عقوبة السرقة وحكمتها (1)

بسم الله الرحمن الرحيم

عقوبة السرقة وحكمتها (1)

عباد الله: لما كان الإسلام معنيا بتوفير الحياة الكريمة، والعيش المطمئن لكل الناس. كان لا بد من حماية الفضيلة، بالقضاء على الرذيلة، وكل ما من شأنه أن يدنس صفو الجماعة، التي أراد لها الإسلام: أن تكون نقية ناصعة. والغاية السليمة، تبرر الوسيلة الحازمة، ولو كانت شديدة قاسية. لأن القسوة ليست شرا في كل أحوالها. فإن من لا يراعي مصلحة الآخرين، ليس له أن يطمع في أن تراعى مصلحته ومن لا يرحم الناس لا يرحمه الشرع. لأن في الرحمة بالجاني حينئذ قسوة على المجتمع. والعدل كل العدل، في أن يعاقب من يستحق العذاب.

وليس أجدر بالعقاب، من ذلك النوع من المجرمين، الذين تقتضي طبيعة جرائمهم أن تتم في الخفاء كالسرقة، لما في خفائها من رهبة شديدة في نفوس الناس.

عباد الله: نفس الإنسان فطرت على حب المال، ولعل هذا هو الذي يدفع معظم الناس إلى العمل والكد. والإسلام دائماً يقوّم دوافع النفس حتى تنضبط، إما بالترغيب أو بالترهيب. من هنا حض الإسلام على الكسب الحلال ورغّب فيه، ورهّب من السرقة بهذه العقوبة، حتى يستقيم المجتمع بما فيه من بار وفاجر. وإن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن.

قال صلى الله عليه وسلم كما عند (خ م): «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن».

وعن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قطع في مجن قيمته ثلاثة دراهم ، وعن عائشة قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقطع يد السارق في ربع دينار فصاعداً وفي رواية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تقطع يد السارق فيما دون ثمن المجن». قيل لعائشة وما ثمن المجن قالت ربع دينار. وفي رواية قال: «اقطعوا في ربع دينار ولا تقطعوا فيما دون ذلك». وكان ربع الدينار يومئذ ثلاثة دراهم، والدينار اثني عشر درهماً.

وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لعن الله السارق الذي يسرق البيضة فتقطع يده، ويسرق الحبل فتقطع يده».

وعن عائشة قالت: كانت مخزومية تستعير المتاع وتجحده فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقطع يدها، فأتى أهلُها أسامةَ بن زيد فكلموه فيها، فكلم النبي صلى الله عليه وسلم فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «يا أسامة لا أراك تشفع في حد من حدود الله تعالى ثم قام النبي صلى الله عليه وسلم خطيباً فقال: إنما أهلك من كان قبلكم، أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف قطعوه، والذي نفسي بيده لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها».

وعن عبد الرحمن بن جرير قال: سألنا فضالة بن عبيد عن تعليق يد السارق في عنقه أمن السنة؟ قال: أتي النبي صلى الله عليه وسلم بسارق فقطع يده ثم أمر بها فعلقت في عنقه.

عباد الله: ومن هنا شاع الفساد وعمت الفوضى، عندما شاء الله لهذه الشريعة أن تحتجب بعض الوقت لحكمة يعلمها. فخلفتها القوانين الوضعية التي تجمع في باب واحد بين السرقة وقطع الطريق، وتتساهل في كلتا الحالتين إلى حد اعتبار السرقات من قبيل الاعتداء البسيط. ففتحوا على المجتمع أبواب شرور لا تتناهى، فأصبحت جرائم السرقة في مجتمع الوضعيين، من الجرائم المسلم بوقوعها على كثرةٍ تنذر بالخطر المروع، حتى فر الناس خوفا وذعرا من سكنى الأطراف، ولم يأمنوا مع ذلك، وهم في قلب المدن الكبيرة أما القرى النائية، والطرق العمومية، والمرتفعات الجبلية، فلا تسأل عما يُبتلى به الناس من تسليط عتاة المجرمين المتمردين. لأنهم تحاقروا العقوبة على أخطر جريمة.

عباد الله: كانت عقوبة السارق: قطع يده، دون غيرها من العقوبات. لأجل المناسبة بين الجريمة والعقوبة. وكان الشارع الحكيم قصد بذلك إلى إتلاف آلة الجريمة.

وكما يقول ابن القيم: " أما القطع فجعله عقوبة السارق. فكانت عقوبة به أبلغ وأردع من عقوبة الجلد. ولم تبلغ جنايته حد العقوبة بالقتل. فكان أليق العقوبات به: إبانة العضو الذي جعله وسيلة إلى أذى الناس وأخذ أموالهم".

فاتقوا الله عباد الله، وخافوا عقابه، ولا تغرنكم الحياة الدنيا، فالكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت.

اللهم إنا نسألك أن تحمينا وأمتنا من مساوئ الأخلاق، وعن موجبات سخطك وعقابك. بارك الله لي ولكم .......

الخطبة الثانية:

الحمد لله:

عباد الله: السرقة من الجرائم التي توافرت النصوص من الكتاب والسنة على تجريم فعلها، وتحديد العقوبة عليها، فليس لأحد إذا ما ثبت موجبها، أن يزيد فيها أو ينقص منها، أو يستبدل بها غيرها. وقد اتجهت الشريعة الإسلامية في هذه الجريمة إلى حماية الجماعة، وأهملت شأن المجرم. فشددت العقوبة عليه وجعلتها مقدرة محددة، من أجل القضاء على ما يتهدد الناس في أموالهم وما يتبع ذلك من إذلال وإرغام، فأحكم الشارع الحكيم وجوه الزجر الرادعة عن هذه الجناية غاية الإحكام، وشرعها على أكمل الوجوه، المتضمنة لمصلحة الردع والزجر، مع عدم مجاوزة ما يستحقه الجاني من العقاب. فلا بد أن يكون العقاب مكافئا للجريمة، ولا يتسنى تقدير ذلك إلا لله العليم الخبير.

ولو ترك تقدير العقوبة على السرقة إلى اجتهاد مجتهد، أو نظر حاكم، أو رأي جماعة، لأدى ذلك إلى تناقض لا تُؤمن عاقبته، ولا يُضمن معه تحقيق العدالة التي يجد الناس فيها أمانا من الظلم والقهر. فكان من رحمة الله سبحانه أن تكفل بتقدير العقوبات على الخطير من الجرائم. وترك للناس تقدير غيرها من العقوبات .

وفي هذا المعنى يقول ابن القيم: " فلما تفاوتت مراتب الجنايات، ولم يكن بد من تفاوت مراتب العقوبات، وكان من المعلوم أن الناس لو وكلوا إلى عقولهم في معرفة ذلك وترتيب كل عقوبة على ما يناسبها من الجناية، جنسا ووصفا وقدرا، لذهبت بهم الآراء كل مذهب، وتشعبت بهم الطرق كل مشعب، ولعظم الاختلاف، واشتد الخطب. فكفاهم أرحم الراحمين، وأحكم الحاكمين مؤونة ذلك، وأزال عنهم كلفته، وتولى بحكمته وعلمه وقدرته، ورحمته تقديره نوعا وقدرا. ورتب على كل جناية ما يناسبها من العقوبة، وما يليق بها من النكال ".

وقد بين الله سبحانه سببين للشدة، في عقوبة السرقة. فقال: ﴿وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾. قال ابن شهاب: نكل الله بالقطع في سرقة أموال الناس والله عزيز في انتقامه من السارق حكيم فيما أوجبه من قطع يده.

أما الجزاء فمعناه أن العقوبة مكافئة للجريمة مساوية لها، موافقة لآثارها، فالعقوبة إنما هي على الجريمة بكل الآثار الناتجة عنها، والأضرار المترتبة عليها، مما لا يقف عند حد أخذ المال المسروق. بل يتعدى ذلك إلى ما تحدثه السرقة، من ترويع وإفزاع.

فمن أجل هذه النتائج المفزعة، كانت الشدة في العقوبة. لأن الشارع بين أمرين: إما أن يردع الآثم، وإما أن يفزع الآمن، وليس من عدل الله ورحمته إلا ردع الآثم وزجره. بعقوبة تكافئ جرمه، نالها جزاء لذلك الجرم.

وأما النكال فهو منع الغير من ارتكاب السرقة، اعتبارا بما وقع للسارق المقطوعة يده من شدة وحزم. ومنه قوله تعالى:﴿فَجَعَلْنَاهَا نَكَالاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا﴾ أي عبرة. ولا عبرة أعظم من قطع اليد الذي يفضح صاحبه طول حياته، ويسمه بميسم العار والخزي. ولا شك أن هذه العقوبة أجدر بمنع السرقة، وأجدى لتأمين الناس على أموالهم وأرواحهم. ولعل من أبسط نتائج هذا النكال: أن عقوبة السرقة، وهي القطع لم تطبق خلال نحو قرنين من الزمن، إلا في أيدٍ أقل من القليل. ولم يتحقق ذلك إلا بشدة العقاب. فكانت الشدة والقسوة سببا لصيانة الأيدي، وطهارة النفوس، وكلما أشتد العقاب، قوى المنع.

وفي ذلك يقول ابن القيم : "ومن المعلوم: أن عقوبة الجناة والمفسدين لا تتم إلا بمؤلم يردعهم. ويجعل الجاني نكالا وعظة لمن يريد أن يفعل مثل فعله. وعند هذا فلا بد من إفساد شيء منه بحسب جريمته".

فاتقوا الله عباد الله: وتأملوا فيما دونكم من الأمم، واعرفوا نعمة الله عليكم بهذا الدين القويم الكامل، الجامع بين الرحمة والحكمة: رحمة في إصلاح الخلق، وحكمة في سلوك الطريق الموصل إلى الإصلاح.