النهي عن التشبه بالكفار

بسم الله الرحمن الرحيم

النهي عن التشبه بالكفار

الحمد لله الواحد القهار، العزيز الغفار، أحمده على نعمه الكثيرة العظيمة الغزار ﴿سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً﴾ ﴿وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ﴾ وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، خصنا ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم أشرف النبيين والمرسلين، وجعلنا مسلمين، وأتم علينا النعمة وأكمل لنا الدين، ونهانا عن التشبه بالكفار والمشركين، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، أرسله الله رحمة للعالمين، فهدى به من الضلالة، وبصّر به من العمى، وجمع به بعد الفرقة، وألّف به بعد الشتات، فأغنى به بعد عيلة، وكثّر به بعد قلة، وأعز به بعد ذلة. نبي شرح الله له صدره، ووضع عنه وزره، ورفع له ذكره، وجعل الذلة والصغار، والخيبة والخسار، إلى يوم القيامة على من خالف أمره. صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، ومن تمسك بسنته، واهتدى بهديه إلى يوم الدين وسلم تسليما كثيرا ... أما بعد:

عباد الله: لقد بعث النبي صلى الله عليه وسلم بالأمر بالتوحيد، والبراءة من الشرك، ولقد كان من أوائل ما نزل عليه من القرآن قوله سبحانه ﴿وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ﴾ فأمره سبحانه أن يهجر الشرك وأهله، ذاك أنه لا يمكن أن يجتمع الشرك والإيمان، فإذا وقع هذا رفع ذاك، كما أن الليل والنهار لا يجتمعان فكذلك الشرك والإيمان.

ولقد جعل الله الهجرة من بلد الشرك إلى بلد الإسلام أمراً لا زما لا شك فيه، فمن لم يهاجر فقد قال الله تعالى ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ المَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً﴾ وقد قال صلى الله عليه وسلم : «أنا بريء من رجل مسلم يقيم بين أظهر المشركين».

عباد الله: لقد جاء دين الإسلام آمراً أتباعه بالبعد عن كل ما فيه تقريب من الشرك، وجاء بالنهي عن كل ما فيه مشابهة للمشركين أو مماثلة لهم، جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم مدة يصلي إلى بيت المقدس وهي قبلة اليهود، وكان صلى الله عليه وسلم يود لو استقبل الكعبة، فلما أمره الله باستقبالها مخالفة لليهود، غضبت يهود وقالوا ﴿مَا وَلاَّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَتِي كَانُوا عَلَيْهَا﴾ ولما كثر الناس بالمدينة اهتم النبي صلى الله عليه وسلم للصلاة، كيف يجمع الناس لها ؟ فقيل له: انصب راية عند حضور الصلاة فإذا رأوها آذن بعضهم بعضاً، فلم يعجبه ذلك، فذكروا له القُنْع وهو شَبُّور اليهود، فلم يعجبه ذلك، وقال: هو من أمر اليهود، قال: فذكروا له الناقوس، فقال: هو من فعل النصارى، إلى أن أُرِي عبدُ الله بنُ زيد الآذان في منامه.

ولما جاء عمرو بن عبسة إلى رسول صلى الله عليه وسلم ليخبره عن الصلاة، قال له: «صَلِّ صَلَاةَ الصُّبْحِ، ثُمَّ اقْصِرْ عن الصَّلَاةِ حتى تَطْلُعَ الشَّمْسُ حتى تَرْتَفِعَ، فَإِنَّهَا تَطْلُعُ حين تَطْلُعُ بين قَرْنَيْ شَيْطَانٍ، وَحِينَئِذٍ يَسْجُدُ لها الْكُفَّارُ ، ثم قال: صَلِّيَ صلاة الْعَصْرَ، ثُمَّ اقْصِرْ عن الصَّلَاةِ حتى تَغْرُبَ الشَّمْسُ، فَإِنَّهَا تَغْرُبُ بين قَرْنَيْ شَيْطَانٍ، وَحِينَئِذٍ يَسْجُدُ لها الْكُفَّارُ» فنهاه النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة وقت طلوع الشمس، ووقت غروبها؛ لأنه وقت يصلي فيه الكفار.

عباد الله: لقد قطع الإسلام مادة المشابهة للكفار من أصلها، ففي (خ م) من حديث ابن عمر قال صلى الله عليه وسلم : «خَالِفُوا الْمُشْرِكِينَ أَحْفُوا الشَّوَارِبَ وَأَوْفُوا اللِّحَى».

وعند (د) عن شَدَّادِ بن أَوْسٍ قال: قال رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : «خَالِفُوا الْيَهُودَ فَإِنَّهُمْ لَا يُصَلُّونَ في نِعَالِهِمْ ولا خِفَافِهِمْ».

وخرّج (م) عن عَمْرِو بن الْعَاصِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال : «فَصْلُ ما بين صِيَامِنَا وَصِيَامِ أَهْلِ الْكِتَابِ أَكْلَةُ السَّحَرِ».

وعند (د جه) عن أبي هُرَيْرَةَ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لَا يَزَالُ الدِّينُ ظَاهِرًا ما عَجَّلَ الناس الْفِطْرَ لِأَنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى يُؤَخِّرُونَ».

وعند (م) عن أَنَسٍ: أَنَّ الْيَهُودَ كَانُوا إذا حَاضَتْ الْمَرْأَةُ فِيهِمْ لم يُؤَاكِلُوهَا ولم يُجَامِعُوهُنَّ في الْبُيُوتِ فَسَأَلَ أَصْحَابُ النبي صلى الله عليه وسلم النبي صلى الله عليه وسلم فَأَنْزَلَ الله تَعَالَى ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ المَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي المَحِيضِ﴾ إلى آخِرِ الْآيَةِ فقال رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : «اصْنَعُوا كُلَّ شَيْءٍ إلا النِّكَاحَ» فَبَلَغَ ذلك الْيَهُودَ فَقَالُوا: ما يُرِيدُ هذا الرَّجُلُ أَنْ يَدَعَ من أَمْرِنَا شيئا إلا خَالَفَنَا فيه.

عباد الله: لقد جاءت أوامر الشريعة ناهية عن كل ما فيه مشابهة؛ حتى في أخص عبادات المسلمين ومعاملاتهم، أفيرضى عاقل بعد ذلك أن يوافق اليهود أو النصارى في أعيادهم وأكاذيبهم، خرّج (م) من حديث جَابِرٍ بن عبد الله قال: اشْتَكَى رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَصَلَّيْنَا وَرَاءَهُ وهو قَاعِدٌ وأبو بَكْرٍ يُسْمِعُ الناس تَكْبِيرَهُ فَالْتَفَتَ إِلَيْنَا فَرَآنَا قِيَامًا فَأَشَارَ إِلَيْنَا فَقَعَدْنَا فَصَلَّيْنَا بِصَلَاتِهِ قُعُودًا فلما سَلَّمَ قال : «إن كِدْتُمْ آنِفًا لَتَفْعَلُونَ فِعْلَ فَارِسَ وَالرُّومِ، يَقُومُونَ على مُلُوكِهِمْ وَهُمْ قُعُودٌ فلا تَفْعَلُوا، ائْتَمُّوا بِأَئِمَّتِكُمْ».

ولما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، وجد اليهود يصومون يوم عاشوراء، فأمر الناس بصيامه، ثم قال: «صوموا يوم عاشوراء وخالفوا فيه اليهود، صوموا يوما قبله أو يوما بعده».

عباد الله: إن اليهود والنصارى لا يقر لهم قرار حتى يفسدوا على الناس دينهم ﴿وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداًّ مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم﴾ ، ﴿وَلَن تَرْضَى عَنكَ اليَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ﴾.

وإن المسلمين – عباد الله – أهدى الناس طريقاً، وأقومهم سبيلا، وأرشدهم سلوكا في هذه الحياة، وقد أقامهم الله تعالى مقام الشهادة على الأمم كلها ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً﴾ فكيف يتناسب مع ذلك أن يكون المسلمون أتباعا لغيرهم من كل ناعق، يقلدونهم في عاداتهم، ويحاكونهم في أعيادهم وتقاليدهم، ورسول الله صلى الله عليه وسلم نهى المسلمين جميعا أن يتلقوا عن أهل الكتاب، فعن جابر أن عمر بن الخطاب أتى النبي صلى الله عليه وسلم بكتاب أصابه من بعض أهل الكتاب فقرأه عليه، فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: «أوفي شك يا ابن الخطاب، لقد جئتكم بها بيضاء نقية، لا تسألوهم عن شيء فيُخبرونكم بحق فتكذبوا به، أو بباطل فتصدقوا به، والذي نفسي بيده، لو أن موسى كان حيا ما وسعه إلا أن يتبعني».

الخطبة الثانية:

الحمد لله :

عباد الله: إن ظاهرة التشبه بأعداء الدين من اليهود والنصارى، والمجوس والمنافقين، وسائر المشركين –في هذا الزمن – من الظواهر البارزة الملفتة للنظر، والتي تقتضي من كل عاقل عظيم الحذر، لما تشتمل عليه من نذر الخطر، وموجبات الشر، وعظيم الضرر، فإن ظهور التشبه بأعداء الله من أهل الكتاب والمشركين من فرد أو مجتمع أو أمة، دليل على قلة العلم، وضعف الإيمان، وانحراف الفطرة، وعلامة على مرض القلوب، وعمى البصائر، واختلال المقاييس، وانقلاب الموازين، ومظهر من مظاهر كفران النعم، وغلبة الهوى، وإيثار الأولى على الأخرى؛ ذلكم لأن تشبه إنسان بآخر يدل على تعظيمه والإعجاب بما هو عليه من الضلال والباطل، وسبب من أسباب التشبه به في الباطن، وموافقته في الأقوال والأفعال والأحوال، ومن آثار شعور المسلم بالذلة والهوان، وقد قال الله ﴿وَلِلَّهِ العِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ﴾ وقال سبحانه ﴿وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ﴾ .

فكيف يليق بمسلم شرح الله صدره للإسلام، وأكرمه بالإيمان، فجعله على نور من ربه، ومن خير أمة أخرجت للناس، خصها الله بخاتم النبوة، وأشرف الرسل، وأكمل الأديان، وأجل الكتب، وأعظم الشرائع، وأحسن الأحكام، التشبه بمن اتخذ إلهه هواه، وأضله الله على علم، وختم على سمعه وقلبه، وجعل على بصره غشاوة، ووصفهم بقوله ﴿أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً﴾ بل هم شر الدواب كما قال سبحانه ﴿إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ﴾ ، ﴿وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ﴾ ، ﴿أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ﴾ .

عباد الله: إن ترك التشبه بأعداء الله، والالتزام بمخالفتهم في هديهم وطريقتهم، وما كانوا عليه من الاعتقادات والأخلاق والأعمال الباطلة، دليل على عزة المسلم بدينه، واغتباطه بنعم الله عليه، ورضاه بالله ربا، وبافسلام دينا، وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولا، وذلك من أسباب ظهور الحق، وانتشار الهدى بين الخلق، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يخالف اليهود والنصارى خاصة، وغيرهم من المجوس وأهل الشرك عامة.

فاتقوا الله عباد الله: وخذوا بسنة نبيكم صلى الله عليه وسلم في لزوم الحق والتمسك به والصبر عليه، ومخالفة أهل الكتاب والمشركين، والبعد عن التشبه بهم في كل أمر، تفلحوا فترحموا، وترزقوا وتنصروا في الدنيا والآخرة ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾.