين أهمية الترفيه فيقول: أغيثوا القلوب، فإن القلب إذا أكره عمي. ويقول علي رضي الله عنه: أجمُّوا هذه القلوب، والتمسوا لها طرائف الحكمة، فإنها تملّ كل تملّ الأبدان. ويقول أبو الدرداء: إني لأستجم قلبي من اللهو المباح، ليكون أقوى لي على الحق. ويقول عمر بن عبد العزيز: تحدثوا بكتاب الله، وتجالسوا عليه، وإذا مللتم فحديث من أحاديث الرجال حسنٌ جميل.

فهذا هدي سلفنا الصالح كانوا يرفهون عن أنفسهم حتى تتهيأ للجد، وكسبًا لنشاط أقوى، وهمة أعلى، لتحقيق الغاية من خلق الإنسان، وهي عبادة الله تبارك وتعالى. ولم يكن الترويح والترفيه غايةً يسعون لبلوغها، أو هدفًا لذاته يبذلون في سبيله الأوقات والأموال. فالتَّرفيه الذي فهموه، وسيلة سامية، تخدم مصالح ومقاصد عالية، تُبنَى في ظلها سمات الشخصية، تُقوِّي الأجساد، تُهذِّب الأخلاق، تُدرِّب على الرجولة والجد، تفتح آفاقًا من العلم والعمل، مسابقة بالأقلام، مصارعة لتربية الأجسام، تحفيز على تعلّم الرمي.

فليس عبثا، بل ترويح تترتب عليه مصالح وفوائد، لا يتضمن سخرية بالآخرين، ولمزا بالمسلمين، ولا غيبة ونميمة، لا يتضمن كذبًا وافتراءً، ذلك أن الترفيه الذي لا منفعة فيه ، يضيع عمر الإنسان بما لا فائدة فيه. ولا يسمحون للنفس وقت ترويحها أن تفرط في حقوق الله، فلا ترفيه في أوقات الصلوات، فهذا اعتداء على حقوق الله، ولا ترويح في أوقات العمل، وهذا اعتداء على حقوق الناس.

الخطبة الثانية:

الحمد لله:

عباد الله: النفس لها إقبال وإدبار، يقول ابن مسعود رضي الله عنه: إن للقلوب شهوةٌ وإقبال، وفترة وإدبار، فخذوها عند شهواتها وإقبالها، وذروها عند فترتها وإدبارها.

الترفيه في حياة المؤمن، ليس هو كل شيء، يصبح ويمسي عليه، وإنما هو ترويح بقدر، لئلا يزحف على الأعمال الجادة، والواجبات الأخرى، ولأن عمر الإنسان أغلى وأسمى من أن تُضيَّع أيامه بين لهو عابث، وعبث باطل، وعن أبي سلمة بن عبد الرحمن قال: لم يكن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم منحرفين ولا متماوتين، وكانوا يتناشدون الأشعار في مجالسهم، ويذكرون أمر جاهليتهم، فإذا أريد أحدهم على شيء من دينه دارت حماليق عينيه.

عبد الله قلب طرفك في عصرنا الحاضر: ترى في مفهوم الترفيه والترويح، ذوبان الشخصية الإسلامية، وتمييع الأحكام الشرعية، وسلوكيات وترهات، وسفاهة وحماقات.

وهذا نتاج المفهوم المعاصر للترويح، الذي جعل من الترويح هدفًا لذاته وغاية. فليس من الترويح المباح التجول في الشوارع والأسواق بلا غاية، وتتبع العورات، والجلوس في المقاهي والتفحيط في الطرقات، الترفيه في الإسلام يجب أن يكون بريئًا من كل إسفاف، أو خروج على الأخلاق الإسلامية، محفوظًا عن اختلاط الرجال بالنساء، والنظرة المحرمة، أو أي ذريعة لمخالفة شرعية.

وقد شهد أصحاب الاختصاص أن نسبة الجرائم والمشكلات الأخلاقية، تبلغ ذروتها مع البطالة والفراغ، ويزداد الأمر خطورة مع وسائل العصر الحديثة، من مواقع وجوالات، ومجلات ومعاكسات، وأفلام وقنوات، تلك التي تغري الشباب، وتفتح آفاقًا من الشر وهدر الأوقات.

ولئلا يفعل الفراغ فعله في النفوس، فإن ملأ الأوقات بالمفيد، والانتقال من عمل إلى آخر حصانة ووقاية. يقول عمر بن الخطاب: إن هذه الأيدي لا بد أن تُشغل بطاعة، قبل أن تشغلك بمعصية.

فاتقوا الله عباد الله: واشكروه على ما آتاكم من الصحة والفراغ، ووهبكم من الأزواج والأولاد، وسلوه أن يهب لكم من ذرياتكم وأزواجكم قرة أعين.

فاللهم هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماما ..