ورجل قلبه معلق بالمساجد

بسم الله الرحمن الرحيم

ورجل قلبه معلق بالمساجد

في البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله وذكر منهم .. رجل قلبه معلق بالمساجد».

أيّها المسلِمون: المساجِدُ بيوتُ الله، بُنِيت جُدُرها، ورفِعَت قواعدها، على اسمه وحدَه لا شريك له، يُعبَد فيها ويوحَّد، ويعظم فيها ويمجَّد، ويركَعُ له فيها ويُسجَد ﴿وَأَنَّ المَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً﴾ أذِنَ الله برَفعِها وعِمارتها، وأمَرَ ببنائها وصِيانَتِها ﴿فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ﴾ بِناؤها من أعظم القُرَب، لمن أخلص لله واحتَسَب، فعَن عثمانَ رضي الله عنه قال: سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: «مَن بَنَى لله مَسجدًا يَبتغِي به وجهَ الله بَنى الله له بيتًا في الجنة» متفق عليه. هِي أحبُّ البقاع، وأطهر الأصقاع، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: «أحَبّ البلاد إلى الله تعالى مساجدُها، وأبغَضُ البلاد إلى الله أسواقُها» أخرجه مسلم.

عباد الله: المساجد مواطن العبادة، ومعاهد العلم ومنطلق المجاهدين والرابطة القوية بين المؤمنين. كانت في غير أوقات الصلوات لا تخلو من المتعبدين والمعتكفين، ولا من الدارسين المتفقهين ؛ وفي أوقات الصلوات تغص بالمصلين.

في بيوت الله تتصل القلوب بباريها، تتطلع اليه وتذكره، وتخشاه وتستغفره، وتتجرد له وتؤثره ، المسجد : نرشف من حسنه فيض الهدى ، هنا النور الخلاب، الطهر في لألائها، والنور في أنحائها، هنا تسجد الجباه، هنا عطر الأرواح، هنا يفيض الإيمان ، منبع الرحمة، يشتاق المصلون لبابه، يشتاق الراكعون لرحابه، يشتاق المتضرعون لترابه. هذه الجباه الساجدة الضارعة لبارئها، وهذه الأصلاب الراكعة المنحنية على التسبيح لخالقها، من هذه المساجد تنطلق الله اكبر، هذا الدعاء الذي تتجاوب أصداؤه بين الجوارح المؤمنة، فتهتز له القلوب الخاشعة. الله أكبر نداء المساجد، من فوق هامات المآذن حين تصبح وحين تظهر وحين تمسي

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «سبع يجري للعبد أجرهن وهو في قبره بعد موته من علم علما أو أجرى نهارا أو حفر بئرا أو غرس نخلا أو بنى مسجدا أو ورث مصحفا أو ترك ولدا يستغفر له بعد موته» رواه الترمذي

من قلبه معلق بالمساجد : احرص الناس على الصلاة جماعة قال صلى الله عليه وسلم «من صلى لله أربعين يوما في جماعة يدرك التكبير الأولى كتب له براءتان : براءة من النار وبراءة من النفاق» رواه الترمذي

ولكم ضرب علماء السلف أروع وانصع الأمثلة لحرصهم على صلاة الجماعة في المسجد فهذا سيد التابعين سعيد بن المسيب رحمه الله يقول : "ما فاتني الصلاة في جماعة منذ أربعين سنة " ، وقال : "ما فاتني التكبيرة الأولى منذ خمسين وما نظرت في قفا رجل في الصلاة منذ خمسين سنة ".

و بقي الأعمش قريبا من سبعين سنة لم تفته التكبيرة الأولى ، أصاب الربيع بن خثيم الفالج فكان يحمل إلى الصلاة فقيل له انه قد رخص لك . قال : قد علمت ولكن اسمع النداء بالفلاح .

ولقد كان المسجد فراش عطاء بن أبي رباح عشرين سنة وكان من أحسن الناس صلاة، وهذا عامر بن عبدالله بن الزبير : قال عنه مصعب ، سمع عامر المؤذن وهو يجود بنفسه فقال : خذوا بيدي فقيل انك عليل قال اسمع داعي الله فلا أجيبه ! فاخذوا بيده فدخل مع الإمام في المغرب فركع ركعة ثم مات .

 لا يـُصنع الأبطال إلا *** في مسـاجـدنـا الفسـاح

في روضـة القـران في *** ظـل الأحـاديث الصحاح

شــعب بــغير عقيدة *** ورق يــذرِّيـه الرياح

من خـان حي على الصلاة *** يخـون حي على الكفاح

من قلبه معلق بالمساجد أول من يغدو إليها ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من غسل يوم الجمعة واغتسل ثم بكر وابتكر ومشى ولم يركب ودنا من الإمام واستمع وأنصت ولم يلغ كان له بكل خطوة يخطوها من بيته إلى المسجد عمل سنة اجر صيامها وقيامها» .

وليبشر من قلبه معلق بالمساجد بالنور التام يوم القيامة: قال صلى الله عليه وسلم «بشر المشائين في الظلم إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة» .

من قلبه معلق بالمساجد ليس له هم إلا انتظار الصلاة في المساجد: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات ؟ إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة فذلكم الرباط فذلكم الرباط» .

من قلبه معلق بالمساجد يحرص على الصف الأول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول ثم لم يجدوا إلا أن يستهمواعليه لاستهموا» .

احن اشتيـاقا للمساجد لا إلى *** قصور وفرش بالطراز موشـح

وتسلم من قيل وقال ومن أذى *** جلـيس ومن واش ينم ويجرح

 أصـلي اشتيـاقا للعلي لعلني *** أجــد قـرة للعين فيها وافلح

الخطبة الثانية:

ولِعظيمِ فضل المساجد، وشريفِ مكانتها، شُرِع لقاصدها من الآداب والسنَن والأحكام ما لم يشرع لغيرها، فيُستَحَبُّ لقاصِدِ المسجد أن يتجمَّل لصلاتِه بما يستطيع من ثيابِه وطيبِه وسِواكه، قال جل في علاه ﴿يَابَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ﴾ وعلى المصلِّي اجتنابُ الروائحِ الكريهة في ملبسِه ومأكله، فعن جابر رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «مَن أكَلَ البصلَ والثومَ والكرّات فلا يقربنَّ مسجدنا؛ فإنَّ الملائكة تتأذَّى مما يتأذَّى منه بنو آدم» أخرجه مسلم، فأكرِم بعبدٍ يأتي بيوتَ الله مُتطهِّرًا مُتنظِّفًا، تفوح رائحته طيبًا وقَطرًا، وتسطَع أرجًا ونشرا، وتتضوّع عُودًا وعَرفا.

ويخرج المسلم إلى الصلاة بسكينة ووقار، ويقارب خُطاه، وإن سمع الإقامةَ لم يسعَ إليها، فعن أبي هريرَةَ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إذا سمعتمُ الإقامةَ فامشوا إلى الصلاة وعليكم بالسكينة والوقارِ، ولا تسرِعوا، فما أدركتم فصلّوا، وما فاتَكم فأتمّوا» متفق عليه.

ولا يجلِسُ حتى يصّلِيَ تحيّةَ المسجد ركعتين، فعن أبي قتادةَ رضي الله عنه أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا دخل أحدُكم المسجدَ فليركع ركعتين قبل أن يجلِس» متفق عليه. ومَن دَخَل يومَ الجمعة والإمامُ يخطُب فلا يجلِس حتى يصّلِيَ ركعتين ، يخفِّفهما ويتجوَّز فيهما، فعن جابرٍ رضي الله عنه قال: جاءَ سُليكٌ الغطفانيّ يومَ الجمعة ورسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب فجلس، فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم : «يا سُلَيك، قم فاركع ركعتين وتجوَّز فيهما»، ثمّ قال صلى الله عليه وسلم «إذا جاء أحدكم يومَ الجمعة والإمام يخطب فليركع ركعتَين وليتجوَّز فيهما» أخرجه مسلم. ومَن دخَل يومَ الجمُعةِ والمؤذِّن يؤذن الأذانَ الثاني فليُبادر بصلاةِ تحية المسجد، ولا ينتظر المؤذّنَ حتى ينتهيَ؛ لأنَّ ذلك يفضي إلى أن يشرَع في تحيّة المسجد والإمامُ يخطب والإنصاتُ للخطبة واجب.

أيّها المسلمون: وعلى قاصِد المسجد أن لاَ يؤذِيَ إخوانه المصلّين بتخطِّي رقابهم ومضايَقَتهم ومزاحمَتِهم ، أو بالتشويشِ عليهم بالجهر بالقراءةِ والدعاء، فعن أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ألا إنَّ كلَّكم مناجٍ ربَّه، فلا يؤذِيَنَّ بعضكم بعضًا، ولا يرفَع بعضكم على بَعضٍ في القراءة» أخرجه أحمد وأبو داود.

ومن التشويشِ والإيذاء الذي عمَّ وطمَّ في مساجدِ المسلمين وقطَعَ عليهم خشوعَهم وسكونهم ما يصدُر من أجهزةِ الجوّال اليومَ من المقاطع الغنائيّة والنغمات الموسيقيّة، وليشعر كل منا نفسه حين يدخل المسجد بأنه قد دخل بيت الله، فحقه التوقير والتكريم، والإجلال والتعظيم، ولنرب أبناءنا على حب بيوت الله ولنعلمهم آدابها، ونعظم في نفوسهم مكانتها.