غلاء الأسعار

بسم الله الرحمن الرحيم

غلاء الأسعار

فلقد جاءَتِ الشريعة الإسلاميّةُ، برعاية مصلحةِ الفرد والمجتَمَع، وتحقيقِ العدلِ بَين الناسِ، ومَنعِ الظلمِ والجَورِ والشّطَط، ورَفعِ الضَّررِ والعنت والحرَج. وممّا أقرَّته الشريعة في بابِ المعاملاتِ، تَركُ الناس يَبِيعون ما يملكون، على ما يختَارون من القيمةِ، وما يرغَبون من الثّمن، وتمكين التجارِ مِن تحديدِ الأسعار في الأشرِيَة والأطعمة، والسِّلَع والخدمَاتِ، وعدم تقييدهم أو تعطيلهم، أو الحدِّ من تعاملهم ما دامت عقودُهم عن تراضٍ منهم واتِّفاق، ما لم تشتمل على مخالفةٍ لقواعد الشريعة وأحكامها، قال جلّ في علاه ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ﴾ وعن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «دَعوا النّاسَ يَرزُق الله بعضَهم من بعض» أخرجه مسلم.

وأبَاحتِ الشريعةُ للمَالِكِ الصحيح الملكِ، أن يبيعَ سِلعَتَه بأكثَرَ مِن ثمنها حالاًّ أو مؤجَّلاً، ولم تحدِّد حدًّا ينتهي إليه في الرِّبح، فعن شبيبِ بن غرقدةَ قال: سمعتُ الحيَّ يتحدَّثون عن عروةَ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم أعطاه دينارًا ليشتريَ به شاة، فجاءَه بدينار وشاة، فدعا له رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بالبركة في بيعِه، وكان لو اشترَى الترابَ لربح فيه. أخرجه البخاري.

وامتنَع الشارِعُ عن التسعيرِ ، إذا لم يكن الغلاء بسبب الجشَعِ والطمع، فعن أنس رضي الله عنه قال: غلا السعرُ على عهدِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله، سعِّر لنا، فقال: «إنَّ الله هو المسعِّر القابض الباسط الرزاق، وإني لأرجُو أن ألقَى رَبّي وليس أحدٌ يطلُبني بمظلمَةٍ في دمٍ ولا مالٍ» أخرجه أبو داودَ والترمذيّ .

لكنَّ الشريعةَ الكاملة الحكيمةَ العادِلةَ، يبعُد أن تطلِقَ تلكَ الحرّيَّةَ لأربابِ السِّلَع والمتاع، بلا قيودٍ ولا ضوابِط، فإذَا أسَاءَ التّجّارُ استخدامَ هذه الحرّيّةِ، وتعَسَّفوا وتعَدَّوا، وتَواطَؤوا واشتَطّوا، وترَكُوا السِّعرَ المتقارِبَ المتعَارَفَ، إلى السِّعرِ المتفاحِشِ الفادِح، وعَمدُوا إلى رَفعِ أسعارِ السِّلَع بجمِيعِ أصنافِها، والخدمات على اختلافِ أنواعِها، بِلا أسبابٍ تستدعِيه، ولا عوامِل تقتضيهِ، سِوى الجشعِ والطمَع، والأثرةِ وحُبِّ الذاتِ، والرغبة في التكاثر، واستَغَلُّوا رَغبةَ الناس في الشِّراءِ، وحاجَتَهم الاستِهلاكيّة، وأَوهمُوا المشترِينَ بأمور مفتَعَلة، وأسبابٍ مختَلَقَة، لا حقيقةَ لها في الواقع، حتّى أضحَتِ الأسعار في تصاعدٍ مستمرّ، وحركة مطَّرِدَة، وأصبَحَ سعرُ الشّيء مِثلَيه أو أكثر، وتضرَّر أكثرُ الناس بالغلاء، وأُرهِقَ الفقراءُ، وأُثقِل كاهِل المحتاجِين والضّعفَاء، فإنَّ الصحيحَ من أقوال العلماء،: جوازُ منعِ التجار من إعناتِ الناس، والإجحاف بهم، ووجوبُ حملهم على السَّنَن الأقوم، والطريقِ الأمثل، بالتسعيرِ الذي لا وَكسَ فيه ولا شَطَط، وقد جاءت السنة الصحيحة بتقويمِ الأشياء بين الشركاءِ، بقيمة عدلٍ، وثمنِ مِثل، فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «مَن أعتق شِركًا له في عبدٍ فكان له مالٌ يبلغ ثمنَ العبد قُوِّم العبد عليه قيمةَ عدلٍ، فأعطى شركاءَه حِصَصَهم، وعَتَق عليه العبد، وإلاّ فقد عتَق منه ما عَتق» متفق عليه.

أيها المسلمون: وإذا أخَذ وَليُّ الأمرِ بالتَّسعير لمصلحَةِ المسلمين وأمَرَ أهلَ السوق أن لا يبيعوا إلاَّ بسعر محدَّد بلا زيادةٍ ولا نقصان لم تجز مخالفتُه، ومن خالف استحقَّ التعزيرَ في أصحِّ قولي العلماء، وذَلِكَ عقوبةً لَه لمجاهرَةِ ولي الأمر بالمخالفةِ.

وبالتسعير يتحقَّق رِبحٌ ونماء لأربابِ السِّلع، وعدلٌ بين البائعين والمشترين، ويستقرُّ التوازن الاقتصاديّ العامّ، ويُحمَى الضعفاء من جشعِ الطامعين، وتُحارَب المضارَبَة التي تؤدِّي إلى استغلالِ المستهلكين، وذلك جريًا على قاعِدَة: "درء المفاسِدِ أولى مِن جلبِ المصالح"، و"الضرر الأشدّ يُزال بالضَّررِ الأخفّ"، وقاعدة: "يُتَحمَّل الضّررُ الخاصّ لدَفعِ ضَررٍ عامّ".

أيّها المسلِمون: إن للمُغالاةِ في الأسعار آثار سيِّئة على الفرد والمجتمع، فقد يعجز الفقير عَن شِراءِ ما لا غِنى له عنه، وقد يتحمَّل آخرون ديونًا يعجَزون عن أدائها، وتكثر الضغوطُ الاجتماعيّة والاقتصادية والنفسيّة، ويلجأ البعضُ إلى طرق غير مشروعة للحصول على المالِ وتوفير ما يحتاجون، وحينها لا يُبالي ضعيفُ الإيمان أمِن حَلال أخَذ المال أم من حرام، وتَنشَأ الأنانيّة والشحُّ والبخل، وتتعمَّق الفجوة بين الناس، وتهِن الروابِطُ، وتنقَطِع الصِّلات؛ ولذا جاءَ الوعيدُ الشديد لمن دخَل في شيءٍ من أسعارِ المسلمين ظلمًا وعُدوانًا ليغلِيَه عليهم، فعن معقل بن يسار رضي الله عنه قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «مَن دخل في شيءٍ مِن أسعار المسلمين ليُغلِيَه عليهم فإنَّ حقًّا على الله أن يقعِدَه بعظمٍ من النار يومَ القيامة» أخرجه أحمد.

أيّها المسلمون: ينبغي للمسلم أن يكونَ ذا شفَقَة وعَطف وإحسانٍ، لا يغالي في الرِّبح، ولا يبالغ في التكسُّب، ولا يهتبل حاجةَ إخوانه ليرهقَهم بما يشقّ عليهم، وقد حثَّنَا الشارِعُ الحكيم على المسَامحَة في المعاملة، فعَن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال «رحِم الله رجلاً سمحًا إذا باع وإذا اشتَرى وإذا اقتَضَى» أخرجه البخاريّ.

فاتقوا الله أيّها المسلِمون، وطهِّروا بيوعَكم من الكذب والغشِّ والخداع والنّجش والتغرير والمبالغة الفاحشة في الأسعارِ يبارَك لَكم فيه. انتهى ........

الخطبة الثانية:

أيها المسلمون: لقد رسم الإسلام خطاً واضحاً سوياً ، أبان جوانب الحياة كلها، اشتمل على النظم والأحكام ، في مبادئ دقيقة محكمة، وتشريعات ربانية خالدة، وأصولٍ جامعةٍ كاملة، تعطي ولا تأخذ، وتجمع ولا تفرق، تؤلف ولا تبدِّد، تبني ولا تهدم، وتُسعد ولا تفسد، توصل إلى الغايات الأسمى والمقاصد العليا.

وإن من الجوانب التي أولتها الشريعة أعظم الاهتمام الجانب المالي والناحية الاقتصادية في هذه الحياة، أقامته على أمتن الأسس، وأنبل المثل، وأكرم المقاصد، وأشرف الغايات. أبان القرآن أصوله، وأوضحت السنة قواعده.

ومن تلك المبادئ مبدأ منع كل تعامل ينافي مبدأ التآخي والمودة بين المؤمنين، ويؤدي إلى بث روح التباغض بين المسلمين، ومن هنا نهى نبينا صلى الله عليه وسلم عن البيع على البيع، والشراء على الشراء، والسوم على السوم، ونهى عن بيع النجش.

ومن أصول الإسلام مبدأ عدم استغلال حاجة المحتاج، فمن مبادئ محمد صلى الله عليه وسلم وأخلاقياته الفاضلة الأمر والحث على قضاء حاجة المحتاج، قال عليه الصلاة والسلام: «المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يُسلمه، ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرج عن مسلم كربةً فرج الله عنه كربةً من كرب يوم القيامة» رواه أبو داود والترمذي

ولقد نهى الإسلام عن احتكار السلع، رغبة في زيادة ثمنها، ففي مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «لا يحتكر إلا خاطئ» والاحتكار في اصطلاح علماء الإسلام حبس السلع عند الحاجة إليها من المستهلكين لتشحّ في السوق، ثم يغلو ثمنها.

عباد الله : قال تعالى ﴿وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلاَ تَنقُصُوا المِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُم بِخَيْرٍ﴾ قال ابنُ عبَّاسٍ : موسرين في نعمة . وقال مجاهدٌ : كانوا في خصب وسعةٍ؛ فحذَّرهم زوال النعمة ، وغلاء الأسعار ، وحلول النقمة إنْ لم يتُوبُوا .

قال الزجاج : إنه تعالى لما قال ﴿مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ﴾ والمعنى لا توجد مصيبة من هذه المصائب إلا وهي مكتوبة عند الله ، والمصيبة في الأرض قَحْط المطر ، وقلّة النبات ، ونقص الثِّمار ، وغلاء الأسعار ، وتتابع الجوائح . فما يحصل اليوم من غلاء الأسعار،إنما هو بسبب الذنوب والأوزار، فاتقوا الله عباد الله ، وراقبوه في السر والعلن، وأخلصوا له العمل، واحذروا أن تحل بكم السنن.