يا باغي الخير

بسم الله الرحمن الرحيم

يا باغي الخير

فلقد اختار الله من الأزمان، مواسمَ للطاعات، واصطفى فيها أياماً ولياليَ وساعات، فضلاً منه وإحساناً، وكلَّما لاح هلالُ رمضان، أعاد إلى المسلمين أيامَ دهرهم المباركات، وما يكون فيها من النفحات، شهرٌ ينطلق فيه الصائمون إلى آفاقِ النقاء، ويمسحون فيه عن جبينهم وعثاءَ الحياة، يستقبله المسلمون وله في نفوس الصالحين منهم بهجة، وفي قلوب المتقين فرحة، فرُبَّ ساعة قبولٍ فيه أدركت عبداً، فبلغ بها درجاتِ الرضا والرضوان.

عباد الله: الصيام سرّ بين الخالق والمخلوق، يُفعَل خالصاً، ويتلذَّذ العبد جائعاً، ويتضوّر خالياً «كل عمل ابن آدم له إلا الصوم، فإنه لي وأنا أجزي به» الصيام يُصلح النفوسَ، ويدفع إلى اكتساب المحامد، والبعد عن المفاسد، به تُغفر الذنوب، وتكفَّر السيئات، وتزداد الحسنات، يقول صلى الله عليه وسلم «من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه» متفق عليه، شهر الطاعة والقربى، والبر والإحسان، والمغفرة والرحمة والرضوان، فيه صبرٌ على حمأة الظمأ، ومرارة الجوع، ومجاهدة النفس في زجر الهوى، جزاؤهم بابٌ من أبواب الجنة لا يدخلهم إلا الصائمون.

وليالي رمضان تاج ليالي العام، ودجاها ثمينة بظلمائها، فيها تصفو الأوقات وتحلو المناجاة، يقول النبي صلى الله عليه وسلم «أفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل» ، و«من صلـى مع الإمام حتى ينصرف كتب له قيام ليلة» وفي كل ليلة يُفتح باب الإجابة من السماء، وخزائن الوهَّاب ملأى، فسل من جود الكريم، واطلب رحمةَ الرحيم، فهذا شهر العطايا والنفحات، والمنن والهبات.

عبد الله: ليكن لك في شهر الصوم عملٌ وتهجُّد وقرآن، واغتنم عمرةً في رمضان، فإنها تعدل حجة، وابتعِد عن خوارق الصوم ومفسداته، واحفظ لسانك وسمعك وبصرك عمَّا حرم الله .

يقول الإمام أحمد رحمه الله: "ينبغي للصائم أن يتعاهد صومَه من لسانه، ولا يماري في كلامه، كانوا إذا صاموا قعدوا في المساجد وقالوا: نحفظ صومنا ولا نغتاب أحداً".

واجعل شهرَ صومك جهاداً متواصلاً ،انقطاعاً إلى الله بالعبادة والطاعة، ومدارسةً لآيات التنزيل، وقياماً مخلصاً بالليل، فهو موسم التوبة والإنابة، فباب التوبة مفتوح، وعطاء ربك ممنوح، فبادر بالعودة إلى الله، واطرق بابَه، وأكثر من استغفاره.

أيّها المسلمون: المؤمِن ليس معصومًا من الخطيئة، وليسَ في منأى عنِ الهَفوة، ليس في معزِل عن الوقوعِ في الذنب، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «والّذي نفسِي بيَدِه، لو لم تذنِبوا لذَهَب الله بكم، ولجاءَ بقومٍ يذنِبون فيستغفِرون اللهَ فيغفِر لهم» أخرجه مسلم، كم من مذنبٍ طال أرقُه، واشتدَّ قلقُه، وعظُم كمَده، واكتوى كبِدُه، يَلفُّه قَتارُ المعصية، وتعتصِره كآبَة الخطيئة، يتلمَّس نسيمَ رجاءٍ، ويبحَث عن إشراقةِ أمَل، ويتطلَّع إلى صُبحٍ قريب، يشرِق بنورِ التوبةِ والاستقامةِ، والهدايةِ والإنابة، ليذهب معها اليأسُ والقنوط، وتنجلِي بها سحائبُ التّعاسة والخوفِ، والهلَع والضياع.

أيّها المسلمون: التّوبةُ خضوعٌ وانكسَار، وتذلُّل واستغفارٌ، واستِقالَة واعتِذار، وابتِعاد عن دواعِي المعصيةِ، ونوازِع الشرِّ، ومجالس الفِتنة، وسُبُل الفساد، وأصحابِ السّوء، وقرَناء الهوى، ومثيراتِ الشرِّ في النفوس. التوبةُ صفحةٌ بيضاء، وصفاءٌ ونقاء، وخشيَة وإشفاق، وبكاء وتضرُّع، ونداء وسؤالٌ ودعاء، وخوفٌ وحياء. التوبة: خجَل ووَجل، ورجوع ونزوع، وإنابةٌ وتدارك، نجاةٌ من كلّ غمّ، وجُنّة من كلّ همّ، وظفَرٌ بكلِّ مطلوب، وسلامةٌ من كلّ مرهوب، بابُها مفتوح، وخيرُها ممنوح، ما لم تغرغِر الروح، فعن أبي هريرةَ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لو أخطَأتم حتى تبلُغ خطاياكم السّماء ثم تُبتُم لتابَ الله عليكم» أخرجه ابن ماجه، وفي مسلم: عن أبي ذر رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم «قال الله تعالى: يا عبادي، إنكم تخطِئون بالليل والنهار وأنا أغفِر الذنوبَ جميعًا فاستغفِروني أغفر لكم» وعند مسلم: «من تقرَّبَ منّي شِبرًا تقرّبتُ منه ذِراعًا، ومن تقرَّب مني ذراعًا تقرَّبت منه باعًا، ومن أتاني يمشِي أتيتُه هرولةً، ومن لقيَني بقُراب الأرضِ خطيئةً لا يشرِك بي شيئًا لقِيتُه بمثلِها مغفرة»

فيا له من فضلٍ عظيم، وعطاء جسيم، من ربٍّ كريم، وخالقٍ رحيم، أكرمنا بعفوِه، وغشَّانا بحِلمِه ومغفرتِه، وجلَّلنا بسِتره، وفتح لنا بابَ توبته. يعفو ويصفَح، ويتلطَّف ويسمَح، وبتوبةِ عبدِه يفرَح ﴿وَمَن يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَّحِيماً﴾.

الخطبة الثانية:

هذه التوبةُ قد شُرِعت أبوابُها، وحلَّ زمانها، ونزل أوانُها، فاقطعوا حبائلَ التسويف، وهُبّوا مِن نومَةِ الرّدى، وامحوا سوابِقَ العِصيان، بلواحِقِ الإحسان، وحاذِروا غوائلَ الشيطان، ولا تغترّوا بعيشٍ ناعم لا يدوم، وبصِّروا أنفسَكم بفواجِعِ الدّنيا، ودواهِمِ الدهر،وتقلُّب لياليه وأيّامه، وتوبوا إلى الله عزّ وجلّ من فاحشاتِ المحارم، وفادحات الجرائم، وورطةِ الإصرار، توبوا على الفورِ، وأحدِثوا توبَةً لكلّ الذنوب التي وقعت، وتوبوا من المعاصِي ولو تكرَّرت، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم يقول: «إنَّ عبدًا أصابَ ذنبًا فقال: ربِّ، أذنبتُ ذنبًا فاغفِر لي، فقال ربّه: أعلِمَ عبدي أنّ له ربًّا يغفِر الذنبَ ويأخُذ به؟ غفرتُ لعبدي، ثم مكث ما شاء الله، ثم أصاب ذنبًا فقال: ربّ، أذنبتُ آخر فاغفِره، فقال: أعلِم عبدي أنّ له ربًّا يغفِر الذنبَ ويأخذ به؟ غفرتُ لعبدي، ثم مكثَ ما شاء الله، ثم أذنب ذنبًا فقال: ربِّ، أذنبتُ آخرَ فاغفِره لي، فقال: أعلِمَ عبدي أنّ له ربًّا يغفر الذنبَ ويأخذ به؟ غفرتُ لعبدي» متفق عليه.

يا عبدَ الله: لا تكن ممّن قال: أستغفِر الله بلسانِه، وقلبُه مصِرٌّ على المعصيةِ، وهو دائمٌ على المخالفة، ليُقارِن الاستغفارَ باللسان موافقةُ الجَنان، وإصلاحُ الجوارِحِ والأركان ﴿وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ .

أيّها المسلمون: توبوا من قريبٍ، وبادِروا ما دمتُم في زمنِ الإنظار، وسارِعوا قبلَ أن لا تُقالَ العِثار، فالعُمر منهدِم والدَّهر منصرِم، وكلُّ حيّ غايتُه الفَوت، وكلّ نفسٍ ذائقةُ المَوت.

عباد الله: إلى من يلجَأ المذنِبون؟! وعلى من يعوِّل المقصِّرون؟! وإلى أيِّ مهرَب يهربون؟! والمرجِع إلى الله يومَ المعادِ ﴿يَوْمَ هُم بَارِزُونَ لاَ يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ﴾ فأقبِلوا على الله بتوبةٍ نصوح، وإنابة صادقة، وقلوبٍ منكسرة، وجِباه خاضِعة، ودموعٍ منسكِبة. فأنتم في شهرُ الغفران المرتجَى، والعطاءِ والرّضا، والرأفةِ والزُّلفى، شهرُ الصّفح الجميلِ، والعفوِ الجليل، شهرُ النّفَحات، وإقالةِ العثرات، وتكفيرِ السيّئات، فليكُن شهرُكم بدايةَ مَولدِكم، وانطلاقةَ رجوعِكم، وإشراقَ صُبحكم، وتباشيرَ فجركم، وأساسَ توبتِكم، ومن لم يتُب في زمنِ الخيرات والهبات، فمتى يتوب؟! ومَن لم يرجِع في زمَن النّفحات، فمتى يؤوب؟!

صعدَ رسول الله صلى الله عليه وسلم المنبرَ فقال: «آمين، آمين، آمين، فقيل: يا رسولَ الله، إنك صعدتَ المنبرَ فقلت: آمين، آمين، آمين! ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنّ جبريلَ عليه السلام أتاني فقال: من أدركَ شهرَ رمضان فلم يُغفر له فدخلَ النار فأبعَدَه الله، قل: آمين، قلتُ: آمين» .