صلاة الاستخارة

بسم الله الرحمن الرحيم

صلاة الاستخارة

فاعلموا عباد الله أن خير الوصايا، الوصية بتقوى الله، فاتقوا الله جميعاً أيها المؤمنون لعلكم تفلحون.

عباد الله: إن من المسلمات عند الناس قاطبة، أن الإنسان مخلوق ضعيف محتاج إلى غيره، لا يمكن أن يصرف أمور حياته دون موجه أو ناصح، ولا بد له من معونة أو مشورة أو مناصحة، والحياة – عباد الله – مليئة بالمتغيرات، والأمور المحيرات، يقف المرء حيالها في حيرة فيما يُقدم عليه، تتعارض عنده أمور، فيمضي أياماً وليالي وهو منشغل الفكر، منزعج الخاطر، إلى أين يذهب، وإلى أي اتجاه يمضي.

عباد الله: لقد كان أهل الجاهلية يلجؤون إلى أمور هي أقصى ما وصل إليه علمهم، وما زادتهم إلا غياً وضلالاً، فبعضهم يستقسم بالأزلام، فعلى أي وجه خرجت فعل، وآخرون يزجرون الغراب، ويتشاءمون به، وبئس من كان الغراب له دليلاً.

فلما جاء الله بالإسلام الذي ما ترك أمراً من أمور الناس إلا حلها، ولا نازلة إلا فكها، فكان فيه الحل لمثل هذه الأمور: جعل الإسلام من حق المسلم على المسلم النصيحة: «حق المسلم على المسلم ست: وإذا استنصحك فانصحه» وفي (خ): «وإذا استنصح ِأحدكم أخاه فلينصح له» وعند (م) جعل النبي صلى الله عليه وسلم الدين النصيحة ثلاثاً.

ولقد كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمرٌ فزع إلى الصلاة؛ ليجد فيها الاطمئنان والراحة؛ لأنها علاقة مع الله وحده، ينقطع المرء فيها عن المنغصات والمكدرات، وعند أصحاب السنن كان صلى الله عليه وسلم يقول لمؤذنه : «أرحنا بالصلاة يا بلال».

عباد الله: إن مما جعله الله ملجأً للمؤمن إذا حزبه أمر ولم يتبين فيه، أن يلجأ إلى الصلاة، صلاة ليست فريضةً ولا راتبةً، بل هي متعلقة بسببها، متى وجد وجدت، إنها صلاة تسمى بصلاة الاستخارة.

خرّج (خ) في صحيحه من حديث جَابِرِ بن عبد اللَّهِ رضي الله عنهما قال: كان رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُعَلِّمُنَا الِاسْتِخَارَةَ في الْأُمُورِ كلها، كما يُعَلِّمُنَا السُّورَةَ من الْقُرْآنِ، يقول: «إذا هَمَّ أحدكم بِالْأَمْرِ، فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ من غَيْرِ الْفَرِيضَةِ، ثُمَّ لِيَقُلْ: اللهم إني أَسْتَخِيرُكَ بِعِلْمِكَ، وَأَسْتَقْدِرُكَ بِقُدْرَتِكَ، وَأَسْأَلُكَ من فَضْلِكَ الْعَظِيمِ، فَإِنَّكَ تَقْدِرُ ولا أَقْدِرُ، وَتَعْلَمُ ولا أَعْلَمُ، وَأَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ، اللهم إن كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ هذا الْأَمْرَ –ويسميه باسمه -خَيْرٌ لي في دِينِي وَمَعَاشِي، وَعَاقِبَةِ أَمْرِي، أو قال عَاجِلِ أَمْرِي وَآجِلِهِ، فَاقْدُرْهُ لي وَيَسِّرْهُ لي، ثُمَّ بَارِكْ لي فيه، وَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ هذا الْأَمْرَ شَرٌّ لي في دِينِي وَمَعَاشِي، وَعَاقِبَةِ أَمْرِي، أو قال في عَاجِلِ أَمْرِي وَآجِلِهِ، فَاصْرِفْهُ عَنِّي وَاصْرِفْنِي عنه، وَاقْدُرْ لي الْخَيْرَ حَيْثُ كان، ثُمَّ أَرْضِنِي به، قال وَيُسَمِّي حَاجَتَه».

عباد الله: يقول العلامة ابن القيم : "عوّضَ رسول الله صلى الله عليه وسلم أمَّتَه بهذا الدعاء، عما كان عليه أهل الجاهلية، من زجر الطير، والاستقسام بالأزلام، الذي نظيره هذه القرعة، التي كان يفعلها إخوان المشركين، يطلبون بها علم ما قُسِم لهم في الغيب، عوضهم بهذا الدعاء، الذي هو توحيد وافتقار، وعبودية وتوكل، وسؤال لمن بيده الخير كله، الذي لا يأتي بالحسنات إلا هو، ولا يصرف السيئات إلا هو، الذي إذا فتح لعبده رحمة، لم يستطع أحد حبسها عنه، وإذا أمسكها، لم يستطع أحد إرسالها إليه، من التطير والتنجيم واختيار الطالع ونحوه، فهذا الدعاء، هو الطالع الميمون السعيد، طالع أهل السعادة والتوفيق، الذين سبقت لهم من الله الحسنى، لا طالع أهل الشرك والشَّقاء والخذلان، الذين يجعلون مع الله إلها آخر، فتضمن هذا الدعاء، الإقرارُ بوجود اللهِ سبحانه، والإقرارُ بصفات كماله، من كمال العلم والقدرة والإرادة، والإقرار بربوبيته، وتفويض الأمر إليه، والاستعانة به، والتوكل عليه، والخروج من عهدة نفسه، والتبري من الحول والقوة إلا به سبحانه، واعتراف العبد بعجزه عن علمه بمصلحة نفسه، وقدرته عليها، وإرادته لها، وأن ذلك كله بيد وليه وفاطره وإلهه الحق "أ.هـ

ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية : "ما ندم من استخار الخالق، وشاور المخلوقين، وتثبت في أمره، فقد قال الله ﴿وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ﴾ أ.هـ

عباد الله: لقد كان صلى الله عليه وسلم يعلم أصحابه هذه الصلاة وهذا الدعاء، كما يعلمهم السورة من القرآن، وكان ذلك لعلمه بحاجتهم لمثل هذا الدعاء، فكما أن القرآن يحتاج إلى مدارسة ومتابعة ومجاهدة، فكذلك هذا الأمر، أو كما أن القرآن لا يستغني عنه مؤمن، فكذلك دعاء الاستخارة، يحتاجه المرء في أموره كلها.

الخطبة الثانية:

الحمد لله: 

عباد الله: من أحكام هذه الصلاة، أن يستخير المرء في كل أمر من أمور حياته المباحة، دون الواجبة والمندوبة، والمحرمة والمكروهة.

يقول ابن أبي جمرة : "الاستخارة في الأمور المباحة، وفي المستحبات إذا تعارضا في البدء بأحدهما، أما الواجبات وأصل المستحبات، والمحرمات والمكروهات، كل ذلك لا يُستخار فيه" أ.هـ

والأمور المباحة التي يستخار لها كثير، مثل: السفر، والعمارة، واختبار الزوجة، والتجارة، ونحوها.

والأولى أن يكون دعاء الاستخارة بعد صلاة ركعتين خاصتين به، ولا يمنع أن تكون بعد أي نافلة إذا دخلها ناوياً لذلك، يقول النووي : "لو دعا بهذا الدعاء بعد راتبة الظهر مثلاً، أو غيرها من النوافل الراتبة والمطلقة، سواءً اقتصر على ركعتين، أو أكثر، جاز. لكن بشرط أن يَدخلَ الصلاة وفي نيته أن يستخير بعدها أ.هـ

عباد الله: يقول ابن أبي جمرة : "الحكمة في تقديم الصلاة على الدعاء في صلاة الاستخارة، أن المراد بالاستخارة ،حصول الجمع بين خيري الدنيا والآخرة، فيُحتاج إلى قرع باب المَلك، ولا شيء لذلك أنجعُ ولا أنحجُ من الصلاة؛ لما فيها من تعظيم الله، والثناء عليه، والافتقار إليه مآلاً وحالاً "أ.هـ

عباد الله: إن خير العمل وأصوَبه، ما كان موافقاً لفعل النبي صلى الله عليه وسلم ، فاعلموا أنه لم يرد في صلاة الاستخارة قراءة آيات معينة.

خرّج (حم) في مسنده عن سعد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من سعادة ابن آدم استخارته الله».

ويقول بعضهم: ما خاب من استخار، وما ندم من استشار. ويقال: من أُعطيَ أربعاً، لم يُمنع أربعاً: من أُعطي الشكر، لم يُمنع المزيد، ومن أُعطي التوبة، لم يُمنع القبول، ومن أُعطي الاستخارة، لم يُمنع الخِيرة، ومن أُعطي المشورة، لم يُمنع الصواب.

عباد الله: الاستخارة دليل على تعلق قلب العبد بربه في سائر أحواله، الاستخارة تجعل للمستخير واثقاً من نصر الله له، في الاستخارة تعظيم لله وثناء عليه، فالاستخارة مخرجٌ من الحيرة والشك، وهي مدعاة للطمأنينة، وراحة للبال، في الاستخارة امتثال للسنة النبوية وتطبيق لها.

عباد الله: إذا صلى الإنسان الاستخارة، ودعا بهذا الدعاء، فليمض لما بدا له. يقول ابن الزَّملكاني: "إذا صلى الإنسان ركعتي الاستخارة لأمر، فليفعل بعدها ما بدا له، سواءً انشرحت نفسه له أم لا، فإن فيه الخيرَ وإن لم تنشرح له نفسه، وليس في الحديث ما يدل على اشتراط انشراح النفس " أ.هـ

عباد الله: فلنعلم أن الأفضل أن يُجمع بين الاستخارة والاستشارة، فإن ذلك من كمال الامتثال للسنة قال الله ﴿وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ﴾ .

يقول أحد السلف: من حق العاقل أن يضيف إلى رأيه آراء العلماء، ويجمع إلى عقله عقول الحكماء، فالرأي الفذ ربما زلّ، والعقل الفرد ربما ضلّ.