رمضان والقرآن

بسم الله الرحمن الرحيم

رمضان والقرآن

فلقد امتن الله تعالى علينا بنعمة جليلة، ومنة عظيمة حق لنا أن نفرح بها ونعلن اغتباطنا بها، حين أنزل القرآن الكريم على عبده ونبيه محمد صلى الله عليه وسلم ﴿يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ (57) قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ﴾ .

ولو تأملنا فيما ورد من الفضائل لهذا الكتاب العزيز لرأينا عجباً، فهو الكتاب الذي لو أنزل على الجبال الرواسي لتصدعت وخشعت ﴿لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا القُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُّتَصَدِّعاً مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ﴾ وهو الكتاب الذي تكفل الله سبحانه بحفظه ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ .

وهو الكتاب المهيمن على ما عداه من الكتب التي أنزلها الله جل وعلا: ﴿وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ﴾ وعند مسلم من حديث زيد بن أرقم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ألا وإني تارك فيكم ثقلين: أحدهما كتاب الله عز وجل، هو حبل الله، ومن اتبعه كان على الهدى، ومن تركه كان على ضلالة».

وكان صلى الله عليه وسلم إذا خطب يقول: «أما بعد، فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد» (م)، فمن أراد النجاة والفلاح، فعليه بكتاب الله تعالى، ومن أراد الخير الكثير، والأجر الوفير ،فليقرأ كتاب الله تعالى ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِراًّ وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ (29) لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ﴾ .

وعن أبي موسى قال صلى الله عليه وسلم «مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن مثل الأترجة، ريحها طيب وطعمها طيب، ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن كمثل التمرة لا ريح لها وطعمها حلو» متفق عليه.

ومن قرأ القرآن ماهراً به فهو مع السفرة الكرام البررة، فعن عائشة قال صلى الله عليه وسلم «الذي يقرأ القرآن وهو ماهر به مع السفرة الكرام البررة، والذي يقرأ القرآن ويتتعتع فيه وهو عليه شاق له أجران» متفق عليه. وعن أبي هريرة قال صلى الله عليه وسلم «أيحب أحدكم إذا رجع إلى أهله أن يجد فيه ثلاث خلفات عظام سمان؟ ، قلنا: نعم ، قال: فثلاث آيات يقرأ بهن أحدكم في صلاة خير له من ثلاث خلفات عظام سمان» (م)

قال قتادة رحمه الله: اعمروا به قلوبكم، واعمروا به بيوتكم ، وكان أبو هريرة يقول: إن البيت ليتسع على أهله وتحضره الملائكة، وتهجره الشياطين، ويكثر خيره، أن يقرأ فيه القرآن، وإن البيت ليضيق على أهله، وتهجره الملائكة، وتحضره الشياطين، ويقل خيره، أن لا يقرأ فيه القرآن.

وللقرآن الكريم مع أهله يوم القيامة مواقف عجيبة فعند مسلم من حديث أبي أمامة: «اقرؤوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه» وعنده من حديث النواس بن سمعان: «يؤتى يوم القيامة بالقرآن وأهله الذين كانوا يعملون به في الدنيا تقدمه سورة البقرة وآل عمران تحاجان عن صاحبهما» .

وعند تلاوة القرآن ومدارسته تتنزل الملائكة والسكينة والرحمة، فعن البراء بن عازب قال: كان رجل يقرأ سورة الكهف وعنده فرس مربوط بشطنين، فتغشته سحابة فجعلت تدنو وجعل فرسه ينفر منها فلما أصبح أتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر له ذلك، فقال: «تلك السكينة تنزلت للقرآن» متفق عليه

وفي تلاوة القرآن الكريم أمان بإذن الله من الغفلة «من قام بعشر آيات لم يكتب من الغافلين، ومن قام بمائة آية كتب من القانتين» أبو داود وصححه الألباني.

عباد الله، ومما يؤكد المكانة السامية لهذا القرآن أن خير الناس من تعلم القرآن وعلمه كما أخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم ، وأهل القرآن لهم المكانة والرفعة «إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواماً ويضع به آخرين» مسلم.

وقد كان من هدي السلف الإكثار من قراءة القرآن، ففي الصحيحين من حديث عبدالله بن عمرو بن العاص أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: «اقرأ القرآن في كل شهر قال: قلت: يا نبي الله إني أطيق أفضل من ذلك. قال: فاقرأه في سبع، ولا تزد عن ذلك». وثبت عن ابن مسعود وعثمان وتميم الداري وجمع من أئمة التابعين أنهم كانوا يختمون القرآن في سبعة أيام.

عباد الله، إن القلب يصدأ ويقسو، والنفس تضعف، وتهبط بها دواعي الشهوات، ومشاغل الدنيا، وما أحوجنا إلى ما يصلح نفوسنا، ويلين قلوبنا، ويربطنا بخالقنا سبحانه. وما تقرب عبد إلى ربه بأفضل من تلاوة كتابه والوقوف عند معانيه والتـدبر في آياته.

الخطبة الثانية:

أما بعد: فاتقوا الله واشكروه على نعمة إنزال القرآن، الذي جعله الله ربيع قلوب أهل البصائر والإيمان.

فهو كما قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه في وصفه: "هو كتاب الله، فيه نبأ من قبلكم، وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم، هو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله، وهو حبل الله المتين، وهو الذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم، وهو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به الألسنة، ولا يشبع منه العلماء، ولا يخلق عن كثرة الرد، ولا تنقضي عجائبه، وهو الذي لم تنته الجن إذ سمعته حتى قالوا: ﴿إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ﴾ من قال به صدق، ومن عمل به أجر، ومن حكم به عدل، ومن دعا إليه هدي إلى صراط مستقيم".

القرآن روح يحيي به الله قلوب المتقين ﴿أَوَمَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا﴾.

القرآن نور تشرق به قلوب المؤمنين، ويضيء السبيل للسالكين المتقين، وذلك لا يكون إلا لمن تمسك به فعمل بأوامره وانتهى عن زواجره ﴿فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾.

القرآن فرقان يفرق بين الحق والباطل، وبين الهدى والضلال، وبين الغي والرشاد، وبين العمى والإبصار، وهو فرقان فرق الله فيه وبه بين المؤمنين الأبرار، وبين الكافرين الفجار ﴿تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً﴾ .

فحافظوا على تلاوة القرآن، واستكثروا من ذلك، فإن تلاوة القرآن تجلو القلوب وتطهرها وتزكيها، وتحمل المرء على فعل الطاعات وترك المنكرات، وترغبه فيما عند رب البريات.

عباد الله: إن من حقوق هذا الكتاب العظيم والفرقان المبين تدبر معانيه، قال الله تعالى: ﴿كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ﴾ .

وعن حذيفة «أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى فكان إذا مرّ بآية رحمة سأل، وإذا مرّ بآية عذاب استجار، وإذا مرّ بآية فيها تنزيه لله سبح». النسائي وصححه الألباني.

ومما يعين على تدبر القرآن تحسين الصوت في قراءته، وقد أجمع العلماء على استحباب تحسين الصوت بالقراءة وترتيلها، وعن أبي هريرة: «ما أذن الله لشيء ـ أي استمع ـ ما أذن لنبي حسن الصوت يتغنى بالقرآن يجهر به» البخاري ومسلم. وعنه: «ليس منا من لم يتغن بالقرآن» البخاري

فاتقوا الله عباد الله، وتدبروا كتابه العظيم، فإنه لا يحصل الانتفاع بالقرآن إلا لمن جمع قلبه عند تلاوته وسماعه، واستشعر أنه خطاب ربه جل وعلا إلى رسوله.