الزكاة حكم وأحكام

بسم الله الرحمن الرحيم

الزكاة حكم وأحكام

الحمد لله الذي جعل المال عونًا للمؤمن على أمور دينه ودنياه، سبحانه من إله أعطى الكثير كرمًا منه وإحسانًا، وفرض الزكاة على عباده ابتلاءً وامتحانًا، ولطفًا بالمؤمنين وامتنانًا، أحمده سبحانه على نعمه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا كثيرًا.

أيّها المسلمون: الإسلام دينُ الملّةِ المستقيمة، والشريعةِ العادِلة، تتجلَّى في أحكامِه حِكَمُه، وفي تشريعاتِه محاسِنُه، وفي تكاليفِه آثارُه ومقاصده وفضائلُه، وفي أركانه عظَمَته ورِفعته، ورُكن الزّكاة هو ثالِث أركان الإسلام، ومبانِيهِ العِظام، فريضةٌ واجِبة، في آيٍ وأَخبار، وإجماعِ علَماء المسلمين على مرِّ الأعصَار، حقٌّ معلوم، وجُزء مَقسوم، وسَهم محتوم، أوجَب الله على كلِّ من ملَك نصابًا إخراجَه، إلى من لا مالَ له يَقيه، ولا كِفاية عِنده تُسعِفه وتحميه، وِقايةً لمالِ المزَكّي من الآفات، وسَببًا للزيادة والتَّضعيف وحصولِ البركات. في إيجابِها مواساةٌ للفقراء، ومَعونة للبُؤَساء والضعفاء، وصِلة بين ذوِي الحاجاتِ والأغنياء، وعونٌ على مجانبة البخل والشّحِّ والإباء عن العطاء. كم سدَّت مِن خَلّة، وكَم جبرت من فاقَة، وكم فرَّجت عن معسِر كُرِب، ومِسكينٍ مدقِع، وفقير مملِق، فضائلُها لا تعَدّ، وبَركاتها لا تحَدّ.

يجِب إخراجُها علَى الفَور، بوضعِها في مواضِعها، وصرفِها في مصارِفها، وإيصالها إلى مستحقِّيها، وهم ثمانِيَةُ أصناف، لا يجوز صرفُها إلى غيرِهم ، وهم المذكورون في قوله تعالى ﴿إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ

مَن جحَد وجوبَها كفَر، ومن منعها أخذها منه الإمام قَهرًا، ومَن حبسها تهاونًا، وأمسَكَها تكاسلاً، وكتمَها بخلاً، وغيَّبها شحًّا، أو أنقَصَها أو أخَّرها عن وقت وجوبها، مع إمكانِ أدائها، وداعي إِخراجها، فهو عاصٍ وآثم، ومعتدٍ وظالمٌ، لا يسلَم مِن تبِعَتها، ولا يخرج من عُهدتها، إلاّ بإخراجِ ما وجَب في ذمّتِه منها، وتعلَّق بماله من حقِّها. ومَن مضَت عليه سنون لم يؤدِّ زكاتَها، لزِمَه إخراجُ الزكاة عن جميعها، والتّوبةُ والاستغفار عن تأخيرِها.

عبد الله : يا مَن جمع المال وأوعَاه، ومنَع حقَّ الله فيه وأوكاه، وكنزه وأخفاه، سَتَنال عِقاب ما بخِلت، وستُعايِن شؤمَ ما عمِلتَ ﴿وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (34) يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ﴾ .

وفي البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسولُ الهدَى صلى الله عليه وسلم : «من آتَاه الله مالاً فلم يؤدِّ زكاتَه مُثِّل له يومَ القيامة شجاعًا أقرَع له زبيبتان، يُطوّقه يومَ القيامة، ثمّ يأخذ بِلَهْزَمَتيْهِ ـ يعني بشِدقَيه ـ ثم يقول: أنا مالُك أنا كنزك»، ثم تلا: ﴿وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَّهُم بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ القِيَامَةِ﴾ ، وعنه رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم : «ما مِن صاحبِ ذهبٍ ولا فضّة لا يؤدِّي منها حقَّها إلا إذا كان يوم القيامة صفِّحَت له صفائِح من نار فأحمِي عليها في نار جهنَّم، فيُكوَى بها جَنبه وجبينُه وظهره، كلَّما رُدَّت أُعيدت له، في يومٍ كان مقداره خمسين ألفَ سنة، حتى يُقضَى بين العباد فيرى سبيله إمّا إلى الجنّة وإمّا إلى النّار، ولا صاحبِ إبلٍ لا يؤدِّي منها حقَّها ـ ومِن حقِّها حلبُها يومَ وِردِها ـ إلاّ إذا كان يوم القيامة بُطِح لها بقاعٍ قَرقَرٍ أَوفرَ ما كانَت، لا يفقِد منها فصِيلاً واحدًا، تطؤُه بأخفافِها وتعضّه بأفواهها، كلّما مرَّ عليه أُولاها رُدَّ عليه أخراها، في يومٍ كان مقداره خمسين ألفَ سنَة، حتى يقضَى بين العباد فيرى سبيلَه إمّا إلى الجنّة وإمّا إلى النار، ولا صاحب بَقَر ولا غنَم لا يؤدّي منها حقَّها إلا إذا كان يوم القيامة بُطِح لها بقاع قَرقَر لا يفقِد منها شيئًا، ليس فيها عَقصاء ولا جَلحاءُ ولا عَضباء، تنطَحُه بقرونها وتطؤُه بأظلافها، كلّما مرَّ عليه أُولاها رُدَّ عليه أُخراها، في يومٍ كان مقداره خمسين ألفَ سنة، حتى يقضَى بين العباد فيَرى سبيلَه إمّا إلى الجنّة وإمّا إلى النار» أخرجه مسلم

يا مانِع الزَّكاة، أنسِيتَ أن الأموالَ عارِيَة عند أربابها وودِيعة عند أصحابها؟! أنَسيتَ أنّ الزّكاة يعود نفعُها عليك ويرجِع ثوابها إليك؟! فحذارِ حذار أن تكونَ ممّن يراها نقصًا، ويعدّها غُرمًا وخسارًا، فلا ينفِق إلاّ كرهًا، ولا يرجو لما يُعطي ثوابًا.

يا عَبد الله، زكِّ مالَك بإخلاصٍ واحتساب، زكِّ مالَك بانشراحٍ وطِيب نفسٍ رجاءَ الثّواب، كما عند أبي داود من حديث عبدِ الله بنِ معاوية رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «ثلاثةٌ من فعلَهنّ فقد طعِم طعمَ الإيمان: من عبد الله وحدَه وأنّه لا إله إلا الله، وأعطى زكاةَ ماله طيِّبةً بها نفسُه، رافِدَةً عليه كلَّ عام، ولا يعطي الهرِمة ولا الدَّرِنة، ولا المريضة ولا الشّرط اللئيمة، ولكن من وسَط أموالِكم، فإنَّ الله لم يسأَلكم خيرَه ولم يأمُركم بشرِّه» يا أهلَ المال والرِّياش، والكسب والمعاش، ارحموا السائلَ المحروم، وأَعطوا الفقيرَ المعدوم، وتصدَّقوا على المسكين المهموم، الذي لا يجِد ما يقوم به وكِفايَتِه وكفاية من يمون. يا أهلَ البَذل والسّخاء، والإنفاق والعَطاء، أبشِروا بحسنِ الجزاءِ والخَلَف والبركة والنّماء، فقد قال الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم : «ما نقَصَت صدقةٌ من مال» أخرجه مسلم ، اللهم ....................

الخطبة الثانية:

الزّكاة شعيرة كبيرةٌ، وعبادة عظيمة، فريضةٌ دوريّة منتظِمة، مقاصِدها إغناء الفقراء وذوي الحاجات، هي حقٌّ للفقراء في أموالِ الأغنياء، ليس فيها معنًى مِن معاني التفضُّل والامتِنان، وليست إحسانًا اختياريًّا، إنّما فريضةٌ تتمتّع بأعلى درجاتِ الإلزامِ الخلُقيّ والشرعيّ.

عباد الله: في إخراج الزكاة تطهير المال من موجبات تلفه وآفات زواله، وذلك من أسباب حلول البركة فيه، وسرعة كثرته ونمائه، ففي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما نقصت صدقة من مال». وفي غيره «بل تزده»، وقال تعالى: ﴿وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ

عباد الله : مانع الزكاة متشبه بالمشركين الذين توعدهم الله بقوله: ﴿وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ (6) الَّذِينَ لاَ يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُم بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ﴾ ومتشبه بالمنافقين المذمومين في قول الله المبين: ﴿وَلاَ يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ﴾ ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم : «خمس خصال إن ابتليتم بهن، وأعوذ بالله أن تدركوهن - وذكر منهن -ولم يمنع قوم زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء, ولولا البهائم لم يمطروا» رواه ابن ماجه والبزار والبيهقي عن عبد الله بن عمر.

فيا مَن أنعم الله عليهم بالنّعم المتوافِرة وفضّلهم بالأموالِ المتكاثِرة، تذكّروا الأيتامَ والضعفاء، والأراملَ والفقراء، فلهم في أموالِكم حقوق مفروضةٌ، وواجبات لازمة، أنتم مسؤولون عنها ومحاسَبون عليها.

أيّها المسلمون: الزّكاةُ أنواع وأقسامٌ، ومسائِل وأحكام، فاسأَلوا أهلَ العلم عمَّا أشكَل، وراجِعوا أهلَ الذّكر عمَّا أقفَل، واستعينوا بالعلم على أداءِ الواجب وبالصّبر على شكرِ الواهِب . فالزّكاة تجِب في الأثمانِ وهما الذّهب والفضّة بأنواعهما، ويلحَق بهما الأوراق الماليّة التي جعلها الناس أثمانًا وأقيامًا، كما تجب في الخارجِ من الأرضِ مِن كلّ حبّ وثمَر يُكال ويدَّخر، كما تجِب في بهيمةِ الأنعام وعروض التّجارة وهي كلّ ما أُعِدّ للبيع والاكتساب أيًّا كان نوعُها، سواء كانت من العقارات كالأراضي والدّور أو كانت من غيرها، فإذا حال الحولُ على هذه العروض قوِّمت قيمةَ السوق وأخرَج مالكها زكاتَها من مقدار قيمتِها ربعَ العشر، أمّا من أعدّ عقارًا للإيجار لا للبَيع والاتّجار فالزّكاة في أجرةِ العقار إذا حال عليها الحول.

فاتقوا الله عباد الله، وأدوا زكاة أموالكم طيبة بها نفوسكم، تفوزوا بخيرها وبركتها وثوابها في الدنيا والآخرة، ويكفيكم قول الله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ﴾ إلى قوله: ﴿أُوْلَئِكَ هُمُ الوَارِثُونَ (10) الَّذِينَ يَرِثُونَ الفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ .