تأملات في الصلوات

بسم الله الرحمن الرحيم

تأملات في الصلوات

الحمد لله، عَظُمَ شأنه، ودام سلطانه، أحمده سبحانه وأشكره، عم امتنانه، وجَزَلَ إحسانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله، به علا منار الإسلام وارتفع بنيانه، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى أصحابه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أيها الناس اتقوا ربكم وأطيعوه وادعوه واستغفروه وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين قبل فوات الأوان وقبل أن تقول نفس يا حسرتى على ما فرطت في جنب الله وإن كنت لمن الساخرين حتى إذا جاء أحدهم الموت قال رب ارجعون لعلي أعمل صالحاً فيما تركت، أيها الإخوة إن من أعظم ما أمر الله ورسوله به ورغب فيه هي الصلاة التي هي عمود الدين ورأس مال المسلم التي هي نور للعبد في دنياه وأخراه وحياة للقلب بها يجد العابد قرة العين وانشراح الصدر وصرف الهموم والأحزان والإعانة على نوائب الزمان وبالصلاة يناجي العبد ربه ومولاه يستغفره ويناجيه ويدعوه ويتلوا كتابه فهو بين الركوع والسجود قائم بين يدي ربه وقوف الذليل المستجدي والراجي لرحمة الله متأدباً بأدب العبودية وساجداً معفراً أعز أعضائه وهو وجهه بالتراب مستصغراً لنفسه شاكياً حاله وفقره وضعفه وقلة حيلته للغني الحميد، فللصلاة أيها الإخوة المنزلة العالية والدرجة الرفيعة التي إن صلحت صلح سائر العمل وإن فسدت فسد العمل كله ومن حافظ عليها فهو لما سواها أحفظ ومن ضيعها فهو لما سواها أضيع، خمس صلوات بأجر خمسين صلاة، ﴿قَدْ أَفْلَحَ المُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ﴾ وهي الحد الفاصل بين الكفر والإسلام قال النبي صلى الله عليه وسلم : «بشر المشائين في الظلم إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة» أيها الإخوة ولأهمية الصلاة وتعظيم قدرها عند الله أن جعل الله جميع الفرائض تجب في وقت دون الأوقات وليست لازمة في كل الأوقات كالزكاة والحج والصيام إلا الصلاة فهي لازمة في كل حال في اليوم خمس مرات، في حال الصحة والمرض والسفر والإقامة والخوف والأمن والحرب والسلم .

قال الإمام محمد المروزي رحمه الله: فاعقلوا ما عظم الله قدرها لشدة إيجابه إياها وإلزامها عباده في كل الأحوال إلا لتعظموها إذ عظمها الله ولتجزعوا أن تضيعوها وتنقصوها ولتؤدوها بإحضار العقول وخشوع الأطراف ثم قال رحمه الله: ثم جعل جميع الطاعات من الفرض والنفل متقبلة بغير طهارة ولا ينتقضها الأحداث ولا يفسدها إلا الصلاة وحدها لإيجاب حقها وإعظام قدرها «إلا الطواف بالبيت لأنه صلاة» عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا كان أحدكم يصلي فلا يبصق قبل وجهة فإن الله قبل وجهه إذا صلى» خ،م .

فكيف يجوز لمن صدق بأن الله مقبل عليه بوجهه أن يلتفت أو يغيب أو يتفكر أو يتحرك بغير ما يحب المقبل عليه بوجهه ومن تشاغل في صلاته فهو معرض عمن أقبل عليه الذي يعلم ويرى إعراضه بقلبه وبكل جوارحه قال أبو هريرة: "الصلاة قربان إنما مثل الصلاة كمثل رجل أراد من إمام حاجة فأهدى له هدية إذا قام الرجل إلى الصلاة فإنه في مقام عظيم واقف فيه على الله يناجيه ويسترضيه قائماً بين يدي الرحمن يسمع لقيله ويرى عمله ويعلم ما توسوس به نفسه فليقبل على الله بقلبه وجسده ثم ليرم ببصره قصد وجهه أو ليخفضه ولا يلتفت ولا يحرك شيئاً بيديه ولا برجليه ولا شيء من جوارحه حتى يفرغ من صلاته وليبشر من فعل هذا ولاقوة إلا بالله" .

وكان أبو فاطمة الأزدي قد أسودت جبينه وركبتاه من كثرة السجود فقال لنا ذات يوم: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : «يا أبا فاطمة أكثر السجود فإنه ليس من عبد مسلم يسجد سجدة إلا رفعه الله بها درجة».

ورأى ابن عمر فتى قد أطال الصلاة وأطنب فقال: أيكم يعرف هذا؟ فقال: رجل أنا أعرفه، فقال: أما إني لو عرفته لأمرته بكثرة الركوع والسجود فإن سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن العبد إذا قام يصلي أتي بذنوبه كلها فوضعت على عاتقه فكلما ركع أو سجد تساقطت عنه».

وقد سئل النبي صلى الله عليه وسلم أي الصلاة أفضل؟ فقال: «طول القيام» وقال النبي صلى الله عليه وسلم : «إذا قرأ ابن أدم فسجد اعتزل الشيطان يبكي ويقول: ويل له أمر ابن آدم بالسجود فسجد فله الجنة وأمرت بالسجود فعصيت فلي النار» صحيح، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : «إنما حبب إلي من دنياكم النساء والطيب وجعل قرة عيني في الصلاة» .

وقال عدي بن حاتم: ما دخل وقت الصلاة قط حتى أشتاق إليها، وعن ربيعة الأسلمي قال: «كنت أبيت مع رسول الله فأتيته بوضوئه وحاجتة فقال لي: سل، فقلت: أسألك مرافقتك في الجنة، قال: أو غير ذلك؟ قلت: هو ذاك، قال: فأعني على نفسك بكثرة السجود» م، وفي رواية عند أحمد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: «من أمرك بهذا؟» فقلت: والله ما أمرني به أحد ولكني نظرت في أمري فرأيت أن الدنيا زائلة من أهلها فأحببت أن آخذ لآخرتي، اللهم اجعلنا من المفلحين الذين هم في صلاتهم خاشعون واجعلنا من المخلصين المقبولين الذين أحسنوا صلاتهم فنهتهم عن الفحشاء والمنكر، اللهم أذقنا لذة المناجاة وحلاوة الإيمان واشرح صدورنا لطاعتك ونور بصائرنا بالإيمان والقرآن، اللهم صلي على محمد وآله وصحبه أجمعين.

الحمد لله على إحسانه وأشكره على تفضله وامتنانه وأذكره وأسبحه وأعظمه وأدعوه وأستغفره تعظيماً لشانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، قال أبو عبدالله المزوري رحمه الله: فلا عمل بعد توحيد الله أفضل من الصلاة لله لأنه افتتحها بالتوحيد والتعظيم لله بالتكبير ثم الثناء على الله وهي قراءة فاتحة الكتاب وهي حمد لله وثناء عليه وتمجيد له ودعاء وكذلك التسبيح في الركوع والسجود والتكبيرات عند كل خفض ورفع كل ذلك توحيد لله وتعظيم لله وختمها بالشهادة له بالتوحيد ولرسوله بالرسالة وركوع وسجود خشوعاً له وتواضعاً، ورفع اليدين عند الافتتاح والركوع ورفع الرأس تعظيماً لله وإجلالاً له ووضع اليمين على الشمال بالانتصاب لله تذللاً وإذعاناً بالعبودية، قال عبدالله بن مسعود سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم : «أي العمل أفضل؟ فقال: الصلاة لميقاتها» م، وعن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن أول ما يحاسب به العبد صلاته فإن أتمها وإلا نظر هل من تطوع فإن كان له تطوع أكملت الفريضة من تطوعه ثم ترفع سائر الأعمال على ذلك» .

أيها الإخوة وكان النبي صلى الله عليه وسلم يفزع عند الشدائد إلى الصلاة فإذا رأى بأهله شدة أو ضيقاً أمرهم بالصلاة وتلا هذه الآية: ﴿وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لاَ نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَّحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى﴾ ولما كسفت الشمس فزع النبي صلى الله عليه وسلم إلى الصلاة ، ولما تحزبت الأحزاب من كل جانب على رسول الله وأحاطوا بالمدينة وخانه اليهود وتحالف معهم المشركون قال حذيفة: رجعت إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الأحزاب، وهو مشتمل في شملة يصلي ، وفزع صلى الله عليه وسلم يوم غزوة بدر ، قال علي رضي الله عنه: لقد رأيتنا ليلة بدر وما فينا إلا نائم غير رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي ويدعو حتى أصبح ..

وهكذا أيها الإخوة فالصلاة مفزع لكل ذي نائبة وملجأ للمستجيرين والمرضى والفقراء والمنكوبين والحيارى والمظلومين والمهمومين بالصلاة يناجون ربهم ويفيضون إليه وهم ساجدون بشكواهم وذلهم وفقرهم ومسكنتهم ويسجد العبد لربه عند تجدد النعم شكراً لله حتى أن الملائكة في السموات السبع إذا رعبوا فأصابهم هول اعتصموا بالسجود.

قالت عائشة رضي الله عنها: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا صلى قام حتى تتفطر قدماه، فقالت عائشة: يا رسول الله أتصنع هذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فقال: «يا عائشة أفلا أكون عبداً شكوراً» أحمد.

قال ابن الجوزي رحمه الله: ينبغي للمصلي أن يحضر قلبه عند كل شيء من الصلاة فإذا سمع نداء المؤذن فليمثل النداء يوم القيامة ويشمر للإجابة فليذكر عورات باطنه وفضائح سره التي لا يطلع عليها إلا الخالق ويكفرها الندم والخوف والحياء فإذا استعذت فاعلم أن الاستعاذة هي ملجأ إلى الله سبحانه فإذا لم تلجأ بقلبك كان كلامك لغواً، وأحضر التفهم بقلبك عند قولك: الحمد لله رب العالمين واستحضر لطفه عند قولك: الرحمن الرحيم وعظمته عند قولك: مالك يوم الدين، واستشعر في ركوعك التواضع وفي سجودك الذل لأنك وضعت النفس موضعها ورددت الفرع إلى أصله بالسجود على التراب الذي خلقت منه، واعلم أن أداء الصلاة بهذه الشروط سبب لجلاء القلب من الصدأ وحصول الأنوار التي تتلمح بها عظمة المعبود سبحانه أيها المسلم إذا أردت أن تعرف قدرك عند الله فانظر إلى قدر الصلاة عندك، أيها الإخوة فما بالنا غافلين عن روح الصلاة وحقيقتها نؤديها بجوارحنا مع ذهول القلب وغفلته ثم لا نجد للصلاة لذة وسكينة ولا فرحاً وإقبالاً عليها ثم أصبحت غير معدلة لسلوكنا فلم تنهانا عن الفحشاء والمنكر وأين الفرح بالصلاة وأين العناية بها والتبكير إليها وأين حرارتها في القلوب؟ أيها الإخوة لابد من محاسبة لأنفسنا في موضوع الصلاة التي هي عمود الدين فإذا سقط العمود ضاع دين المسلم وخسر الدنيا والآخرة إن الصلاة رأس مال المسلم وغنيمته الحاضرة التي يستطيع بعد توفيق الله أن يغنم بها رضا الله والجنة وأن ينجو بها من سخط الله والنار فبالصلاة يرفع الله قدرك ويطهر جوارحك وقلبك وتكفر سيئاتك وتفتح أبواب الخير في وجهك وتجد شرح الصدر والفرح بعبادة ربك وبالصلاة يحميك الله من البلايا والشرور والترفع عن دار الغرور وتنال في دنياك وأخراك الفرح والسرور، إن الصلاة أمل الأحياء ورجاؤهم فهم في قبورهم يحاسبون ولا يعملون ويندمون ولا يتوبون فكيف تنام العين وهي قريرة وليس تدري بأي المكانين تنزل؟ وكيف تتوق النفس للجهل والهوى وكيف تغر العبد دنيا ترحل؟ وكيف نقضي العمر باللهو والمنى وعما قليل سوف نغد ونرحل؟ وما المرء في دنياه إلا مسافر يعيش أياماً ثم يقضي فيحمل، وكيف القرار والعيش في القبر؟ إنه هو الحفرة الظلماء نار تهول ولكن هو الروح والإيمان والهناء لمن كان ذا قلب سليم يهلل، كان علي بن الحسين إذا توضأ اصفر لونه فقيل: ما هذا الذي يعتادك عند الوضوء؟ فقال: أتدرون بين يدي من أريد أن أقوم؟ وقال حذيفة: إياكم وخشوع النفاق قيل له: وما خشوع النفاق؟ قال: أن نرى الجسد خاشعاً والقلب ليس بخاشع، وختاماً أيها الأخ اعتن بوضوئك وأسبغه وبكر إلى المسجد وصل صلاة المودع الذي لا يدري هل يصلي صلاة بعدها أم لا، واستشعر عظمة الله عند تكبيرة الإحرام فإنك واقف بين يديه والله قبل وجهك فاستحي منه وحافظ على صلاة الجماعة وحاسب نفسك بعد الصلاة هل خشعت فيها وتدبرت ما تقول؟ وحافظ على النوافل فإنها سبب لمحبة الله للعبد وبها تكمل الصلاة ومن ألح على ربه بكثرة الدعاء في السجود فهو حري بالإجابة والله لا يخيب من رجاه ولا من سأله ودعاه.

أيها الناس: اتقوا الله تعالى واعلموا أن الله تعالى رضي لكم دينا لم يرض لكم دينا سواه، رضي لكم الإسلام ﴿وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الخَاسِرِينَ﴾. رضي لكم الإسلام وهو الاستسلام لله تعالى والانقياد له ظاهرا وباطنا في العقيدة والقول والعمل ليس الإسلام عقيدة فحسب ولكن الإسلام عقيدة وقول وعمل.

إن الإسلام كما لا يكون بالعمل وحده لا يكون كذلك بالعقيدة وحدها. يقول النبي صلى الله عليه وسلم : «بني الإسلام على خمس شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت الحرام». يقول بُنِيَ الإسلام ومعنى ذلك أن هذه الأصول هي دعائم الإسلام التي لا يمكن أن يقوم إلا بها كما لا يقوم البناء إلا بأساسه.

أيها الناس: من هذا الحديث يتبين لنا أن الصلاة ركن من أركان الإسلام بل هي ركنه الأعظم بعد الشهادتين: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله.

 ولقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنها عمود الدين حيث قال: «رأس الأمرِ الإسلام وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله».

هذه الصلاة التي فرضها الله على رسوله وعلى أمته: ﴿إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى المُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَّوْقُوتاً﴾. كتاباً أي فريضة. موقوتا، موقوتا بوقت لكل صلاة وقتها التي لا تصح إلا فيه إلا أن يكون ثَم عذر، الصلاة التي فرضها الله على رسوله مباشرة بدون واسطة، فرضها عليه في أعلى مكان يصل إليه بشر، وفي أفضل وقت مر على رسول الله صلى الله عليه وسلم فرضها عليه ليلة المعراج وهو فوق السماوات السبع، وفرضها أول ما فرضها على النبي صلى الله عليه وسلم خمسين صلاة في كل يوم وليلة، وهذا دليل واضح على محبة الله لها وعنايته بها، وأنها جديرة بأن يستوعب المسلم فيها جزء كبيرا من وقته لأنها الصلة بينه وبين ربه وخالقه يجد فيها راحة نفسه وطمأنينة قلبه، ولذلك كانت قرة عين الرسول صلى الله عليه وسلم فرضها الله على عباده خمسين صلاة في كل يوم وليلة، ولكنه تبارك وتعالى خفف عنهم فكانت خمسا بالفعل وخمسين في الميزان، ففي هذه الخمس مصالح الخمسين وثواب الخمسين.

أفلا تشكرون أيها المسلمون ربكم على هذه النعمة الكبيرة التي أولاكم بها وتقومون بواجبها فتؤدونها في أوقاتها بأركانها وواجباتها وشروطها في تكملونها بمكملاتها.

أيها المسلمون: إن الصلاة صلة بينكم وبين ربكم، فالمصلي إذا قام في صلات استقبله الله بوجهه فإذا قرأ: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ﴾ قال الله: حمدني عبدي، وإذا قرأ: ﴿الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ﴾، قال الله: أثنى علي عبدي، فإذا قرأ: ﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾. قال الله: مجدني عبدي، وإذا قرأ: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ قال الله: هذا بيني وبين عبدي نصفين، ولعبدي ما سأل. فإذا قرأ: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ﴾ قال الله تعالى: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل. أفنجد أيها المسلم صلة أقوى من تلك الصلة يجيبك ربك على قراءتك آية آية وهو فوق عرشه وأنت في أرضه عناية بصلاتك وتحقيقا لصلاتك. ولهذا كانت الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر إذا صلاها على الوجه الذي أُمر به لأنه اصطبغ بتلك الصلة التي حصلت له مع ربه فَقَوِيَ إيمانُه واستنار قلبه وتهذبت أخلاقه.

أيها المسلمون إن من حافظ على الصلوات وأداها على الوجه المشروع كانت له نورا وبرهانا ونجاة يوم القيامة.

ولقد شبه رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الصلوات الخمس بنهر على باب أحدكم يغتسل منه كل يوم وليلة خمس مرات فهل يبقى بعد هذا الاغتسال من وسخه شيء، كلا، فهذه الصلوات الخمس تغسل الذنوب عن المصلي غسلا فيكون نقيا بها من الذنوب فهي كفارة لما بينهن من الذنوب ما اجتنبت الكبائر.

أيها المسلمون: إن ما ذكرناه من هذه الفضائل للصلوات الخمس ليس على سبيل الاستيعاب ولكنه قليل من كثير.

ومن عجب أن يجهل قوم من المسلمين قدر هذه الصلوات أو يتجاهلوه ويتغافلوا عنه حتى كانت الصلاة في أعينهم من أزهد الأعمال قدرا وصاروا لا يقيمون لها وزنا في حساب أعمالهم ولا يبذلون لها وقتا من ساعات أعمارهم، لا بل ربما يسخر بعض منهم بها فيتخذونه سخرية وهزوا ولعبا ويسخر ممن يصليها نسأل الله السلامة.

فأي دين يا عباد الله لهذا أي دين يا عباد الله لشخص يدع هذا العمل يدع الصلاة مع يسر عملها وقلة ما تشغل من وقت وكثرة ثوابها وعظم مصالحها ومنافعها على القلب والبدن والفرد والجماعة والقول والعمل.

فهي عون للمرء على عمله كما قال تعالى: ﴿وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ﴾ وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أهمه أمر قام إلى الصلاة، أي دين لشخص يدع الصلاة وهي التي جاء الوعيد في كتاب الله تعالى وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم على من تهاون بها أو تغافل عنها قال الله تعالى: ﴿فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَياًّ (59) إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً﴾ وهذا الآية ظاهرة في أن من أضاع الصلاة واتبع الشهوات فليس بمؤمن لأن الله تعالى قال:﴿إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ﴾ وقال سبحانه: ﴿فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَن صَلاتِهِمْ سَاهُونَ﴾.

وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن من لم يحافظ على هذه الصلوات فليس له نور ولا برهان ولا نجاة يوم القيامة ويحشر مع أئمة الكفر فرعون وهامان وقارون وأبي بن خلف.

فأي دين لشخص يدع الصلاة وهو يؤمن بهذا الوعيد على مضيعها والغافل قولك هذا لا يكفيك عند الله حتى تستلم وتنقاد لشريعة الله تعالى فإن الإيمان ما وقر في القلب وصدقته الأعمال.

 ونقول له المنافقون يقولون لا إله إلا الله: ﴿وَلاَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً﴾. والمنافقون يقولون للرسول صلى الله عليه وسلم إذا جاءوا إليه: ﴿نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ﴾. والمنافقون يصلون:﴿وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى﴾.

أفترى أنهم كانوا مسلمين وناجين من النار، لا، استمع قول الله تعالى:﴿إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ المُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً﴾. ﴿إِنَّ المُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً﴾.

 وإذا أراد أن يجادل ويلبّس فإن لدينا نصا صريحا في كفر تارك الصلاة فقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «بين العبد وبين الكفر ترك الصلاة». وقال: «العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر».

وقال عبد الله بين شقيق كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لا يرون شيئا من الأعمال تركه كفر غير الصلاة. وهذا الكفر الذي ذكره النبي صلى الله عليه وسلم ورآه الصحابة رضي الله عنهم ليس كفر نعمة كما قال بعضهم ولا أنه خصلة من خصال الكفر كما قاله آخرون، ولكنه الكفر الأكبر المخرج عن دين الإسلام.

فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الكفر"، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: وفرق بين "الكفر" المعرف باللام يعني الدالّ على الكفر المطلق وبين "كفر" المنكر في الإثبات. ولنا دليل مركب من دليلين على أن تارك الصلاة كافر كفرا أكبر مخرجا عن الملة هو أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن منازعة ولاة الأمور أمرهم قال: «إلا أن تروا كفرا بواحا عندكم فيه من الله برهان» وقال صلى الله عليه وسلم : «شرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم قالوا: يا رسول الله أفلا ننابذهم بالسيف قال: لا ما أقاموا فيكم الصلاة».

ومن هذين الدليلين أخذ أن ترك الصلاة يبيح منابذة الأئمة فيكون كفرا بواحا. فترك الصلاة ردة عن الإسلام وكفر بالله والردة عن الإسلام لها أحكام في الدنيا وأحكام في الآخرة.

أما أحكام الدنيا فإن المرتد ينفسخ نكاحه من زوجته، وتحل لغيره، ويكون استمتاعه بها استمتاعا بامرأة أجنبية منه، وأولاده منها بعد ردته ليسوا أولادا شرعيين، ويجب قتله إذا استمر على ردته، ولا يغسل لأنه لا يطهره الماء وهو كافر، ولا يصلى عليه، ولا يستغفر له، ولا يدعى له بالرحمة، ولا يدفن مع المسلمين ويكون ماله في بيت مال المسلمين لا يرثه أقاربه.

وأما أحكام الآخرة فإنه يحرم دخول الجنة ويدخل النار خالدا فيها أبدا.

فاتقوا الله عباد الله وحافظوا على صلواتكم فماذا يبقى من دينكم إذا ضيعتموها، فإن آخر ما تفقدون من دينكم الصلاة. قال الإمام أحمد كل شيء ذهب آخره لم يبق منه شيء.

أيها الناس: اتقوا الله تعالى؛ وحافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين، حافظوا على الصلوات بأداء أركانها وشروطها وواجباتها ثم كملوها بفعل مستحباتها فإن الصلاة عمود الدين ولا دين لمن لا صلاة له.

أيها المسلمون لقد فرضت الصلاة على نبيكم من الله تعالى إليه بلا واسطة، وفرضت فوق السماوات العلى، وفرضت خمسين صلاة حتى خفضت إلى خمس صلوات بالفعل وخمسين بالميزان، ألم يكن هذا أكبر دليل على فضلها والعناية بها. الصلاة صلة بين العبد وربه يقف بين يديه مكبرا معظما يتلو كتابه ويسبحه ويعظمه ويسأله من حاجات دينه ودنياه ما شاء جدير بمن كان متصلا بربه أن ينسى كل شيء دونه وأن يكون حين هذه الصلة خاشعا قانتا مطمئنا مستريحا ولذلك كانت الصلاة قرة أعين العارفين، وراحة قلوبهم لما يجدون فيها من اللذة والأنس بربهم ومعبودهم ومحبوبهم، جدير بمن اتصل بربه أن يخرج من صلاته بقلب غير القلب الذي دخلها فيه أن يخرج منها مملوءا قلبه فرحا وسرورا وإنابة إلى ربه وإيمانا، ولذلك كانت الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر لما يحصل للقلب منها من النور والإيمان والإنابة، جدير بمن عرف حقيقة الصلاة وفائدتها وثمراتها أن تكون أكبر همه وأن يكون منتظرا لها مشتاقا إليها ينتظر تلك الساعة بغاية الشوق حتى إذا بلغها ظفر بمطلوبه واتصل اتصالا كاملا بمحبوبه.

أيها المسلمون: إن كثيرا من المصلين لا يعرفون فائدة الصلاة حقيقة ولا يقدرونها حق قدرها ولذلك ثقلت الصلاة عليهم ولم تكن قرة لأعينهم ولا راحة لأنفسهم ولا نورا لقلوبهم نرى كثيرا منهم ينقرون الصلاة نقر الغراب لا يطمئنون فيها ولا يذكرون الله فيها إلا قليلا، وهؤلاء لا صلاة لهم ولو صلوا ألف مرة لأن الطمأنينة في الصلاة ركن من أركانها ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم للرجل الذي كان لا يطمئن في صلاته: «ارجع فصل فإنك لم تصل» فصلى عدة مرات وكل مرة يقول له النبي صلى الله عليه وسلم ارجع فصل فإنك لم تصل حتى علَّمه النبي صلى الله عليه وسلم وأمره بالطمأنينة.

أما بعد: فإن الناس جميعًا في هذه الدنيا على سفر وارتحال إلى الدار الآخرة التي هي المقر الدائم والمنزل الأبدي، ﴿يَاقَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ القَرَارِ﴾، وابن آدم في سفره هذا يحتاج إلى الوقود والزاد الإيماني الذي يحدوه للمسير وينير له الطريق، أرأيتم مسافرًا لا يتزود لسفره؟! وهل تسير السيارة والطائرة بغير وقود؟! وهل يعيش الإنسان بلا طعام أو شراب؟! وهل يعيش بدن لا يأتيه الزاد من الطعام يوميًا وعلى جرعات متفاوتة وفي أوقات مرتبة، وإلا هلك البدن وانهدت قواه وعجز صاحبه؟! وهل يستطيع العبد أن ينجو بنفسه من كرب الدنيا ومن كربات الآخرة بغير زاد التقوى والإيمان والعمل الصالح؟! ﴿وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَاأُوْلِي الأَلْبَابِ﴾، فإن كان للجسد زاده وطعامه فللقلب زاده وقوته الذي لا يبقى حيًا إلا به، وهل يكون القلب سليمًا معافى ينفع صاحبه يوم الفزع الأكبر إن لم يكن معمورًا بالإيمان ومترعًا بالتقوى والاستقامة ﴿يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ (88) إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾؟!

إذا علمنا ذلك ـ أيها المؤمنون ـ فيا ترى ما هذا الزاد والقوت الذي تحيا به القلوب؟ إنه زاد عجيب وذو أثر أكيد، زاد يزيد في الحسنات ويرفع الدرجات، إنه قوت، وأيّ قوت لمن حرم منه ففاتته تلك المكاسب والخيرات؟! يحدثنا ربنا عن هذا الزاد فيقول: ﴿وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ﴾، وعن أثر هذا الزاد ومفعوله القوي يخبرنا ربنا: ﴿وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ﴾ ، وأهل الفلاح والنجاح لهم مع هذا الزاد ارتباط عجيب، ﴿قَدْ أَفْلَحَ المُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ﴾.

ولأهمية هذا الزاد وعظيم الحاجة إليه في حياة القلوب فإنه لا يسقط أداؤه عن أي إنسان مسلم ما دام عقله معه، حتى لو كان المسلمون في مواجهة أعدائهم وفي معمعة الحرب والقتال، ﴿وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِّنْهُم مَّعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ﴾ ، إن الصلاة لا تسقط بحال حتى في حال شدة الخوف الذي يقطع نياط القلوب فلا يلوي أحد عن أحد، ﴿حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ (238) فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً﴾.

عباد الله، ليس الحديث إليكم الآن عن وجوب الصلاة وحكم تاركها، فهذا أمر معلوم من الدين بالضرورة، يعرفه حتى الصبيان والعجائز، غير أني أريد التنبيه إلى أمر يغفل عنه البعض من المسلمين، وهو أن بعض المسلمين يظنون أن المسلم إذا كان مريضًا أو عاجزًا أو كان حبيس فراشه أن الصلاة تسقط عنه، وبعضهم يظن أن المريض لا يصلي حال مرضه، ثم إذا شفي قضى ما عليه من الصلوات بحجة أنه عاجز عن أداء الصلاة كاملة بوقوفها وطهارتها وأركانها وواجباتها، فإلى هؤلاء يقال: إن الله سبحانه أوجب الصلاة على المسلم المكلف، وأخبر سبحانه أن الصلاة كانت على المؤمنين كتابًا موقوتًا، فلم تسقط عن المسلمين وهم في أتون المعركة ووسط لهيبها ونيرانها والأعداء عن قرب والموت يتخطفهم من كل جانب، فمن باب أولى من هو آمن مطمئن.

ولكن قد يقول قائل: كيف أصلي وأنا لا أستطيع الطهارة، أو عليّ ثياب نجسة لا يمكن نزعها، أو لا يمكنني الوقوف أو الركوع أو السجود، وربما لا يكون جسمي جهة القبلة؟! فما أصنع في حالتي هذه؟! إن الجواب عن ذلك قد أخبر به الحبيب صلى الله عليه وسلم في حديث عمران بن حصين رضي الله عنه قال: كانت بي بواسير، فسألت النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة فقال: «صل قائمًا، فإن لم تستطع فقاعدًا، فإن لم تستطع فعلى جنب» أخرجه البخاري.

كما علمنا كتاب ربنا أن ديننا لا حرج فيه: ﴿هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ﴾، وأن التكليف بالأوامر الشرعية يكون بحسب القدرة والطاقة: ﴿لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ مَا آتَاهَا﴾، وفي الصحيحين يقول صلى الله عليه وسلم : «إذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم»، وعندما ورد الأمر بالوضوء في قوله تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى المَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الكَعْبَيْنِ وَإِن كُنتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا﴾، جاء التخفيف عمن لا يستطيع الوضوء بالماء أو لا يجده فقال سبحانه: ﴿وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِّنكُم مِّنَ الغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾.

أيها المؤمنون، إذا علمنا ذلك كله فلنعلم أن الصلاة تجب على المسلم ما دام عقله موجودًا، فقد قال ربنا تعالى: ﴿وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ اليَقِينُ﴾ .

قال ابن باز رحمه الله تعالى: "المرض لا يمنع من أداء الصلاة بحجة العجز عن الطهارة ما دام العقل موجودًا، بل يجب على المريض أن يصلي حسب طاقته وأن يتطهر بالماء إذا قدر على ذلك، فإن لم يستطع استعمال الماء تيمم وصلى، وعليه أن يغسل النجاسة من بدنه وثيابه وقت الصلاة أو يبدل الثياب النجسة بثياب طاهرة وقت الصلاة، فإن عجز عن غسل النجاسة وعن إبدال الثياب النجسة بثياب طاهرة سقط ذلك عنه وصلى على حسب حاله لقوله تعالى ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾" اهـ

عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كان أبو ذر رضي الله عنه يحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «فرج عن سقف بيتي وأنا بمكة فنزل جبريل عليه السلام ففرج صدري، ثم غسله بماء زمزم، ثم جاء بطِسْتٍ من ذهب ممتلئ حكمة وإيمانًا فأفرغه في صدري، ثم أطبقه، ثم أخذ بيدي فعرج بي إلى السماء الدنيا، فلما جئت إلى السماء الدنيا قال جبريل لخازن السماء: افتح، قال: من هذا؟ قال: جبريل، قال: هل معك أحد؟ قال: نعم معي محمد صلى الله عليه وسلم ، فقال: أرسل إليه؟ قال: نعم، فلما فتح علَونا السماء الدنيا فإذا رجل قاعد على يمينه أسودة وعلى يساره أسودة، إذا نظر قِبَل يمينه ضحك، وإذا نظر قبل شماله بكى، فقال: مرحبًا بالنبي الصالح والابن الصالح، قال: قلت لجبريل: من هذا؟ قال: هذا آدم وهذه الأسودة عن يمينه وشماله نسم بنيه، فأهل اليمين منهم أهل الجنة، والأسودة التي عن شماله أهل النار، فإذا نظر عن يمينه ضحك، وإذا نظر عن شماله بكى. ثم عُرِجَ بي إلى السماء الثانية فقال لخازنها: افتح، فقال له خازنها مثل ما قاله الأول ففتح، قال أنس: فذكر أنه وجد في السموات آدم وإدريس وموسى وعيسى وإبراهيم، ولم يثبت كيف منازلهم غير أنه ذكر أنه وجد آدم في السماء الدنيا وإبراهيم في السادسة، قال أنس: فلما مر جبريل والنبي صلى الله عليه وسلم بإدريس قال: مرحبًا بالنبي الصالح والأخ الصالح، فقلت: من هذا؟ قال: إدريس. ثم مررت بموسى فقال: مرحبًا بالنبي الصالح والأخ الصالح، فقلت: من هذا؟ قال: هذا موسى. ثم مررت بعيسى فقال: مرحبًا بالنبي الصالح والأخ الصالح، قلت: من هذا؟ قال: هذا عيسى. ثم مررت بإبراهيم فقال: مرحبًا بالنبي الصالح والابن الصالح، قلت: من هذا؟ قال: هذا إبراهيم. قال النبي صلى الله عليه وسلم : ثم عرج بي حتى ظهرت لمستوى أسمع فيه صريف الأقلام، ففرض الله على أمتي خمسين صلاة، فرجعت بذلك حتى مررت على موسى عليه السلام فقال: ما فرض الله على أمتك؟ قلت: فرض خمسين صلاة، قال موسى: فارجع إلى ربك فإن أمتك لا تطيق ذلك، فرجعت فوضع شطرها، فرجعت إلى موسى قلت: وضع شطرها، فقال: ارجع إلى ربك فإن أمتك لا تطيق ذلك، فرجعت فوضع شطرها، فرجعت إليه فقال: ارجع إلى ربك فإن أمتك لا تطيق ذلك، فراجعته فقال: هي خمس وهي خمسون لا يبدّل القول لديّ، فرجعت إلى موسى فقال: ارجع إلى ربك، قلت: قد استحييت من ربي. ثم انْطُلِقَ بي حتى انتهى إلى سدرة المنتهى، فغشيها ألوان لا أدري ما هي. ثم أُدخلت الجنة فإذا فيها جنابذ اللؤلؤ، وإذا ترابها من المسك» رواه البخاري في صحيحه.

في هذا المقام الشريف وفوق تلك السموات وبين أولئك الكرام من الأنبياء والملائكة عليهم السلام فرضت هذه الشعيرةُ العظيمة التي اختصها الله من دون غيرها بذلك، فلم ينزل بفرضيتها ملك من السماء، بل عرج بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى السماء ليتلقى الأمر بها من الله تعالى مباشرة، فأي منزلة تلك؟! وأي شأن ذاك لهذه الصلاة؟! ولذا كانت أولَ عمل يحاسب عليه العبد يوم القيامة، ولا غرابة حينئذ أن يقول صلى الله عليه وسلم عنها: «وجعلت قرة عيني في الصلاة».

أيها الإخوة المؤمنون، إن مما يبين عن مكانة الصلاة ومنزلتها أنها ذكرت في القرآن الكريم في خمسة وستين موضعًا، منها قوله تعالى في وصف المتقين: ﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ﴾، وقوله سبحانه: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِراًّ وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ﴾.

وفي السنة قد تضافرت الأحاديث في شأنها، فقد ذكرت في مائة وثمانية وسبعين حديثًا، منها قوله صلى الله عليه وسلم : «اعلم أنك لا تسجد لله سجدة إلا رفع الله لك بها درجة وحط عنك بها خطيئة»، وقال صلى الله عليه وسلم : «إن العبد إذا قام يصلي أتي بذنوبه كلها فوضعت على رأسه وعاتقه، فكلما ركع أو سجد تساقطت عنه»، بل تأمل قوله صلى الله عليه وسلم : «تأكل النار ابن آدم إلا أثر السجود؛ حرّم الله على النار أن تأكل أثر السجود». والصلاة من أحب الأعمال إلى الله عز وجل وأثقلها في موازيين العبد يوم القيامة، قال صلى الله عليه وسلم : «صلاة في إثر صلاة لا لغو بينهما كتاب في عليين».

أيها المؤمنون، كم نقع في الذنوب، كم نقارف من الآثام، كم نضيع من الطاعات، ولكن من رحمة الله تعالى أن الصلاة تغسلها وتمحوها، فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «تحترقون تحترقون ـ أي: تقعون في الهلاك بسبب الذنوب الكثيرة ـ فإذا صليتم الصبح غسَلَتها، ثم تحترقون تحترقون فإذا صليتم الظهر غسلتها، ثم تحترقون تحترقون فإذا صليتم العصر غسلتها، ثم تحترقون تحترقون فإذا صليتم المغرب غسلتها، ثم تحترقون تحترقون فإذا صليتم العشاء غسلتها، ثم تنامون فلا يكتب عليكم حتى تستيقظوا»، وذات يوم خرج النبي صلى الله عليه وسلم في الشتاء وورق الأشجار يتهافت، فأخذ بغصن من شجرة وقال: «يا أبا ذر، إن العبد المسلم ليصلي الصلاة يريد بها وجه الله فتهافت عنه ذنوبه كما يتهافت هذا الورق عن هذه الشجرة».

أيها المؤمنون، إن دقائق العمر وساعات الحياة ثمينة، والرابح فيها من عمرها بالطاعة قبل عدم الاستطاعة، ووالله إن أعظم ما يفقده أهل القبور ويتمنونه هذه الصلاة، مرّ النبي صلى الله عليه وسلم يومًا بقبر فقال: «من صاحب هذا القبر؟ فقالوا: فلان، فقال: ركعتان أحب إلى هذا من بقية دنياكم».

إن مَن فقه هذا الأمر عَلِم شأن الصلاة وعظَّم قدرَها عند الله وعظُم عنده أمر الآخرة فسعى إليها ووصل ليله بنهاره في طلب مبتغاه، وتأمل أحوال السلف الذين قدروا هذا الأمر حق قدره:

فهذا عدي بن حاتم رضي الله عنه يقول: "ما أقيمت الصلاة منذ أسلمت إلا وأنا متوضئ".

ومسروق بن الأجدع يقول: "ما بقي شيء يرغب فيه إلا أن تعفر وجوهنا في التراب، وما آسى على شيء إلا على السجود لله تعالى".

وكان زين العابدين علي بن الحسين يصلي في كل يوم وليلة ألف ركعة إلى أن مات.

بل كان حرصهم على الصلاة يفوق الوصف.

يقول سعيد بن المسيب: "ما فاتتني الصلاة في جماعة منذ أربعين سنة"، بل يقول: "ما أذن المؤذن منذ ثلاثين سنة إلا وأنا في المسجد" .

ولقد قال إبراهيم بن يزيد: "إذا رأيت الرجل يتهاون في التكبيرة الأولى فاغسل يدك منه".

بل بلغ من حرصهم على شهود الجماعة أن أحدهم وهو في سياق الموت يذهب به إلى المسجد، سمع عامر بن عبد الله بن الزبير المؤذن وهو يجود بنفسه فقال: "خذوا بيدي"، فقيل: إنك عليل فقال: "أسمع داعي الله فلا أجيبه؟! فأخذوا بيده فدخل مع الإمام في المغرب فركع ركعة ثم مات.

أمّا بعد: فيا أيّها المسلمون، اتَّقوا الله فإنّ تقواه أفضلُ مكتَسَب، وطاعته أعلى نسب، ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ﴾.

أيّها المسلمون، لقد أنعَم الله عليكم بنعمٍ سابغة وآلاء بالغة، نعمٍ ترفُلون في أعطافها، ومننٍ أُسدِلت عليكم جلابيبُها. وإنّ أعظمَ نعمةٍ وأكبرَ مِنّة نعمةُ الإسلام والإيمان، يقول تبارك وتعالى: ﴿يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُل لاَّ تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾.

فاحمَدوا الله كثيرًا على ما أولاكم وأعطاكم وما إليه هداكم، حيث جعلكم من خير أمّةٍ أخرِجت للناس، وهداكم لمعالم هذا الدين الذي ليس به التِباس.

ألا وإنَّ من أظهرِ معالمِه وأعظمِ شعائره وأنفع ذخائره الصلاةَ ثانيةَ أركان الإسلام ودعائمه العظام. هي بعد الشهادتين آكَدُ مفروض وأعظم معرُوض وأجلُّ طاعةٍ وأرجى بضاعة، من حفِظها حفِظ دينَه، ومن أضاعها فهو لما سواها أضيَع، هي عمودُ الدّيانة ورأسُ الأمانة، يقول النبيّ صلى الله عليه وسلم : «رأسُ الأمر الإسلام، وعمودُه الصلاة».

جعلها الله قرّةً للعيون ومفزعًا للمحزون، فكان رسول الهدى صلى الله عليه وسلم إذا حزَبه أمرٌ فزع إلى الصلاة، ويقول عليه الصلاة والسلام: «وجُعِلت قرّةُ عيني في الصلاة»، وكان ينادي: «يا بلال، أرِحنا بالصلاة»، فكانت سرورَه وهناءَةَ قلبه وسعادةَ فؤادِه، بأبي هو وأمّي صلوات الله وسلامه عليه.

هي أحسنُ ما قصده المرءُ في كلّ مهِمّ، وأولى ما قام به عند كلِّ خطبٍ مدلهِمّ، خضوعٌ وخشوع، وافتقار واضطرار، ودعاءٌ وثناء، وتحميد وتمجيد، وتذلُّل لله العليِّ الحميد، يقول رسول الهدى صلى الله عليه وسلم : «إنَّ أحدَكم إذا كان في الصلاة فإنّه يناجي ربّه» متفق عليه.

أيها المسلمون، الصلاةُ هي أكبرُ وسائل حِفظِ الأمن والقضاء على الجريمة، وأنجعُ وسائل التربية على العِفّة والفضيلة، ﴿وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ﴾.

هي سرُّ النجاح وأصلُ الفلاح وأوّلُ ما يحاسب به العبدُ يومَ القيامة من عمله، فإن صلَحت فقد أفلح وأنجح، وإن فسَدت فقد خاب وخسِر. المحافظةُ عليها عنوان الصِدق والإيمان، والتهاون بها علامةُ الخذلان والخُسران. طريقُها معلوم، وسبيلُها مرسوم، من حافظ عليها كانت له نورًا وبرهانًا ونجاةً يوم القيامة، ومن لم يحافِظ عليها لم يكن له نورٌ ولا برهان ولا نجاة، وكان يومَ القيامة مع قارون وفرعونَ وهامان وأبيِّ بن خلف. من حافظ على هذه الصلواتِ الخمس ركوعهِنّ وسجودهن ومواقيتِهن وعلم أنهنّ حقٌّ من عند الله وجبت له الجنة.

نفحاتٌ ورحمات، وهِبات وبركات، بها تَكفَّر السيئات وترفَع الدرجات وتضاعَف الحسنات، يقول رسول الهدى صلى الله عليه وسلم : «أرأيتم لو أنَّ نهرًا بباب أحدكم يغتسل فيه كلَّ يوم خمسَ مرّات، هل يبقى من درنه شيء؟!» قالوا: لا يبقى من درنه، قال: «فذلك مَثَل الصلوات الخمس؛ يمحو الله بهنّ الخطايا» متفق عليه.

عبادةٌ تشرِق بالأملِ في لُجّة الظلُمات، وتنقذ المتردّي في دَرب الضلالات، وتأخذ بيد البائِس من قَعر بؤسه واليائس من دَرك يأسِه إلى طريق النجاة والحياة، ﴿وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ﴾.

أيّها المسلمون، إنّ ممّا يندَى له الجبين ويجعل القلبَ مكدَّرا حزينًا ما فشا بين كثيرٍ من المسلمين من سوءِ صنيع وتفريطٍ وتضييع لهذه الصلاةِ العظيمة، فمنهم التاركُ لها بالكلّيّة، ومنهم من يصلّي بعضًا ويترك البقيّة. لقد خفّ في هذا الزمانِ ميزانها وعظُم هُجرانها وقلّ أهلُها وكثُر مهمِلُها، يقول الزهري رحمه الله تعالى: دخلتُ على أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه بدمشقَ وهو يبكي، فقلت له: ما يبكيك؟ فقال: لا أعرفُ شيئًا مما أدركتُ على عهدِ رسول الله صلى الله عليه وسلم إلاّ هذه الصلاة، وهذه الصلاةُ قد ضُيِّعت. أخرجه البخاري.

أيّها المسلمون، إنَّ من أكبر الكبائر وأبين الجرائر تركَ الصلاة تعمُّدًا وإخراجَها عن وقتها كسَلاً وتهاوُنًا، يقول النبي صلى الله عليه وسلم : «العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقَد كفر» أخرجه أحمد، ويقول عليه الصلاة والسلام: «بين الرجل والكفر -أو الشرك- تركُ الصلاة» أخرجه مسلم. وإنّ فوتَ صلاةٍ من الصلوات كمصيبةِ سلب الأموال والضّيعات وفَقد الزوجة والبنين والبنات.

أيّها الجمع، أصِخِ السَّمعَ لقول النبي صلى الله عليه وسلم : «من فاتته صلاة فكأنما وُتر أهله وماله» صححه ابن حبان.

وغضبُ الله ومقتُه حالٌّ على تارك الصلاة، يقول النبيّ صلى الله عليه وسلم : «من ترك الصلاةَ لقي الله وهو عليه غضبان» أخرجه البزار، ويقول جلّ في علاه: ﴿وَمَن يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى﴾ ، ويقول رسول الهدى صلى الله عليه وسلم محذِّرًا ومنذِرًا: «لا تتركنَّ صلاةً متعمِّدًا، فمن فعل ذلك فقد برئت منه ذمّة الله وذمّةُ رسوله» أخرجه الطبراني، ويقول عبد الله بن شقيق رحمه الله تعالى: كان أصحابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يرونَ شيئًا من الأعمال تركُه كفر غير الصلاة. أخرجه الترمذي.

أيها المسلمون، إنّ التفريطَ في أمر الصلاة من أعظم أسبابِ البلاء والشقاء، ضَنكٌ دنيويّ وعذاب برزخي وعِقاب أخرويّ، ﴿فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَياًّ﴾، ويقول النبيّ صلى الله عليه وسلم في حديثِ الرؤيا: «إنّه أتاني الليلة آتيان، وإنهما ابتعثاني، وإنهما قالا لي: انطلِق، وإني انطلقتُ معهما، وإنا أتينا على رجلٍ مضطجِع، وإذَا آخرُ قائم عليه بصخرة، وإذا هو يهوي بالصخرة لرأسه، فيثلغ رأسه -أي: يشدقه-، فيتدهدَه الحجر ها هنا، فيتبع الحجَر فيأخذه، فلا يرجع إليه حتى يصحّ رأسُه كما كان، ثم يعود عليه فيفعل به مثلما فعل المرّةَ الأولى، قال: قلت لهما: سبحان الله، ما هاذان؟ فقالا -في آخر الحديث إخبارًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم عمّا رأى-: أمّا الرجل الذي أتيتَ عليه يُثلغ رأسه بالحجر فإنّه الرجل يأخذ القرآن فيرفضه، وينام عن الصلاة المكتوبة» أخرجه البخاري.

فيا عبد الله، كيفَ تهون عليك صلاتُك وهي رأسُ مالك وبها يصحّ إيمانك؟! كيف تهون عليك وأنت تقرأ الوعيدَ الشديدَ في قول الله جل وعلا: ﴿فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَن صَلاتِهِمْ سَاهُونَ﴾؟! كيف تتّصف بصفةٍ من صفات المنافقين الذي قال الله عنهم: ﴿إِنَّ المُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً﴾؟!

أيّها المسلمون، الصلاةُ عبادةٌ عُظمى، لا تسقُط عن مكلَّف بحال، ولو في حال الفزع والقتال، ولو في حال المرض والإعياء، ما عدا الحائض والنفساء، يقول تبارك وتعالى: ﴿حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ (238) فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً فَإِذَا أَمِنتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُم مَّا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ﴾.

أقيموا الصلاةَ لوقتِها، وأسبغوا لها وضوءَها، وأتمّوا لها قيامها وخشوعَها وركوعَها وسجودها، تنالوا ثمرتَها وبركتها وقوّتها وراحتها.

أيّها المسلمون، جاءت الأدلّة الشرعيةُ الصحيحة الصريحة ساطعةً ناصعة متكاثرةً متضافرة على وجوب صلاة الجماعة على الرجال حَضرًا وسفرًا، يقول جل وعلا: ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ﴾، ﴿مَعَ﴾ المقتضيةُ للجمعية والمعيّة، ويقول تبارك وتعالى لنبيّه محمّد صلى الله عليه وسلم وهو في ساحة القتال وشدّة النِّزال: ﴿وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِّنْهُم مَّعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِن وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ﴾.

ويقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: "مَن سرّه أن يلقى الله غدًا مسلِمًا فليحافِظ على هؤلاء الصلواتِ حيث يُنادَى بهنّ، فإنّ الله شرع لنبيكم سُننَ الهدى، وإنّهنّ من سُنن الهدى، ولو أنكم صلّيتم في بيوتكم كما يصلّي هذا المتخلِّف في بيته لتركتم سنّةَ نبيكم، ولو تركتم سنةَ نبيّكم لضللتم، ولقد رأيتُنا وما يتخلّف عنها إلا منافقٌ معلوم النفاق، ولقد كان الرجل يؤتَى به يُهادَى بين الرجلين حتى يُقام في الصفّ" أخرجه مسلم.

يا شبابَ الإسلام، يا أصحابَ القوّة والفُتوَّة، هذا ابنُ أمّ مكتوم رضي الله عنه وأرضاه يُقبل على رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقول: يا رسولَ الله، قد دَبَرت سنِّي ورقّ عظمي وذهب بصري، ولي قائدٌ لا يلايمني قيادُه إيّاي، فهل تجد لي رخصةً أصلّي في بيتي الصلوات؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «هل تسمعُ المؤذّن في البيت الذي أنت فيه؟ قال: نعم يا رسول الله، قال: ما أجدُ لك رُخصةً، ولو يعلَم هذا المتخلِّف عن الصلاةِ في الجماعة ما لهذا الماشي إليها لأتاها ولو حبوًا على يدَيه ورجليه» أخرجه الطبراني في الكبير.

واشتدّ غضبُ رسول الله صلى الله عليه وسلم على المتخلِّفين عن جماعةِ المسلمين، فقال عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام: «لقد هممتُ أن آمر بالصلاة فتُقام، ثمّ آمر رجلاً يصلِّي بالناس، ثمّ أنطلِق معي برجال معهم حُزَم من حَطب إلى قومٍ لا يشهدون الصلاة، فأحرّق عليهم بيوتهم بالنار» متفق عليه، ويقول أبو هريرة رضي الله عنه: "لأن تمتلئ أذُنا ابنِ آدم رصاصًا مُذابًا خيرٌ له من أن يسمعَ النداء ولا يجيب".

أيّها المتخلِّف في بيته عن أداء الصلاةِ جماعةً في بيوت الله، اسمع لقولِ النبيّ صلى الله عليه وسلم : «من سمع المناديَ بالصلاة فلم يمنعه من اتِّباعه عذر لم تُقبَل منه الصلاة التي صلّى، قيل: وما العذرُ يا رسول الله؟ قال: خوفٌ أو مرض» أخرجه أبو داود وغيره.

وتعظُم المصيبة وتكبر الخطيئةُ حين يكون المتخلِّف عن صلاةِ الجماعة ممّن يُقتَدَى بعمله ويُتأسَّى بفِعله، وهي أعظمُ خطرًا وأشدّ ضررًا حين يكون هذا المتخلِّف ممّن ينتسِب إلى العلم وأهله.

يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "ما بال أقوامٍ يتخلّفون عن الصلاة، فيتخلَّف لتخلُّفهم آخرون، لأن يحضروا الصلاة أو لأبعثنَّ عليهم من يجافي رقابَهم".

أيّها المسلمون، تلك أدلّةٌ ونصوص لاح الحقُّ في أكنافِها وظهر الهدَى في بيانها، ولقد أفصحَت الرسُل لولا صَمَم القلوب، ووضحتِ السُّبُل لولا كدَر الذنوب.

أيّها المسلمون، لقد كثُر المتخلِّفون في زمانِنا هذا عن صلاةِ الجماعة في المساجد، رجالٌ قادرون أقوياء يسمَعون النداءَ صباحَ مساء، فلا يجيبون ولا هم يذّكَّرون. ألسنتُهم لاغية، وقلوبهم لاهِية، رانَ عليها كسبُها، وضلّ في الحياة الدنيا سعيُها، قد انهمكوا في غوايتهم، وتغوّلوا في عمايتهم. التحفوا بسُبَّة الدهر، وتجلَّلوا بأخبث سَوأة وأشرّ، شُغِلوا عن الصلاة بتثمير كسبهم ولهوهم ولعِبهم، ولو كانوا يجِدون من الصلاة في المساجد كسبًا دنيويًّا ولو حقيرًا دنِيًّا لرأيتم إليها مسرعين ولندائها مذعِنين مُهطِعين، يقول رسول الهدى صلى الله عليه وسلم : «والذي نفسي بيده، لو يعلم أحدُهم أنّه يجد عرقًا سمينًا أو مِرماتين حسنتين لشهِد العِشاء» متفق عليه.

أيّها المسلمون، إن الواجبَ على المسلمين ووُلاتهم وعلمائهم وأئمّتهم وأهلِ الحلّ والعقد فيهم تفقّدُ هؤلاء المتخلِّفين وأطرُهم على الجماعة أطرًا وقصرهم عليها قصرًا، فعن أبيّ بن كعب رضي الله عنه قال: صلّى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا الصبحَ فقال: «أشاهدٌ فلان؟ قلنا: نعم، ولم يشهَد الصلاة، ثم قال صلى الله عليه وسلم : أشاهد فلان؟ قلنا: نعم، ولم يشهد الصلاة، فقال صلى الله عليه وسلم : إنّ أثقلَ الصلاة على المنافقين صلاةُ العشاء وصلاة الفجر، ولو تعلمون ما فيهما من الرغائب لأتيتموهما ولو حَبوًا» أخرجه أبو داود.

يا عبدَ الله، يا مَن يأتي المساجدَ في فتور وكسَل ويقضي وقتًا قليلاً على ملَل، أما علمتَ أنّ المساجدَ بيوت الله وأحبُّ البقاع إليه جلّ في علاه؟! يقول النبي صلى الله عليه وسلم : «المسجدُ بيتُ كلِّ تقيّ، وتكفّل الله لمن كان المسجد بيتَه بالروح والرحمة والجواز على الصراط إلى رضوان الله إلى الجنّة» أخرجه الطبراني، ويقول عليه الصلاة والسلام: «سبعة يُظلّهم الله في ظلِّه يومَ لا ظلّ إلا ظلُّه -وذكر منهم- ورجلٌ قلبُه معلَّق بالمساجد» متفق عليه.

فيا مَن يتوَانى ويتثاقل ويتساهل ويتشاغَل، لقد فاتك الخير الكثيرُ والأجر الوفير، يقول النبيّ صلى الله عليه وسلم : «من غدا إلى المسجد أو راح أعدَّ الله له في الجنة نُزُلا كلّما غدا أو راح» متفق عليه، ومن تطهّرَ في بيته ثمّ مضى إلى بيت من بيوت الله ليقضيَ فريضةً من فرائض الله كانت خطواته إحداها تحُطّ خطيئة، والأخرى ترفع درجة، وإنَّ أعظمَ الناس أجرًا في الصلاة أبعدُهم إليها ممشًى، ولا يزال قومٌ يتأخَّرون حتى يؤخّرهم الله، نعوذ بالله من الخذلان والخسران

فيقول الله سبحانه وتعالى: ﴿حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ﴾. الصلاة عمود الدين، ومفتاح الجنة وخير الأعمال، وقد ذكرت في نحو مائة آية في القرآن وفي السنة عشرات الأحاديث النبوية التي تأمر بالصلاة وتحث عليها وتحذر أشد التحذير من تركها أو التهاون بها. وهي وصية الله وأمره للنبيين والمرسلين وأتباعهم إلى يوم الدين، قال إبراهيم عليه السلام: ﴿رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِن ذُرِّيَّتِي﴾. وكان إسماعيل عليه السلام ﴿يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عَندَ رَبِّهِ مَرْضِياًّ﴾، وقال عيسى عليه السلام: ﴿وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَياًّ﴾. وأمر الله محمداً بقوله: ﴿أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً (78) وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مُّحْمُوداً﴾.

وقال له: ﴿وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ﴾. إلى غير ذلك من الآيات التي تبين أهمية الصلاة.

وهي أول ما يحاسب عليه العبد يوم القيامة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة الصلاة، فإن صلحت صلح له سائر عمله وإن فسدت فسد سائر عمله» [صحيح الجامع].

وهي صلة بين العبد وربه، ينقطع فيها الإنسان عن مشاغل الدنيا، ويتجه بها إلى ربه، يطلب منه الهداية والعون والرشاد.

وقد جعل الله لها أوقاتاً مكتوبة فقال: ﴿إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى المُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَّوْقُوتاً﴾.

فأمرهم بإقامتها حين يمسون وحين يصبحون وحين يُظهرون وقدرها خمس مرات في اليوم والليلة لتكون فرصة للمسلم يتطهر بها من غفلات قلبه وكثرة خطاياه وقد مثَّل صلى الله عليه وسلم هذا المعنى في قوله: «مثل الصلوات المكتوبات كمثل نهر جار على باب أحدكم يغتسل منه كل يوم خمس مرات» [الإحسان: 1725].

لهذا في الصلوات الخمس فرصة عظيمة كي يثوب فيها المخطئ إلى رشده، ويرجع الإنسان إلى ربه، ويطفئ هذا اللهيب الذي يشتعل فيه نتيجة لانغماسه في الشهوات والملذات، وقد قال رسول الله في ذلك: «إن لله ملكاً ينادي عند كل صلاة فيقول: يا بني آدم قوموا إلى نيرانكم التي أوقدتموها فأطفئوها».

وفعلاً فالشهوات والملذات والمعاصي نار موقدة تشعل القلوب والعقول، والصلاة بالنسبة لها هي مضخة الإطفاء التي تخمد هذه النار وتطفئها، وهذا واضح تماماً في قوله صلى الله عليه وسلم : «تحترقون تحترقون فإذا صليتم الصبح غسلتها، ثم تحترقون تحترقون فإذا صليتم الظهر غسلتها، ثم تحترقون تحترقون فإذا صليتم العصر غسلتها، ثم تحترقون تحترقون فإذا صليتم المغرب غسلتها ثم تحترقون تحترقون فإذا صليتم العشاء غسلتها، ثم تنامون فلا يكتب عليكم حتى تستيقظوا، بل إن أمر الصلاة أعظم»، يقول: صلى الله عليه وسلم : «إن العبد إذا قام يصلي أُتي بذنوبه كلها فوضعت على رأسه وعاتقيه فكلما ركع أو سجد تساقطت عنه».

والصلاة سبب في رفع منزلة المسلم في الجنة لقوله لأحد الصحابة أكثر من السجود فإنه ليس من مسلم يسجد لله تعالى سجدة إلا رفعه الله بها درجة في الجنة، وحط بها خطيئة، والصلاة هي الباب الذي تبث فيه شكواك وهمك إذا أحاطت بك الخطوب، فخانك الصديق وانقلب الحبيب عدواً، وعقك الولد، وأنكرتْ جميلَك الزوجةُ، فمَالِك الأمر هو الله، فإذا ضاقت عليك الدنيا فقل:يا الله، وإذا ادلهمت الخطوب فقل يا الله وإذا مرضت فقل يا الله، لذا كان رسول الله إذا حزبه أمر لجأ إلى الصلاة وقال، أقم الصلاة يا بلال لكي نرتاح.

وهي أمانة عندك إذا حفظتها حفظك الله وإذا ضيعتها ضيعك الله، ورد أن أعرابياً جاء المدينة وهو يركب ناقته فلما وصل المسجد ربط الناقة ودخل المسجد وصلى بالسكينة والوقار والتعظيم لله سبحانه فلما خرج لم يجد ناقته فرفع يده وقال: اللهم إني أديت إليك أمانتك فاردد إلي أمانتي فجاءته الناقة تسعى إليه.

وللأهمية العظمى للصلاة، أنه عندما أراد الله فرضها لم يرسل ذلك مع جبريل عليه السلام ككل الفرائض الأخرى، ولكنه أخذ محمداً إلى السموات العلى وخاطبه سبحانه، وفرض عليه الصلوات هناك، كما في الإسراء والمعراج.

لذا لا تستغرب أبداً العقاب الشديد الذي توعد الله به تارك الصلاة أو المتهاون فيها كقوله عن أهل النار أنهم يُسئلون ما سلكم في سقر فيجيبون: ﴿لَمْ نَكُ مِنَ المُصَلِّينَ﴾. وقال سبحانه: ﴿فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ﴾. وهم الذين يؤخرون الصلاة عن وقتها. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «من حافظ عليها كانت له نوراً وبرهاناً ونجاة إلى يوم القيامة ومن لم يحافظ عليها لم تكن له نوراً ولا برهاناً ولا نجاة وكان يوم القيامة مع قارون وفرعون وهامان وأبي بن خلف». يقول ابن القيم معلقاً على هذا الحديث: إن في هذا الحديث معجزة نبوية تدل على كرامة رسولنا محمد، فتارك الصلاة إما يشغله عنها ماله، أو ملكه أو رياسته أو تجارته، فمن شغله عنها ماله فهو مع قارون، ومن شغله عنها ملكه فهو مع فرعون، ومن شغله عنها رياسته فهو مع هامان، ومن شغله عنها تجارته فهو مع أبي بن خلف، بل إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تترك الصلاة متعمداً فإنه من ترك الصلاة متعمداً فقد برئت منه ذمة الله ورسوله» [الترغيب/813].

وقال: «من ترك الصلاة لقي الله وهو عليه غضبان» [الترغيب/803].

وإذا غضب الله على إنسان فمن ذا الذي يرضى عنه بعد ذلك.

لذا كان نبينا صلى الله عليه وسلم يهتم بالصلاة وإقامتها والحث عليها اهتماماً عظيماً حتى أن آخر كلمة قالها قبل الانتقال إلى الرفيق الأعلى آخر كلمة أنه أوصى المسلمين بالصلاة وقال صلى الله عليه وسلم : «الصلاة الصلاة». وكذلكم كان صحابته رضوان الله عليهم مع أنفسهم ومع أهليهم فقد كان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب إذا صلى من الليل ما شاء الله له، أيقظ أهله آخر الليل، يقول لهم: (الصلاة الصلاة، ثم يتلو هذه الآية: ﴿وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لاَ نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَّحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى﴾.

بل إنه عندما طعنه أبو لؤلؤة المجوسي - لعنه الله - وأغمي عليه وأراد الصحابة أن يوقظوه قال أحدهم: أيقظوه بالصلاة فإنكم لن توقظوه بشيء إلا الصلاة فقالوا الصلاة الصلاة يا أمير المؤمنين: فإذا به يستيقظ ويقول: الصلاة الصلاة لاحظ للإسلام لمن ترك الصلاة، فصلى وإن جرحه لينزف دماً.

أيها الأخوة: مع كل هذا الاهتمام بالصلاة في الإسلام إلا أن نظرة إلى الواقع تكشف لنا الحال الذي لا يبشر بالخير أبداً، فمن الناس من يترك الصلاة إهمالاً لها، وقد يكون احتقاراً لها، وبخاصة بين صغار السن والشباب من الجنسين، وبعضهم صارت الصلاة لديه ألعوبة يؤديها وقتما يشاء ويتركها متى يشاء، فلا يصلي إلا من جمعة إلى جمعة، وهناك من الكبار من لا يصلي فهل تصدقون ذلك، هناك من الشباب والأولاد من يلعبون الكرة حتى في أوقات الصلاة.

ومنهم من يتجول في سيارته حتى انتهاء الصلاة، أو يقضي الوقت عند هواتف العملة، ومنهم من إذا سمع الأذان دخل بيته أو دكانه وأقفل على نفسه وهو لا يدري أن الله قادر على أن يهدم عليه الجدران والأسقف التي يختبئ فيها، إنهم يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهو معهم.

ومنهم من تصل بهم الجرأة إلى أن يجلس على الأرصفة في الشوارع جهاراً نهاراً في أوقات الصلاة وكأنه ليس بمسلم، وكأنه ليس في بلد إسلامي - سبحان الله - الله أكبر تجلجل في الآذان وهم في اللعب لاهون، وفي الطرقات يتسكعون وفي المنازل نائمون أو مختبئون، ترى لمن يقول المؤذن حي على الصلاة؟ لمن يقول المؤذن حي على الفلاح؟ لمن؟

يا ناس ماذا في الصلاة يجعلكم لا تلبون النداء؟ ماذا في الصلاة من ضرر؟ ماذا في الصلاة من مشقة؟ كم تأخذ هذه الصلاة من أوقاتهم الطويلة جداً، إنها لا تأخذ أكثر من ساعة في الأوقات الخمس.

أثقيلة عليهم هذه الساعة - سبحان الله –﴿يَاأَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الكَرِيمِ (6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ﴾. الحقيقة أن طبائع بعض الناس دناءة غريبة لأنهم يستسهلون أخذ النعمة؟ ثم يستثقلون تقديم الشكر، يدبرون من الله أن ينعم عليهم بالمال والصحة والأمن ولكنهم ليسوا مستعدين لأن يشكروه على هذه النعم بأداء الصلاة والمحافظة عليها، لذا يقول سبحانه في هؤلاء وأمثالهم: ﴿فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَياًّ﴾.

قال سعيد بن المسيب عن غي هو واد في جهنم بعيد قعره، خبيث طعمه، شديد عقابه، لمن؟ للذين تركوا الصلاة وتهاونوا بها. فاتقوا الله عباد الله في أمور دينكم عامة وفي صلاتكم خاصة بأن من تركها ترك الدين.

أما بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله حقّ التقوى، فإنها خير وصية أوصى بها رجل أخاه، ﴿وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ﴾، ﴿وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاًّ (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ﴾.

عباد الله، يقول الله سبحانه: ﴿وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ﴾، إن أعظم أركان الإسلام بعد تحقيق التوحيد هي الصلاة، وهي عمود الدين، هي شعار الموحدين، هي الفاصلة بين الإسلام والكفر.

عباد الله، ما بلغت الصلاة هذه المكانة إلا لِما امتازت به على سائر الأعمال، فلقد خص الله سبحانه الصلاة بأمورٍ ليست موجودة في غيرها من العبادات:

فمن ذلك ـ عباد الله ـ أنها فرضت في السماء السابعة، ومن الله مباشرة بدون واسطة جبريل، وذلك ليلة الإسراء والمعراج، أما غيرها من العبادات فكان جبريل فيها واسطة بين الله سبحانه وبين الرسول .

الصلاة ـ أيها الإخوة ـ يؤمر بها كل مسلم بلغ سبع سنين، ولا تسقط عن البالغ سفرًا ولا مرضًا، ولا تجب على أحدٍ دون أحدٍ، أما غيرها من العبادات فلا تجب على كل مسلم، فالصوم لا يجب إلا على القادر، والزكاة لا تجب إلا على من عنده مال وبلغ نصابًا، والحج لا يجب إلا على المستطيع.

عباد الله، من خصائص الصلاة أنها هي آخر ما يرفع من الدين كما صح ذلك عن رسول الله .

الصلاة هي أول ما يحاسب عليه العبد يوم القيامة، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم : «أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة صلاته، فإن صلحت صلح له سائر عمله, وإن فسدت فسد سائر عمله» رواه أحمد وأبو داود وغيرهما بأسانيد صحيحة.

اختصت الصلاة ـ عباد الله ـ بأن من تعمد تركها فإنه يكفر على الصحيح من أقوال أهل العلم ولو كان تركًا من غير جحود، أما العبادات غيرها فلا يكفَّر تاركها إلا بالجحود، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم : «العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، من تركها فقد كفر»، ويقول عبد الله بن شقيق: ما كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يرون شيئًا من الأعمال تركه كفر غير الصلاة.

من خصائص الصلاة ـ عباد الله ـ أنها عبادة الأنبياء، يقول الله عن زكريا: ﴿فَنَادَتْهُ المَلائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي المِحْرَابِ﴾، ويقول الله سبحانه: ﴿وَاذْكُرْ فِي الكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الوَعْدِ وَكَانَ رَسُولاً نَّبِياًّ (54) وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عَندَ رَبِّهِ مَرْضِياًّ﴾.

روى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه في قصة كذبات إبراهيم عليه السلام قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «وبينما إبراهيم ذات يوم ومعه سارة، إذ أتى على أرض جبارٍ من الجبابرة، فقيل له: إن ها هنا رجلاً معه امرأة من أحسن الناس، فأرسل إليه فسأله عنها، فقال: من هذا؟ قال إبراهيم: هذه أختي، فأتى سارة وقال: يا سارة، ليس على وجه الأرض مؤمن غيري وغيرك، وإن هذا سألني عنك فأخبرته أنك أختي فلا تكذبيني، فأرسل إليها، فلما دخلت عليه ذهب الجبار يتناولها بيده فأُخِذ، فقال: ادعي الله لي ولا أضرك، فدعت الله فأطلِق، ثم تناولها الثانية فأخِذ مثلَها أو أشدّ، فقال: ادعي الله لي ولا أضرك، فدعت فأطلِق، فدعا بعض حجبته فقال: إنكم لم تأتوني بإنسانٍ، إنما أتيتموني بشيطان، فأخدَمَها هاجر، فأتت إبراهيم وهو قائم يصلي، فأومأ بيده: مهيم؟ قالت: رد الله كيد الكافر في نحره وأخدم هاجر».

عباد الله، إن من فضائل الصلاة أنها هي قرّة عين النبي صلى الله عليه وسلم ، روى الإمام أحمد والنسائي عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «حبِّب إلي من دنياكم النساء والطيب، وجعلت قرة عيني في الصلاة».

أيها الناس، إن أمرًا هذا صفته وعبادةً هذه فضائلها جديرةٌ بأن تكون حلاًّ لكثير من المشاكل ومفزَعًا في كثير من الملمّات، ولقد كان صلى الله عليه وسلم يقول لبلال: «أرحنا بالصلاة يا بلال».

ما من مشكلة إلا والصلاة حلّ لها:

إذا أجدَبت الأرض وقحط المطر ونشف الضرع أمِرنا أن نفزع إلى الصلاة.

إذا تغيّر مجرى الكون واختلّ نظامه فذهب نور الشمس وأظلم القمر أمِرنا أن نفزع إلى الصلاة، في البخاري ومسلم: «إنّ الشمس والقمر آيتان من آيات الله، لا ينكسفان لموت أحدٍ ولا لحياته، فإذا رأيتموها فادعوا الله وصلوا».

إذا مات المسلم وغادر هذه الحياة وابتدأ حياةً جديدةً أمِرنا أن نودِّعه بالصلاة.

إذا اضطرَبت أمور المؤمن وضاق عليه أمره فلا يدري أيذهب أم يعود أيفعل أم يترك أمِرنا أن نلجأ إلى الصلاة، في البخاري عن جابر رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا الاستخارة في الأمور كما يعلّمنا السورة من القرآن يقول: «إذا همّ أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة، ثم ليقل: اللهم إني أستخيرك بعلمك وأستقدرك بقدرتك...» الدعاء المعروف.

إذا نام الإنسان ففزع في نومه وأقلقَته أحلام الشيطان أمِر أن يلجأ إلى الصلاة، في البخاري ومسلم عن أبي هريرة مرفوعًا: «إذا رأى أحدكم رؤيا يكرهها فلا يحدِّث بها أحدًا وليقم فليصلّ»، وفي البخاري عن عبادة مرفوعًا: «من تعارّ من الليل فقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، والحمد لله، وسبحان الله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله، ثم دعا استجيب له، فإن توضأ وصلى قبلت صلاته».

إذا قدم الإنسان من سفر وألقى رحالَه أمِر أن يبدأ بالصلاة، في البخاري ومسلم أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان إذا قدم من سفر بدأ بالمسجد، فركع فيه ركعتين. وفي البخاري أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما اشترى جمل جابر وهما في سفرٍ أمره إذا وصل المدينة أن يبدأ بالصلاة.

إذا عصى المؤمن ربّه وأخطأ في حقّ مولاه فأذنب ذنبًا ثم ندم على فعله أمِرنا أن نلجأ إلى الصلاة، روى الترمذي وأبو داود وابن ماجه بإسناد صحيح عن أبي بكر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ما مِن رجل يذنب ذنبًا ثم يقوم فيتطهّر ثم يصلّي ثم يستغفر الله إلا غفر الله له»، ثم قرأ: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ﴾.

أمّا بعد: فاتّقوا الله أيّها المسلمون، ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ﴾. اتَّقوا اللهَ وأطيعوه، ﴿وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاًّ (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ﴾.

حاسِبوا أنفسَكم قبل أن تحاسَبوا، فإنّه أهوَن عليكم في الحِساب غدًا، واستعدّوا للعَرض الأكبر على الله، ﴿يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لاَ تَخْفَى مِنكُمْ خَافِيَةٌ﴾. ادّخِر راحتَك لقبرك، وقلِّل مِن لهوِك ونومِك، فإنّ وراءك نومةً صبحُها يومُ القيامة.

وبعد: عبادَ الله، قبلَ بعثة النبيّ صلى الله عليه وسلم كانت هذه الأمّة في مؤخِّرة ركبِ الأمم في العبادةِ والتديُّن والقوّة والظهور والأخذِ بأسباب الدنيا والسَّبق فيها، حتّى أكرمها الله تعالى ببِعثةِ سيِّد البشَر محمّد صلى الله عليه وسلم ، فما هي إلاّ سنواتٌ قليلة حتّى فاقت أممَ الأرض قاطبةً في جميع المجالات، فبالحقِّ سادت، ثمّ بالخير جادَت، ولا زالت حضارتُها وسُلطانها في مدٍّ وجَزر حتى وقتِنا الحاضِر وزمانِنا المتأخِّر، والذي يُشكَى حالُ الأمّة فيه إلى الله، حيث تسلّط الأعداء، فاحتلّوا بعضَ ديارها، وانتقَصوا مِن أطرافها، وانتهَبوا خيراتِها، وغزَوا المسلمين في دينهم وفي فكرِهم، مع فُرقةٍ في المسلمين وشتاتٍ في الرّأي واختلافٍ زادَ في تمكينِ الأعداء عليهم.

وإنّ سردَ جوانبِ الضّعف وظواهره يوهن ويُحزن إلاّ أنّه لا بدّ من كشفِ الجرح لعِلاجه. ومنذ سنينَ عِدّة والمنتسبون لأمّة الإسلام يتنافسون في كشفِ الدّاء وتوصيفِ الدّواء، فمِن ناسبٍ ضعفَ المسلمين إلى أسبابٍ مادّية أو أسبابٍ حضاريّة وفكريّة أو غير ذلك، الجميعُ ينظرون ويجتهِدون، وكلّ حزبٍ بما لديهم فرحون. بل وصَل الحال ببعض بني المسلمين إلى اتّهام الإسلام نفسِه أو بعضِ شرائِعه، إلاّ أنّ المتأمّلَ في تاريخ الأمّة الإسلاميّة منذ نشأتها والمتبصّر في منهاجِها ودستورِها يعلَم داءَها ودواءَها وسقمَها وشِفاءها، يعلَم علمَ اليقين أسبابَ الضّعف المُهين، كما يعلَم أسبابَ النّصر والتّمكين.

إنَّ استمدادَ ذلك العِلم ليس من البشر، بل من خالق البشَر سبحانه حَكم بقوله: ﴿وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ﴾ ، والذي قال جلَّ شأنه: ﴿أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ﴾. كما أنَّ الناظرَ أيضًا يعلم أنَّ رياحَ التغيير لا تهبّ من فَراغ، وأنَّ الإصلاحَ يبدأ مِن النّفس، ﴿إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ﴾ ، كما يعلم أنّ الهدايةَ تأتي بعد المجاهدة، ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ المُحْسِنِينَ﴾.

إذًا حالُ الأمّة الحاضر وواقعُها المؤلم سببُه التقصيرُ في الأخذِ بأسباب النصر الحقيقيّة التي لا نصرَ بدونها، فنحن قومٌ أعزَّنا الله بالإسلام، مهما ابتغَينا العزّةَ بغيره أذلّنا الله؛ لذا لا بدّ من المحاسبة على هذا المنهاج، يجب أن يتفقّد المسلمون حالَهم مع دينهم وعلاقتَهم بربِّهم.

أيّها المسلمون، أيّها القاصدون بيتَ الله المعظَّم، وهذه وقفةُ محاسبة مع أعظمِ عُنوانٍ للصِّلة بالله، وأهمِّ ركن بعد شهادةِ أن لا إله إلا الله وأنّ محمّدًا رسول الله، ألا وهو الصلاة.

الصّلاة ـ أيّها المؤمنون ـ ركنُ الدين ومعراجُ المتّقين وفريضة الله على المسلمين، لا دينَ لمَن لا صلاةَ له، ولا حظَّ في الإسلام لمَن ترك الصّلاة، مَن ترك صلاةً مكتوبة متعمِّدًا مِن غيرِ عُذر برِئت منه ذمّة الله. كان أصحاب النبيِّ صلى الله عليه وسلم لا يرَون شيئًا مِن الأعمال تركُه كُفر غير الصّلاة، وفي صحيح مسلمٍ أنّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «ليس بينَ الرّجل والكفرِ ـ أوالشرك ـ إلاّ ترك الصّلاة»، بل جعل الله الصلاةَ عنوانَ الإسلام فقال: ﴿أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى (9) عَبْداً إِذَا صَلَّى﴾.

كلُّ الفرائض أنزلها الله تعالى على رسولِه إلاّ الصلاة، فإنّه سبحانه أصعدَ إليها رسولَه، فعرج بنبيِّه صلى الله عليه وسلم إلى السّماء السّابعة، فأكرمَه حتّى رضي، ثمّ فرض عليه الصلواتِ الخمس، لذا كانت أكثرَ الفرائض ذِكرًا في القرآن، بل كانت وصيّةَ رسول الله صلى الله عليه وسلم عندَ فِراق الدّنيا وهو يغالِب سركاتِ الموت، تخرج روحُه الشريفة وهو مشفِق على أمّته، يجود بنفسِه وينادي: «الصلاةَ الصلاةَ وما ملكت أيمانُكم»، وكانت همَّه وهو في الرّمَق الأخيرِ يسأل: «هل صلّى الناس؟ مُروا أبا بكر فليصلِّ بالناس».

هي عنوانُ الفلاحِ وطريق النجاح، ﴿قَدْ أَفْلَحَ المُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ﴾ إلى أن قال في آخر نعتِهم: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (9) أُوْلَئِكَ هُمُ الوَارِثُونَ (10) الَّذِينَ يَرِثُونَ الفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾.

الصلاة واجبةٌ على المسلم في كلّ حال، لا تسقط بمرضٍ ولا خوف، بل حتّى عند العجز عن شروطِها وأركانِها ما دامَ العقل موجودًا، وحتّى في حالاتِ الفزَع والقتال، ﴿حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ (238) فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً فَإِذَا أَمِنتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُم مَّا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ﴾، وصلاةُ الخوف مذكورةٌ صفتُها في سورة النّساء، على أيّ حالٍ لا بدّ أن يصليَ المسلم، مستقبلَ القبلة فإن لم يستطع صلّى لأيّ جهة، قائمًا فإن لم يستطع فقاعدًا، فإن لم يستطع فعلى جنب، وإلاّ فعلى أيّ حال، وإن عجز عن طهارةٍ أو ستر عورة أو غير ذلك صلّى على أيّ حال، نَعَم على أيّ حال لأنّها الصلاة التي هي أوّل ما يُسأل عنه العبدُ يومَ القيامة، فإن صلحت صلح سائرُ العمل، وإن فسَدت فسَد سائرُ العمل، كما صحّ بذلك الخبرُ عن المعصومِ صلى الله عليه وسلم ، فلا يقبَل اللهُ عبادةً دونها.

أيّها المسلمون، خمسُ صلواتٍ مفروضة في كلّ يوم: الفجر والظّهر والعصرُ والمغرب والعِشاء، كفّارة لما بينها، فتطهِّر القلوبَ من درن الذنوب، بل تمنعُها ابتداءً، ﴿إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ﴾. وإذا ما ضايقَتك سيّئاتك يومًا وأثقلت كاهلَك الخطايا فابتدِر الصلاةَ واسمََع قول الإله: ﴿وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ﴾ ، وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «أرأيتُم لو أنّ نهرًا بباب أحدِكم يغتسِل منه كلَّ يومٍ خمسَ مرّات، هل يبقى من درنِه شيء؟» قالوا: لا يبقى من درنِه شيء، قال: «فذلك مثَل الصلوات الخمس، يمحو الله بهنّ الخطايا».

والصلاةُ بابٌ للرزق، ﴿وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لاَ نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَّحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى﴾، هي المفزَع عند الجزَع، وإليها الهرَب عند الهلَع، ﴿وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الخَاشِعِينَ﴾؛ لذا كانت قرَّة عين النبيِّ صلى الله عليه وسلم ، فإذا حَزَبه أمرٌ فزع إلى الصّلاة، ونادى: «أرِحنا بها يا بلال»، وأجاب حين سُئل: أيّ الأعمال أفضل؟ قال: «الصلاة على وقتِها» متفق عليه.

وبعدَ هذا فكيف ترجو أمّة نصرَ ربِّها إذا ضيَّعت صِلَتها به وعجزت عن القيام بفَرضه؟! إنّ الذين يفرِّطون في هذه الصّلوات لا يستحقّون إكرامًا ونَصرًا مِن الخالق ولا مِن المخلوقين. إنّ الصلاةَ أوّل شروط النصرِ والتمكين، ﴿الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ المُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ﴾، فكيف يُنصَر المسلمُ أو يُوفَّق إذا ترك الصلاةَ وقد جُعِل سببَ دخول النار؟! ﴿مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ المُصَلِّينَ﴾ ، وفي وصفِ الوجوهِ الباسرة: ﴿فَلاَ صَدَّقَ وَلاَ صَلَّى (31) وَلَكِن كَذَّبَ وَتَوَلَّى (32) ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى (33) أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (34) ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (35) أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى﴾، ومع كلِّ هذا فإنّك لتأسَى وتحزَن إذا علمتَ أنّ فئامًا من المسلمين تركوا الصّلاة أو تهاونوا فيها.

فاتقوا الله أيّها المسلمون، وائتمِروا بالمعروف، وتناهَوا عن المنكر، وتواصَوا بالصلاة، وليكن قدوة المربّين والدعاة أمر الله لنبيِّه: ﴿وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَ﴾. وقد امتدح الله إسماعيلَ عليه السلام بقوله: ﴿وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ﴾ ، وفي الحديث الصحيحِ على شرطِ مسلم أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «مُروا أبناءكم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشر»، وأمرُ الناسِ بها وكذا أمرُ الأهل والأولاد مِن المحافظة عليها.

أيّها المسلمون، وثمّةَ صنفٌ مِن الناس رخصَت عندهم الصلاةُ، فهي آخرُ أشغالِهم ونهايةُ أعمالِهم وفي نهايةِ اهتمامِهم، فيجمَعون الصلواتِ بلا عُذر، ويؤخرِّونها عن وقتِها، وعليهم ينطبق قول الله: ﴿إِنَّ المُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى﴾، وفيهم نزل قولُ الحقّ سبحانه: ﴿فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَن صَلاتِهِمْ سَاهُونَ﴾ أي: لاهون يؤخِّرونها عن وقتها، ألم يسمعوا قولَ الله عزّ وجلّ: ﴿إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى المُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَّوْقُوتاً﴾؟! أي: مؤقَّتًا؛ معلوم البدايةِ والنهاية، لا تصحّ قبلَ الوقت كما لا تصحّ بعدَه إلاّ مِن عُذر.

فاتّقوا الله، وحافظوا على الصلواتِ في أوقاتها، وليعلَم الرّجال أنّها واجبة عليهم في جماعةِ المسلمين في المساجِد، ولو وسِع أحدًا تركُ الجماعة لوسَّع النبيّ الرحيمُ بأمّته على ذلك الشيخِ الضرير الذي يفصِل بينَه وبين المسجد وادٍ كثير السّباع والهوامّ وليس له قائد يقوده، فاستأذن النبيَّ صلى الله عليه وسلم للصلاة في بيته فلم يأذن له، فكيف بمن أفاء الله عليه ويسَّر له؟! وإلا فلِم المساجد شيِّدت والمآذن رُفعت والجماعات أقيمَت؟! أللجمعةِ فقط؟! أللجمعة فقط؟! لا حولَ ولا قوّة إلا بالله.

عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: "من سرَّه أن يلقى اللهَ غدًا مسلمًا فليحافِظ على هؤلاء الصلوات حيث ينادَى بهنّ، فإنّ الله شرَع لنبيّكم سننَ الهدى، وإنّهن مِن سُنَن الهدى، ولو أنّكم صلّيتم في بيوتِكم كما يصلّي هذا المتخلّف في بيتِه لتركتُم سنّة نبيِّكم، ولو تركتم سنّةَ نبيّكم لضللتم، ولقد رأيتُنا وما يتخلَّف عنها إلا منافقٌ معلومُ النفاق، ولقد كان الرجل يُؤتى به يُهادَى بين الرجلين حتى يقام في الصفّ" رواه مسلم

الحمد لله غافر الزّلات، مقيلِ العثرات، يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ. أحمده سبحانه وأشكره، وأتوب إليه وأستغفِره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له، وأشهد أنَّ محمَّدًا عبده ورسوله، شهادةً نرجو بها النجاةَ يومَ الموافاة، اللهمَّ صلِّ وسلِّم وبارك على عبدك ورسولك محمّد، وعلى آله وصحبِه ومَن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.

أمّا بعد: أيّها المسلمون، فمَن أرد الحِرز والحِفظ والتوفيقَ والأمن فليحافِظ على الصلاة، عن جندب بن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «من صلّى الصبحَ في جماعة فهو في ذمَّة الله» رواه مسلم.

كما أنَّ الصلاة فريضةُ مشترَكة بين النبيِّين، فكلُّهم أُمِروا بها، قال الله سبحانه عن إبراهيم ولوطٍ ويعقوبَ وإسماعيل عليهم السلام: ﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلاةِ﴾، وهي دعوةُ أبينا إبراهيم حينَ دعا ربَّه بقوله: ﴿رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِن ذُرِّيَّتِي﴾، وقال: ﴿رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ المُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ﴾ ، وقال سبحانه عن عيسى عليه السلام: ﴿وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَياًّ﴾ ، وفي كلامِ الله تعالى لموسى عليه السلام: ﴿إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي﴾ ، ولنبيّنا محمّد عليه الصلاة والسلام: ﴿وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَ﴾، ﴿أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً﴾، وقال سبحانه عن عبادِه الصالحين المصلحين: ﴿وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ المُصْلِحِينَ﴾.

فهل تجِدون بعدَ هذا ـ أيّها المؤمنون ـ عبادةً حظِيت بمنزلةٍ فوق الصلاة؟! أم هل يجِد المفرِّطون والمتهاوِنون عُذرًا بعدَ هذا البلاغ؟!

عبادَ الله، ويرتبط بالحديث عن الصّلاة إشارة ضروريّةٌ إلى روحها ولُبِّها، ألا وهو إتمامها والخشوع فيها. فمِن إتمامها العنايةُ بشرائطها ووضوئها والطّمأنينة فيها وعدَم مسابقة الإمام واتّباعُ السنّة في أدائها كما قال المصطفى صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه البخاري: «صلّوا كما رأيتموني أصلّي».

والخشوعُ -أيّها المصلّون- انكسارُ القلبِ بين يدَي الله تعالى وامتلاؤُه مهابةً له وتوقيرًا وسكونُ الخواطر الدنيويّة واستحضارُ عظمةِ الباري سبحانه والاشتغالُ بالكلّيّة بالصّلاة مع الوقارِ والسكينة، عند ذلك تسكُن الجوارح ويُطرِق البصر.

عن عثمان بن عفّان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «ما من امرِئٍ مسلمٍ تحضره صلاة مكتوبةٌ فيحسِن وضوءها وخشوعَها وركوعها إلا كانت كفّارةً لما قبلها من الذّنوب ما لم تُؤتَ كبيرة، وذلك الدّهرَ كلّه» رواه مسلم. والله تعالى قال: ﴿لاَ تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ﴾، وكم من مصلٍّ لم يشرَب خمرًا هو في صلاتِه لا يعلم ما يقول، قد أسكرَته الدنيا بهمومِها.

فاتّقوا الله أيّها المسلمون، وحافظوا على عهدِ الله إليكم، وتأهّبوا فالحسابُ بين يدَيكم.