آثار الذنوب والمعاصي

بسم الله الرحمن الرحيم

آثار الذنوب والمعاصي

عباد الله: اتقوا الله تعالى، واحذروا المعاصي والذنوب، واتقوا خطرها على الأبدان والقلوب، وانظروا وتفكروا في بليغ أثرها في الأوطان والشعوب .

يقول العلامة ابن القيم -رحمه الله-: " مما ينبغي أن يُعلم أن الذنوب والمعاصي تضر، ولا شكّ أن ضررها في القلب كضرر السموم في الأبدان، على اختلاف درجاتها في الضرر، وهل في الدنيا والآخرة شر وداءٌ إلا بسبب الذنوب والمعاصي؟ فما الذي أخرج الأبوين من الجنة، دار اللذة والنعمة والبهجة والسرور إلى دار الآلام والأحزان والمصائب؟ وما الذي أخرج إبليس من ملكوت السماء وطرده ولعنه ومسخ ظاهره وباطنه فجعل صورته أقبح صورة وأشنعها، وباطنه أقبح صورة وأشنع، وبُدل بالقرب بعدًا، وبالرحمة لعنة، وبالجمال قبحًا، وبالجنة نارًا تلظى، وبالإيمان كفرًا؟ وما الذي أغرق أهل الأرض كلهم حتى علا الماء فوق رؤوس الجبال؟.

وما الذي سلّط الريح على قوم عادٍ حتى ألقتهم موتى على وجه الأرض كأنهم أعجاز نخل خاوية، ودّمرت ما مرّت عليه من ديارهم وحروثهم وزروعهم ودوابّهم حتى صاروا عبرةً للأمم إلى يوم القيامة؟ وما الذي أرسل على قوم ثمود الصيحة حتى قطعت قلوبهم في أجوافهم وماتوا عن آخرهم؟. وما الذي رفع اللوطية حتى سمعت الملائكة نبيح كلابهم، ثم قلبها عليهم، فجعل عاليها سافلها، فأهلكهم أجمعين؟ وما الذي أرسل على قوم شعيب سحاب العذاب كالظلل، فلما صار فوق رؤوسهم أمطر عليهم نارًا تلظّى؟ وما الذي أغرق فرعون وقومه في البحر ثم نُقلت أرواحهم إلى جهنّم، والأجساد للغرق، والأرواح للحرق؟ وما الذي خسف بقارون وداره وماله وأهله؟ وما الذي أهلك القرون من بعد نوح بأنواع العقوبات ودمّرها تدميرًا؟ وما الذي أهلك قوم صاحب يس بالصيحة حتى خمدوا عن آخرهم؟ وما الذي بعث على بني إسرائيل قومًا أولي بأسٍ شديد، فجاسوا خلال الديار وقتلوا الرجال، وسبوا الذراري والنساء، وأحرقوا الدّيار، ونهبوا الأموال، ثم بعثهم مرة ثانية فأهلكوا ما قدروا عليه وتبَّروا ما علو تتبيرًا؟ "أ.هـ

عباد الله: إذا كانت هذه بعض أضرار المعاصي والذنوب في الدنيا، فما بالكم بأضرارها، والخسارة الناتِجة عنها يوم القيامة، وفي القبر وفي الحشر.

إذاً يا عبد الله: جاهد نفسك واحجزها عن الذنوب والمعاصي؟ وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه سوف: «يأتي على الناس زمان، القابض فيه على دينه كالقابض على الجمر» وقال صلى الله عليه وسلم : «بادروا بالأعمال الصالحة، فتنا كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمناً ويمسي كافراً»، في الصباح تراه مصلياً ساجداً ذاكراً، يعرف حق ربه، ثم إذا أقبل الليل وغربت الشمس، إذا به يجحد أوامر الله، ويستهزئ بشرعه «ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً» فما الذي حدث؟ قال صلى الله عليه وسلم : «يبيع دينه بعرض من الدنيا»!!

كم وكم من الناس كانوا صالحين، فإذا بشهوة أو معصية ينقلبون بسببها على أعقابهم.

واستمع يا عبد الله: إلى هذه القصة التي ذكرها القرطبي في "التذكرة" ذكر أن رجلاً كان صالحاً طوال حياته، بل كان مؤذنا يؤذن للناس ويدعوهم إلى الصلاة، كان يصعد على منارة المسجد، فيقول: حي على الصلاة، حي على الفلاح، وذات يوم وهو يؤذن إذ وقعت عينه على امرأة في بيت رجل نصراني، فوقعت في قلبه، وافتتن بها، فنزل إلى دارها وقال: أريدك لنفسي، فقالت: أنت مسلم وأنا نصرانية، فإن أردتني فلتخرج من دينك ولتتنصر. فخرج الرجل من الإسلام وتنصر، والعياذ بالله! ثم شرب الخمر، وصعد على سطح هذه الدار لبعض شئونه، فسقط ميتاً، على نصرانيته وردته، فلم يفز بدنيا ولا أخرى.

فسبحان مقلب القلوب، أرأيتم يا عباد الله: كيف تدخل الذنوب إلى القلوب فتقلبها وتبدلها ﴿يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ﴾ ويقول صلى الله عليه وسلم : «إن قلوب بني آدم بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء» فاللهم يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك، ويا مصرف القلوب صرف قلوبنا إلى طاعتك.

عبد الله: إن أول أمر تحفظ به نفسك من الذنوب والمعاصي هو: المحاسبة والمراقبة، أن تراقب الله جل وعلا دائماً وفي كل مكان، واعلم أن هناك من يراك ويطلع عليك، إنه الواحد الأحد، إنه الذي يحسب عليك كل نفس، وكل خاطرة وكل نظرة وكل كلمة، ﴿عَالِمُ الغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الكَبِيرُ المُتَعَالِ (9) سَوَاءٌ مِّنكُم مَّنْ أَسَرَّ القَوْلَ وَمَن جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ﴾ أي الذي يخفي نفسه في الظلام ويغلق الباب على نفسه، ﴿أَيَحْسَبُ أَن لَّمْ يَرَهُ أَحَدٌ﴾ ، ﴿أَلَمْ يَعْلَم بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى﴾ وصدق الإمام أحمد رحمه الله تعالى حيث أنشد يقول:

إذا ما خلوت الدهر يوماً فلا تقل *** خلوت ولكن قل علي رقيب

بلى يا عبد الله: إذا وقفت بين يدي الله يوم القيامة، فإنه يُعرض عليك كتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، ﴿يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَراًّ وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً﴾ .

فاتقوا الله عباد الله، وحقِّقوا طاعتَه تفلحوا، واجتنبوا معاصيَه تسعَدوا، وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً

الخطبة الثانية :

الحمد لله:

عباد الله: إن أضرار المعاصي، وشؤم الذنوب عظيمٌ وخطير، فهي موجبةٌ للذل والحرمان، جالبة للصد عن سبيل الرحمن، تفسد القلوب وتورث الهوان، سلاّبة للنعم، جلاّبة للنقم، مورثة لأنواع عظيمة من الفساد، ومحلة لأنواع من الشرور والمصائب في البلاد، تعمي البصيرة، وتسقط الكرامة، توجب القطيعة، وتمحق البركة، فكم سببت من قلة، وأورثت من ذلة، وسودت من وجه، وأظلمت من قلب، وضيقت من صدر، وعسّرت من أمر، وحرمت من علم، ما لم يتب العبد منها ويرجع إلى الله تعالى خائفاً وجلاً تائباً طائعاً.

عباد الله: إن العز كل العز في طاعة الله ﴿مَن كَانَ يُرِيدُ العِزَّةَ فَلِلَّهِ العِزَّةُ جَمِيعاً﴾.

قال الحسن البصري: "إنهم وإن طقطقت بهم البغال، وهملجت بهم البراذين، فإن ذل المعصية لا يفارق قلوبهم، أبى الله إلا أن يذل من عصاه".

وإن الذنوب إذا تكاثرت طُبع على قلب صاحبها، فكان من الغافلين، فلا يعرف معروفاً، ولا ينكر منكراً ﴿كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾.

فاعلموا يا عباد الله: أن المعاصي سببُ كل عناء، وطريق كل تعاسة وشقاء، ما حلت في ديار إلا أهلكتها، ولا فشت في مجتمعات إلا دمرتها وأزالتها، وما أهلك الله تعالى أمة إلا بذنب، وما نجى من نجى، وفاز من فاز، إلا بتوبة وطاعة، فإن ما أصابنا من ضُرّ وضيق في كل مجال من المجالات، فردياً كان أو جماعياً، إنما بسبب معاصينا وإهمالنا لأوامر الله عز وجل، ونسياننا شريعته. وصدق الله ﴿وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ﴾ ﴿ظَهَرَ الفَسَادُ فِي البَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾.

عباد الله: إذا أردنا أن يغيِّر الله حالنا من قحط إلى غيث، ومن جدب إلى أمطار، ومن غلاء إلى رخص، ومن قلة ذات اليد، إلى كثرة، فعلينا أن نغيّر حالنا، فنصلح ما فسد، ونطهِّر قلوبنا من الغل والحقد والحسد، نقيم الصلاة، نؤتي الزكاة، نأمر بالمعروف وننهى عن المنكر، جدير بنا أن نغيث قلوبنا ليحل الغيث بأرضنا وبلادنا، ذلكم هو مفتاح القطر من السماء، وسبب رفع البلاء، ووعد الله لا يُخلف، قال تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ القُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ﴾.

فاتقوا الله عباد الله: وتوبوا إلى بارئكم، واستغفروه من جميع معاصيكم في حاضركم وماضيكم، وفروا إليه وحثوا الخطى، فإنه سبحانه يقول ﴿وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى﴾ واحذوا أسباب سوء الخاتمة، فإنها والله الحادثة القاصمة.