ختام رمضان بالاستغفار

بسم الله الرحمن الرحيم

ختام رمضان بالاستغفار

عباد الله: تذكروا أن الأيام أجزاء من العمر، ومراحل في الطريق إلى المستقر، تفنونها يوماً بعد آخر، ومرحلة تلو الأخرى، ومضيها استنفاذ للأعمار، واستكمال للآثار، وقرب من الآجال، وغلق لخزائن الأعمال، إلى حين الوقوف بين يدي الكبير المتعال ﴿يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَراًّ وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ﴾ . فاعتبروا بسرعة مضي الشهر، سرعة انقضاء العمر، ومفاجأة الانتقال من المنزل إلى القبر.

عباد الله: بالأمس القريب كنا في شهر رمضان، شهر البركات والخيرات، شهر مضاعفة الأعمال والحسنات، نصوم نهاره، ونقوم ما تيسر من ليله، ونتقرب إلى ربنا سبحانه بفعل الطاعات، وهجر المباح من الشهوات، وترك السيئات والموبقات، ثم مضى ذلك الشهر بما فيه، وقطعنا به مرحلة من العمر، والعمل بالختام، فمن أحسن فليحمد الله، وليواصل الإحسان، ومن أساء فليتب إلى الله، وليصلح العمل ما دام في وقت الإمكان.

فلازموا عباد الله طاعة في كل الأوقات، واعمروا المساجد بالمحافظة على الصلوات، وشهود الجمع والجماعات، واستكثروا من الصدقات، وذكر الله في سائر الأوقات، فإن الله سبحانه قد وعد المتصدقين والمتصدقات، والذاكرين الله كثيرا والذاكرات، مغفرة وأجرا عظيما، واتلوا القرآن واعملوا به؛ فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه، وقائداً لهم إلى دار كرامته. ولازموا قيام الليل؛ فإنه مرضاة لربكم، ودأب الصالحين قبلكم، وأتبعوا صيام رمضان ستا من شوال، وما جاءت به السنة في بيان فضل صومه من الأيام، فإن من صام رمضان وأتبعه ستا من شوال، كان كصيام الدهر، وصوم ثلاثة أيام من كل شهر يعدل صوم الدهر؛ فإن الحسنة بعشر أمثالها، وصوم يوم عرفة يكفر الله به السنة الماضية والباقية، وصوم عاشوراء يكفر الله به السنة التي قبله، فما أجلَّ فضل الله على عباده.

عباد الله: من نقص من العمل الذي عليه نقص، من الأجر بحسب نقصه، فلا يلم إلا نفسه قال سلمان: الصلاة مكيال، فمن وَفَّى وُفِّيَ له، و من طفف فقد علمتم ما قيل في المطففين، فالصيام و سائر الأعمال على هذا المنوال، من وفاها فهو من خيار عباد الله الموفين، ومن طفف فيها فويل للمطففين. أما يستحي من يستوفي مكيال شهواته، ويطفف في مكيال صيامه و صلاته. في الحديث: «أسوأ الناس سرقة الذي يسرق من صلاته» وإذا كان الويل لمن طفف مكيال الدنيا، فكيف حال من طفف مكيال الدين ﴿وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذَا كَالُوَهُمْ أَو وَزَنُوَهُمْ يُخْسِرُونَ (3) أَلاَ يَظُنُّ أُوْلَئِكَ أَنَّهُم مَّبْعُوثُونَ (4) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ العَالَمِينَ﴾ .

غدا توفى النفوس ما كسبت *** و يحصد الزارعون ما زرعوا

إن أحسنوا أحسنوا لأنفسهم *** وإن أساءوا فبئس ما صنعوا

روي عن علي وابن مسعود: أنهما كانا يناديان في آخر ليلة من شهر رمضان: يا ليت شعري من هذا المقبول فنهنيه، ومن هذا المحروم فنعزيه، أيها المقبول هنيئا لك، أيها المردود جبر الله مصيبتك.

عباد الله: قلوب المتقنين إلى هذا الشهر تحن، و من ألم فراقه تئن، كيف لا تجرى للمؤمن على فراقه دموع، و هو لا يدري هل بقي له في عمره إليه رجوع. ماذا فات من فاته خير رمضان، و أي شيء أدرك من أدركه فيه الحرمان، كم بين من حظه فيه القبول و الغفران، ومن كان حظه فيه الخيبة والخسران ، رُبَّ قائم حظه من قيامه السهر، وصائم حظه من صيامه الجوع و العطش.

الخطبة الثانية:

الحمد لله:

عباد الله: العبد دائما بين نعمة من الله يحتاج فيها إلى الشكر، وبين ذنب منه يحتاج فيه إلى الاستغفار، ولهذا شرع الاستغفار في خواتيم الأعمال الصالحة، فيختم به الصلاة و الحج و قيام الليل، و يختم به المجالس قال تعالى ﴿وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ﴾ وفى الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا انصرف من صلاته استغفر ثلاثا، وقال: اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام. وقال تعالى ﴿فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِندَ المَشْعَرِ الحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِن كُنتُم مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (198) ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ وقد أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم بعد أن بلّغ الرسالة بقوله ﴿إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً﴾.

قال العلامة ابن القيم :" ولهذا كان قِوام الدين بالتوحيد والاستغفار، كما قال الله ﴿أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ إِنَّنِي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ (2) وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ﴾ وقال تعالى ﴿فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ﴾ وقال ﴿فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ﴾ ولهذا جاء في الحديث «يقول الشيطان: أهلكت الناس يالذنوب وأهلكوني بلا إله إلا الله والاستغفار»، وقد قال يونس ﴿لاَّ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾ وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا ركب دابته يحمد الله ثم يكبر ثلاثا ويقول: «لا إله إلا أنت سبحانك ظلمت نفسي فاغفر لي» وكفارة المجلس التي كان يختمه بها: «سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك»أ. هـ

 عباد الله: فكذلك ينبغي أن نختم صيام رمضان بالاستغفار، و كتب عمر بن عبد العزيز إلى الأمصار، يأمرهم بختم رمضان بالاستغفار وصدقة الفطر، فإن الفطر طهرة للصائم، و الاستغفار يرقع ما تخرق من الصيام باللغو و الرفث. و قال في كتابه قولوا كما قال أبوكم آدم: ﴿رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الخَاسِرِينَ﴾ و قولوا كما قال نوح عليه السلام: ﴿وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُن مِّنَ الخَاسِرِينَ﴾ و قولوا كما قال موسى عليه السلام: ﴿رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي﴾ و قولوا كما قال ذو النون عليه السلام: ﴿سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾ .

وقال الحسن: أكثروا من الاستغفار؛ فإنكم لا تدرون متى تنزل الرحمة. و قال لقمان لابنه: يا بني! عود لسانك الاستغفار، فإن لله ساعات لا يرد فيهن سائلا.

عباد الله: صيامنا يحتاج إلى استغفار نافع، وعمل صالح له شافع، كم نخرق صيامنا بسهام الكلام، ثم نرقعه و قد اتسع الخرق على الراقع، كم نرقع خروقه بمخيط الحسنات، ثم نقطعه بحسام السيئات، كان بعض السلف إذا صلى صلاة استغفر من تقصيره فيها، كما يستغفر المذنب من ذنبه، فإذا كان هذا حال المحسنين في عباداتهم، فكيف حال المسيئين مثلنا في عباداتهم.