وقفات محاسبة

بسم الله الرحمن الرحيم

وقفات محاسبة

خلق الله الخلق في هذه الحياة، وقدر لهم أقداراً، وضرب لهم آجالاً، ليل يدبر، وصبح يتنفس، يخلق أقوام، ويقبض آخرون، والحياة سائرة بسننها وحِكمها، والناس فيها يغدون ويروحون، مطيع عليها وعاص، مؤمن وكافر، في الدنيا شقي خلق، وسعد فيها آخرون، يتمنى امرؤ زوال يومه ليزول معه غمه وهمه، وآخر يتمنى دوام يومه ليلتذ بفرحه وسروره، وفي تقلب أيامها مزدجر، وفي تنوع أحوالها مدّكر، أمور تطرأ تزيد العاقل عظة وعبرة، وتنبه الجاهل من سبات الغفلة.

قيل للربيع: كيف أصبحت؟ قال: أصبحنا ضعفاء مذنبين، نأكل أرزاقنا، وننتظر آجالنا.

وتقلبات الدهر وتصرم الأيام، ومضي المناسبات يجب أن تكون مواقف محاسبة ومساءلة، وعلى المرء أن يقف وقفة صدق مع نفسه وزمنه، فكل الناس عند ربهم موقوفون، وجميعهم بين يديه مسؤولون، الرسل وأممهم مسؤولون ﴿فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ المُرْسَلِينَ﴾.

والأيام تطوى، والأعمار تفنى، والليل والنهار يدنيان كل بعيد، ويأتيان بكل موعود، وفي سرعة مضيها ما يذكر اللبيب بسرعة تصرم عمره، وقرب حلول أجله، يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "اسب نفسك في الرخاء، قبل حساب يوم الشدة، فإن من حاسب نفسه في الرخاء، عاد أمره إلى الرضا والغبطة، ومن ألهته حياته وشغلته أهواؤه عاد أمره إلى الندامة والخسارة".

عباد الله: المتقون طووا فراش التواني والكسل، فنالوا من الفضائل المزيد، عليهم بهاء الطاعة، وأنوار العبادة، آثروا الفاني على الباقي، وهؤلاء هم الأتقياء، سادة الناس في الآخرة، ﴿يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾ .

أيها المسلمون: ما ظهرت معصية على نعمة إلا سلبتها، ولا تمكنت من قلبٍ إلا أفسدته، فاحرص على محاسبة نفسك، واحذر مزالق الهوى ونزغات الشيطان، وسوء الخاتمة، فقد أحصيت عليك اللفظة والنظرة، وعاتب نفسك على التقصير، واحمد الله أن فسح لك في الأجل، وبادر بتوبة نصوح، فإن الله يفرح بتوبة التائب، وإياك والتسويف، فمن استعمل التسويف، والمنى لم ينبعث إلى العمل.

يقول وهب بن منبّه: من جعل شهوته تحت قدميه فزع الشيطان من ظله. فاستلب الزمن، وغالب الهوى، وحاسب النفس، وامحُ القبيح، واستعد لملمات الممات، واستدرك هفوات الفوات، فالترحل من الدنيا قد دنا، والتحوّل منها قد أزف، والأيام مطايا، والأنفاس خطوات،

فانظر في صحائف أيّامك التي خلت؛ ماذا ادَّخرتَ فيها لآخرتك؟ واخلُ بنفسِك وحاسِبها حسابَ الشّحيح.

يقول ميمون بن مهران: "لا يكون العبدُ تقيًّا حتى يكونَ مع نفسه أشدَّ من الشريك مع شريكه" .

والرشيدُ مَن وقفَ مع نفسه وقفةَ حسابٍ وعتاب؛ يصحِّح مسيرتَها ويتدارك زلَّتَها، يتصفَّح في ليلِه ما صدَر من أفعالِ نهارِه، فإن كان محموداً أمضاه، واستبَقَ بما شاكله وضاهاه، وإن كان مذموماً استدرَكَه وانتهَى عن مثله في المستقبل؛ لأنَّه مسافر سفَر من لا يعود.

يقول ابن حبان: "أفضلُ ذوِي العقولِ منزلةً أدومُهم لنفسه محاسبة"

والاطلاعُ على عيبِ النفسِ ونقائصِها ومثالبها يلجِمها عن الغيّ والضلال، ومعرفة العبدِ نفسَه وأنَّ مآلَه إلى القبر يورثُه تذلّلاً وعبوديةً لله، فلا يُعجَب بعملِه مهما عظُم، ولا يحتقِر ذنباً مهما صغُر.

وإذا جالستَ الناس فكُن واعظاً لقلبك، فالخلق يراقبون ظاهرَك، والله يراقب باطنَك، ومن صحَّح باطنَه في المراقبة والإخلاص، زيَّن الله ظاهرَه في المجاهدة والفلاح. والتعرّفُ على حقّ الله وعظيم فضله ومنّه وتذكّر كثرة نعمِه وآلائه يطأطِئ الرأسَ للجبّار جلّ وعلا، ويدرك المرءُ معه تقصيرَه على شكر النعم، وأنّه لا نجاةَ إلا بالرجوع إليه،

عباد الله: المؤمنُ قوّام على نفسه يحاسبُها، قال عز وجل: ﴿إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ﴾، وإنما خفَّ الحسابُ على قومٍ حاسَبوا أنفسَهم في الدنيا، وشقَّ الحسابُ على قومٍ أخذوا هذا الأمرَ من غير محاسبة، فتوقَّ الوقوعَ في الزلّة، فتركُ الذنبِ أيسرُ من طلبِ التّوبة، وأنِّبها على التقصير في الطاعات، فالأيّام لك لا تدوم، ولا تعلَم متى تكون عن الدنيا راحلاً.

فالليل والنهار يباعدان من الدنيا ويقرّبان إلى الآخرة، فطوبى لعبدٍ انتفعَ بعمره، فاستقبَل عامَه الجديدَ بمحاسبة نفسِه على ما مضَى، فكلّ يومٍ تغرب فيه شمسُه ينذِرك بنقصان عمرِك، والعاقل من اتَّعظ بأمسه، واجتهد في يومه، واستعدَّ لغدِه، فخذِ الأهبَة لآزِفِ النّقلة، وأعدَّ الزادَ لقربِ الرحلة، وخير الزادِ ما صحبَه التقوى، وأعلَى الناسِ عند الله منزلةً أخوفُهم منه. اللهم ................

الخطبة الثانية:

من أراد دوام السلامة فليراقب الله، فما من عبد أطلق نفسه في شيء ينافي تقواه إلا وجد عقوبته عاجلة أو آجلة، والمعصية بعد المعصية عقاب المعصية، ومن تعرض للشهوات ثم طلب إصلاح القلوب رام ممتنعًا، فابتعد عن أسباب الفتن، فإن المقاربة منها محنة لا يكاد صاحبها يسلم، ومن حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه، ومن صابر الهوى أينعت له ثمرات الدنيا، فإن ضاق به أمر وسَّعه الصبر، وطيَّبه الرضى، ورب حسرة أهلكت، ورب فارط لا يستدرك، والنفس طامعة إذا أطمعتها، فألجمها بلجام الأوامر والنواهي.

واجعل لنفسك ساعة ترفع فيها حاجتك إلى ربك، وساعة تحاسب فيها نفسك، وتلمح الجوارح مخافة أن تبدر من اللسان كلمة، أو من القلب تسخط، وأحقّ الأشياء بالضبط اللسان والعين، وإطلاق البصر في المحرم ينغص السعادة، وينقص المخالطة، ويُكدّر العيش مع الحاضر القريب.

ومن أصلح سريرته فاح عبير فضله، وعبقت القلوب بنشر طيبه، وانظر في الإخلاص فما شيءٌ ينفع دونه، ولا تبع عزك بذل المعاصي، فعلى قدر مجاهدتك في ترك ما تهوى تقوى محبتك، ولا تدع فضيلة يُمكن تحصيلها إلا حصّلتها، وما قعد من قعد إلا لدناءة الهمّة، وأنت في ميدانٍ الأوقات فيها تنتهب، فلا تخلد إلى الكسل، فما فات ما فات إلا بالكسل، ولا نال من نال إلا بالجد والعزم، واضرب عنق العجب، وأذهب بطر الكبر

والله وقّت للأمور أقدارها، وهيأ إلى الغايات سبلها، وأمور الدنيا وزينتها قد يدرك منها المتواني ما يفوت المثابر، ويصيب منها العاجز ما يخطئ الحازم، والأسباب طريق لا بد من سلوكها، فطوبى لمن عرف المسبب وتعلق به.

عبد الله: متى رأيت تكديراً في حال فاذكر نعمة ما شُكِرَت، أو زلة قد فُعِلت، واحذر من نفاد النعم، ومفاجأة النقم، ولتكن نيتك في الخير قائمة من غير فتور بما يعجز عنه البدن من العمل، ومن علم أن الموت يقطعه عن العمل عمل في حياته ما يدوم له أجره بعد موته.

وعلى العاقل أن يذكر الموت في كل يوم مراراً ذكراً يباشر به القلوب، ويقارع الأطماع، فإن في كثرة ذكر الموت عصمة من الأشر، وأماناً بإذن الله من الهلع، ومصرع غيرك يريك مصرعك ، ومن تأمل بحر الدنيا وعلم كيف تتلقى الأمواج، وكيف يصبر على مجافاة الأيام، لم يتهون نزول بلاء، ولم يفرح بعاجل رخاء، وأشد الناس غفلة من عبر الستين وقارب السبعين، فإن ما بينهما معترك المنايا، ومن نزل المعترك استعد للقاء، وكل يوم تحيا فيه غنيمة، يقول النبي صلى الله عليه وسلم : «لا يزيد المؤمن عمره إلا خيراً» (م)