عقوبة السرقة وحكمتها (2)

بسم الله الرحمن الرحيم

عقوبة السرقة وحكمتها (2)

عباد الله: مشكلة اجتماعية، عانى ويعاني منها المجتمع اليوم بشكل واضح، البيوت والمتاجر، والجوالات والسيارات، بل حتى المساجد لم تسلم منها، الكبير والصغير، الذكر والأنثى، تعرض أو قد يتعرض لها بشكل أو بآخر، إنها مشكلة السّرقة، التي تقدم في الجمعة الماضية الحديث عن عقوبتها والحكمة منها.

عباد الله: في الإسلام دعوةٌ للمسلم لاحترامِ أموالِ الآخرين، وحِفظِها وصيانتِها، وأنّ هذا من الضروريّات التي دعا الإسلام إليها، فأموالُ المسلمين حرامٌ التعدِّي عليها، إتلافًا أو اغتصابًا أو غشًّا أو خِيانة أو سَرِقة.

ولأجلِ هذا حُرِّمَت سرقةُ أموال المسلمين، وجُعِلت السرقة كبيرةً من كبائر الذنوب، جريمةً من الجرائم الأخلاقيّة، التي لا يتَّصف بها ذو دينٍ صحيح، واستقامةٍ على الخير؛ ذلكم أنَّ السرقة خلُقٌ ذميم رذيل، السارقَ عضوٌ فاشلّ في مجتمعه، لا يعوَّل عليه، ولا يطمأَنّ له، ولا يركَن إليه، عطّل سمعَه وبصره وعقلَه، وسخرها في أخذ ما عند الناس بخسة ودناءة، بل سخَّرها في أمور رديئة رَذيلة.

عباد الله: إنَّ السارقَ قد ارتكب خُلقًا سيّئًا، ضعُفت نفسه عن العمل والإنتاج، ضعُفت عن التنافسِ في سبُل الخير، ولَجَأ إلى هذه الطّرُق التي يعرِّض فيها دينَه وحياتَه وسمعتَه، وإن نال منَ السرقة ما نال، فمال حرام سحتٌ وظلم وعدوان، يجعَل قلبَه دائمًا يلهَث، لا يقنَع بالحلال، ولا يطمئنّ إليه، بل لو خيِّر بين مَكسب الحلالِ والحرام، لكان الحرامُ عنده أحسنَ وألذَّ؛ لأنَّ فطرتَه قد انتكسَت وانعكست والعياذ بالله ﴿أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً﴾ .

عباد الله: يدٌ خبيثة تمتدّ إلى أموال الناس، تُروّع الآمنين، وتأكل أموالَهم ظلمًا وعدوانًا، وربما زيَّنت له نفسُه الخبيثة، أن يتوصَّل إلى جريمتِه بسفكِ الدماء، وقتلِ الأبرياء، ونحوِ ذلك مما يترتَّب على هذا البلاءِ، ذلك أنّه قد يواجَه بمن لا يمكِّنه من فعلِه، فليجَأ إلى القتل، فيرتكِب الآثام بعد الآثام، وإنَّ السيئة لتدعو أختها؛ ولهذا جعل الله قطعَ يدِ السارقِ عقوبةً له على هذا الظلمِ، هذه اليدُ التي لو جُنِي عليها، لوجب فيها نصفُ الدّية، فإذا سرقَت وخانت، هانَت وحُكِم بقطعها وبَترها، حتى يراه الآخرون، فيعتبِروا ويتَّعظوا، ويعلَموا أنّ هذا مآل السارقين وجزاؤهم في الدنيا، وما عندَ الله لهم من العقوبةِ إن لم يتوبوا أشد وأبقى، قال سبحانه ﴿وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ فتُقطَع يده اليمنى، حتى يسلَم الناس من شرِّه وبلائه.

ومحمّد صلى الله عليه وسلم سيِّد الأولين والآخرين، طبَّق هذا الحكمَ ونفَّذه، طاعةً لله وتحكيمًا لشرعه، وردعًا لمن تسوّل له نفسُه الإقدامَ على هذه الجريمة.

وقَطَع أمير المؤمنين عثمان بنُ عفان رضي الله عنه، يدَ سارِقٍ سرَق أترُجّة قوِّمَت بربعِ دينار.

عباد الله: هذا الحكمُ الشّرعيّ متى طبَّقه المسلِمون وحافظوا عليه، فإنهم يضمَنون حِفظَ الأموال، واستقرارَ الأمن وقوّتَه؛ لأنّ الأمةَ لا يمكن أن يستقرَّ لها قرار، إلا بتنفيذِ أحكام الله، فحدودُ الله التي شرعَها سبحانه رادِعة لأهل الإجرام، وحاجِزة بينهم وبين الاستمرار في رذائِلهم وقبائحهم. هذه الحدودُ قدَّرها العليم الحكيم ﴿أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الخَبِيرُ﴾. فحدودُ الله عدلٌ وخَير، ومصلَحَة للحاضِرِ والمستقبل، وعدلٌ لا ظلمَ فيها، وعندما يلمِزُ أعداء الإسلامِ أحكامَ الشريعة، ويعدّونها إذلالاً للإنسانيّة كما يزعمون، فإنهم بهذا يريدون الفوضويَّاتِ بكلِّ أنواعِها.

هكَذا جاءت شريعةُ الإسلام، لترسِيَ دعائمَ الأمن والاستقرار، وتقضيَ على الفساد، وتوجِّهَ المجتمع إلى الجدِّ في طلب الرّزق، والبُعد عن المسالك الخبيثةِ والطّرُق السّيّئة.

عباد الله: السُّرّاق وأمثالهم، عالةٌ على أمّتهم، عالة على مجتَمَعهم وأسَرِهم، أناس جعلوا همَّهم طلبَ المادّة بالطّرق السيّئة، وما ينالونه من تلكَ الأموال، لا يجعل الله فيها بركةً، بل هي أموالٌ خاسِرة وذاهِبة، مهما جمَعوها فلا بدّ أن يسلِّطَ الله عليها ما يفرِّقها، ويعود أرباُبها فقراءَ أذلاّء في الدنيا والآخرة.

أيّها المسلم، إنّ محمَّدًا صلى الله عليه وسلم أقام الحدودَ في مجتَمَعِه، وهي الحدود الصالِحة لكلِّ مجتمع، إلى أن تقومَ الساعة، فلا يقِي المسلمين شرَّ السّرَّاق والأراذل، إلا حدودُ الله إذا أقيمَت على أولئك ورُدِعوا بهذا الحدِّ الشّرعيّ.

الخطبة الثانية:

الحمد لله:

عبادَ الله: حدودُ الله جامِعة بين أمرَين: تدعُو إلى ارتداع المجرمين وإمساكِهم عن شرّهم، وهي طُهرة لمن أقيمَت عَليه، تمحِّصه وتطهِّره من جريمته، ولذا قال سبحانه في السّارق: ﴿فَمَن تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾.

عباد الله: لا يرتبط حل هذه المشكلة بالجهات الأمنية فحسب، لأنها جزء من الحل، فإن للمشكلة جوانبها الشرعية والاجتماعية، والاقتصادية والتربوية. فالمجتمع مسئول بأكمله عن حلّها، ومن الخطأ والظلم أن يتنصل أحد من المسؤولية.

وسوء التربية التي نعاني منها منذ سنوات، هي التي تظهر لنا اليوم هذا الكمّ الهائل من المشاكل، فتظهر المسلِم السارق، والذي يتعاطى المخدرات، والخائن، والزاني والمرابي والعاق، كلّ هذا من أسبابه سوء التربية، وما يحصل داخل البيوت في سنوات الطفولة، والغرس يتبين خارج البيوت حينما تشتد السواعد، من انصراف الأبوين أو أحدهما عن أبنائه، وعدم اتفاق الأبوين على كلمة سواء في التربية، أو ما يشهده البيت من قسوة الأب على أبنائه، أو ما تشهده بعض البيوت من انفصال الأبوين عن بعضهما وتبعات ذلك، والأب يتأخر عن البيت لساعات متأخرة للسمر واللهو، ويوكل التربية إلى القنوات الفضائية، وما تبثه في أخلاقهم من السموم، فماذا فعلت الأفلام التي جلها إجرام وسرقة، وسطو مسلح، ومخدرات وانتهاك أعراض؟! فمن الطبيعي أن يتأثّر الشاب المراهق بما يشاهده في كل يوم.

عباد الله: على المسلم الأخذ بالأسباب الشرعية والحسّية، في الوقاية من السرقة، فتحصينه لنفسه وأولاده وبيته بالأذكار، والأوراد الشرعية في الصباح والمساء، من أقوى الأسباب في دفع مثل هذه المصائب وغيرها. وليعلم العبد أن ما سرق منه فهو صدقة محتسبة بإذن الله.

فالحذَر الحذرَ ـ عباد الله ـ من كل مكسبٍ سيّئ، رَبُّوا شبابكم من صِغَرهم، وعوِّدهم على المروءة والشهامة، وجنِّبوهم طريقَ الرّذيلة، وأَغنوهم بما يكفّهم، كونوا صدورًا واسعة تحتضنهم، ربوهم على الاستقامة والعفة واحترام حقوق الآخرين، وبيان شناعة التعدي على أملاكهم، ربوهم على القناعة بما قسمه الله لهم من الرزق، وعلى تحمل المسؤولية من صغرهم، وعلى قدر أعمارهم، وعلى حبّ الخير للناس كما يحبونه لأنفسهم، ولا تقِرّوهم على الخطأ، خذُوا على أيديهم، وأبعدوهم عن رفاق السوء، وقربوهم إلى أهل الخير والصلاح. ووجِّهوهم التوجيهَ السّليم، فإن نشئوا على العفّة وسموّ الهمّة، نشئوا نشأةً صالحة، وإن نشئوا على هذه الرذائل، سيطَرَت على قلوبهم وأفكارهم، فأعيَاكم أن تخلِّصوهم منها، فربّوا الصّغار على الخيرِ، وحذِّروهم من الكسَل، ولا تدَعوهم في البيوت نومًا في النّهار، وسهرًا في الليل، وفضائيّات تدرِّب على كلِّ بلاء، خذوا على أيديهم ووجِّهوهم لعلَّ الله أن ينشِئهم على الخير والصلاح، فإنَّ العملَ شرَف للإنسان، والطّرُق الرذيلة هوان له.

اللهم إنا نسألك الله أن تعيذَنا من شرِّ أنفسنا، وأن تصلِح أقوالنا وأعمالنا، وأن تهديَ ضالَّ المسلمين وتثبِّت مطيعَهم وترزقَ الجميع التمسّك بالحقِّ والهدى.