بذل الجاه في حوائج الناس

بسم الله الرحمن الرحيم

بذل الجاه في حوائج الناس

عباد الله: حسن اللقاء وطيب الكلام، ومشاركة الأخ لأخيه في السراء، ومواساته في الضراء، كل ذلك من كريم الخصال، وحميد الفعال، وهي من المعروف الذي يجب على كل مسلم ألا يقلل من شأنه، أو يحتقر بذله «لا تحقرن من المعروف شيئاً، ولو أن تلق أخاك بوجه طلق».

فالناس لا يستغنون عن بعضهم، ولا يستقلون عن المظافر والمساعد، فإن ذلك كلَّه تعاون وائتلاف، يتكافئون فيه ويتفاضلون، ولربما احتاج شخص إلى آخر، والمحتاج إليه أقلَ منه، كاستعانة السلطان بجنده، والمزارع بعماله، فليس من هذا بد، ولا لأحد عنه غنى. ولا ريب أن الناس في الخير والشر درجات، ﴿وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُوا﴾ وأن أعلاهم درجة من سعى في الخير لنفسه ولغيره، كما أن أسفلهم من هو بعكس ذلك.

وإن من أهم القربات التي رتب الله عليها الأجر العظيم، والثواب العميم، قضاء حوائج الناس، والسعي في تمامها، والشفاعة فيها ﴿مَن يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُن لَّهُ نَصِيبٌ مِّنْهَا﴾. وفي (خ) من حديث أبي موسى : «اشفعوا تؤجروا، ويقضي الله على لسان نبيه ما شاء». وعند (خ م) من حديث ابن عمر «المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه بها كربة من كرب يوم القيامة».

وعند (م) عن أبي هريرة : «من نفس عن مسلم كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن ستر مسلما ستره الله في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه».

فينبغي للعبد أن يكون مباركاً على نفسه وعلى غيره، باذلا وسعه في الدعوة إلى الخير، والترغيب فيه بالقول والفعل، والتحذير من الشر بكل طريق، لا يحقرن من المعروف شيئاً.

جاء رجل إلى الحسن بن سهل يستشفع به في حاجة، فقضاها له، فأقبل الرجل يشكره، فقال له الحسن: علامَ تشكرنا، ونحن نرى أن للجاه زكاة، كما أن للمال زكاة.

حقيق عباد الله: على من علم الثواب، ألا يمنع ما ملك من جاه أو مال، إن وجد السبيل إليه، قبل حلول المنية، فينقطع عن الخيرات، كان الصحابة إذا ضاقت بهم ضائقة، ذهبوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألونه الشفاعة لهم فيها عند أصحابها، ففي حديث جابر بن عبد الله قال: إن أباه توفي وترك ثلاثين وسْقاً لرجل من اليهود، فا ستنظره جابر، فأبى أن يُنظِره، فكلم جابر رسول الله صلى الله عليه وسلم ليشفع له إليه، فكلم النبي صلى الله عليه وسلم اليهودي ليأخذ ثمر نخله بالذي له، فأبى.

عباد الله: خرج الشيخان من حديث كعب بن مالك: «أنه تقاضى كعبَ بن أبي حدرد ديناً كان عليه في المسجد، فارتفعت أصواتهما، حتى سمعها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في بيته، فخرج إليهما، حتى كشف سِجْفَ حجرته فنادى: يا كعب، فقال: لبيك يا رسول الله، قال: ضع من دينك هذا، وأشار إليه أي الشطر، قال: قد فعلت يا رسول الله، قال: فقم فاقضه».

عباد الله: إن من مفاتيح الخير، بل من أعظم أنواع الشفاعة أجراً، الشفاعة لضعفاء المسلمين، أولئك المساكين: الذين ليس لهم حظ من المنصب أو الجاه والسمعة، ممن هو أهل لذلك العمل، ولا يعني هذا تقديمه على من هو أحق منه. في (خ) صلى الله عليه وسلم قال: «هل تنصرون إلا بضعفائكم». واعلموا أن أجر الشافع - إذا أحسن النية – متحقق له حتى ولو ردت شفاعته؛ لأن الله تعالى، رتب عليها الأجر ﴿مَن يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُن لَّهُ نَصِيبٌ مِّنْهَا﴾. ويؤكده قوله صلى الله عليه وسلم : «اشفعوا تؤجروا». يأتي أحدهم لإدراك عمل أو وظيفة، فيطرق كل باب، ويستعطف كل أحد، فلا يؤبه به، ولا يلتفت إليه. بينما لو كان أحدَ أهل الجاه والمال، أو الحسب والنسب، لأُظهر له الخدمة، بل والتشرف بذلك، وقضاء حاجته دون تردد أو تضجر، فيا سبحان الله !! أين أداء الأمانة ؟! أين الاحتساب والأجر؟ كان الرجل في الجاهلية إذا استجار به صاحبه أو رجل غريب، أجاره وقام بقضاء حاجته، ويعد ذلك شهامة ورجولة، بل وينتقصه رجال قومه لو فرط فيها، فأين أولئك الذين وُظفوا لقضاء حوائج الناس، ومع ذلك يجعلون مصالحهم الشخصية، فوق كل مصلحة. بل قد تبلغ الخيانة بأحدهم: أن يقدم شخصاً فيه موانع يتعذر بها قبوله، ويرد العشرات غيره كلُّهم مؤهل لذلك العمل.

عباد الله يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : "فكونوا رحمكم الله مفاتيح للخيرات، مغاليق للشرور والآفات، فمن كان منكم مخلصا لله، ناصحا لعباد الله، ساعيا في الخير بحسب إمكانه، فذاك مفتاح للخير حائز للسعادة، الذي إذا اجتمع بالناس في مجالسهم حرص على إشغالهم فيما ينفعهم في دينهم ودنياهم، ومنهم من يشغلهم بما يضر وما لا يغني، فتبارك الذي فاوت بين العباد هذا التفاوت العظيم أ.هـ

فتعالوا عباد الله: نتعاون على الخير، نبر كبيرنا، ونرحم صغيرنا وضعيفنا، وينصح الواحد منا أخاه بالحسنى؛ لكي تتم النعمة، ويتماسك المجتمع، وتستقيم أخلاقنا، وينتشر الخير والبر، ونفوز برضوان ربنا.

الخطبة الثانية:

الحمد لله رفع السماء ووضع الميزان، أمر بإقامة الوزن بالقسط ونهى عن خسران الميزان، أمر بالعدل والإحسان، ونهى عن الظلم والعدوان، و صلى الله وسلم وبارك على نبيه ومصطفاه، وخير خلقه محمد بن عبد الله، وآله وصحبه ومن والاه ... أما بعد:

عباد الله: ينفر كثير من الناس عن الشفاعة لغيرهم، خوفاً من عدم قبولها، ألا فليعلم أولئك، أن سيّد الخلق صلى الله عليه وسلم ، وهو أعظم حقاً، وأولى بكل مسلم من نفسه، رُدَّت شفاعته، فما أصدر تحسراً ولا ندما، ولا عاتب أحدا.

خرج (خ م) عن ابن عباس: «أَنَّ زَوْجَ بَرِيرَةَ كان عَبْدًا يُقَالُ له مُغِيثٌ، كَأَنِّي أَنْظُرُ إليه، يَطُوفُ خَلْفَهَا يَبْكِي، وَدُمُوعُهُ تَسِيلُ على لِحْيَتِهِ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم للِعبَّاس: يا عَبَّاسُ، ألا تَعْجَبُ من حُبِّ مُغِيثٍ بَرِيرَةَ، وَمِنْ بُغْضِ بَرِيرَةَ مُغِيثًا؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : لو رَاجَعْتِهِ، قالت: يا رَسُولَ اللَّهِ، تَأْمُرُنِي ؟ قال: إنما أنا أَشْفَعُ، فقالت: لَا حَاجَةَ لي فيه».

عباد الله: لست أدعو هنا إلى أن نأخذ حقوق غيرنا عن طريق الشفاعات، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من اقتطع مال امرئ مسلم بغير حق، لقي الله وهو عليه غضبان». أيما شفاعة أَخذت حق مسلم، فهي شفاعة محرمة، فما أجمل الشفاعة التي توصل الحق إلى صاحبه.

عباد الله: إن شأن المسئولية عظيم، وكلٌ مسائل عن مسئوليته، فلو أنجزنا الأعمال بمثل المسئولية التي تحملناها أمام الله، ثم أمام ولاة الأمر، لما احتاج صاحب الشأن للبحث عن شفيع أو وسيط، ولما احتاج الشفيع إلى بذل شفاعته، ولما صار الناس رهائنَ الشفاعات، يبحثون عنها.

فعلى من رزقه الله منصبا وسلطة، أن يتق الله، وأن يراقبه في جميع شئونه، وليحذر من استغلال نفوذه في ما لا يرضي الله تعالى، من أجل محاباة قريب أو صديق، وليعلم أن ذلك من الخيانة والغش للمسلمين ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ ﴿فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ﴾ ﴿إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الخَائِنِينَ﴾ وعند (م) من حديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «اللهم من ولي من أمر أمتي شيئا فشق عليهم فاشقق عليه، ومن ولي من أمر أمتي شيئا فرفق بهم فارفق به».

فليتق الله من كان هذا شأنه، وليخش عقوبة الله تعالى، فكم من دعوة مظلوم فرقت بين المرء وولده، وبين المرء وزوجه، وكم من دعوة مظلوم جعلت حياة الظالم شقاء، وصحته سقما، وغناه فقراً. فاتقوا الله عباد الله: وأدوا الأمانة فإنكم عنها مسئولون، وعلى حسب القيام بها أو التفريط فيها مجزيون، فإما مغتبطون بها مسرورون، وإما نادمون في إضاعتها حزنون.

اللهم اجعلنا ممن رعى أمانته وعهده، واجتهد في ذلك خشية لربه.