شهر القرآن

بسم الله الرحمن الرحيم

شهر القرآن

الحمد لله الذي له ما في السموات وما في الأرض وله الحمد في الآخرة وهو الحكيم الخبير، يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو الرحيم الغفور، أحمده سبحانه على قديم إحسانه، وتواتر نعمه، حمد من يعلم أن مولانا الكريم علمه ما لم يكن يعلم، وكان فضله عليه عظيما، وأسأله المزيد من فضله، والشكر على ما تفضل به من نعمه، إنه ذو فضل عظيم. وصلى الله على محمد عبده ورسوله ونبيه، وأمينه على وحيه وعباده، صلاةً تكون له رضا، ولنا بها مغفرة، وعلى آله وصحبه أجمعين، وسلم تسليما كثيرا طيبا، ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.. أما بعد:

عباد الله: إن القرآن كلام الله، ورسالته الأخيرة للبشرية، وهو آخر الكتب السماوية، وخاتمها وأطولها وأشملها، فيه نبأ السابقين، وخبر اللاحقين، وفيه الحكم والحكمة والأحكام.

القرآن الكريم: هو المهيمن على الكتب السابقة، والحكم عليها، فما شهد له بالصدق فهو المقبول، وما حكم عليه بالرد فهو المردود، قد دخله التحريف والتبديل.

القرآن محفوظ من التحريف والتبديل، والزيادة والنقص، فلقد أنزله الله وتكفل بحفظه قال سبحانه ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾.

القرآن جاء في الذروة من البلاغة والإعجاز، فهو معجز في لفظه ومعناه، معجز في إخباره عن الغيوب السابقة واللاحقة، معجز في حِكَمه وأحكامه وكل ما جاء به، بل هو معجز في تأثيره في القلوب، فما يسمعه أحد وهو ملق سمعه إلا ويأخذ بمجامع قلبه، ويستحوذ على نياط فؤاده، فتشهد كل ذرة في جسده: أن هذا كلام رب العالمين، الذي تنزه عن شوائب اللبس، وخَلُص من أكدار الشبهات، وتجافى عن مضاجع القلق، وبرِىء من وصمة التعقيد، وسلم من معرّة اللغو والخطأ.

القرآن الكريم: مشتمل على أعدل الأحكام، وأعظمها وأشرفها وأشملها، فلم يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا وأحاط بها إجمالاً وتفصيلاً، يشهد بذلك كل منصف ولو لم يكن مسلماً.

القرآن الكريم: قارئه لا يمل قراءته، وسامعه لا يسأمه، ولا يمجه، بل الإكباب على تلاوته تزيده حلاوة، وترديده يوجب له محبة، وغيره من الكلام يُعادى إذا أعيد، ويمل من كثرة الترديد.

القرآن الكريم: طريق السعادة، وسبيل العزة للفرد والأمة، قال سبحانه ﴿طه (1) مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ القُرْآنَ لِتَشْقَى﴾ ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ﴾.

القرآن الكريم: نور الصدور، وجلاء الهم والغم، وفرح الفؤاد، وقرة العين.

القرآن الكريم: حبل الله المتين، وصراطه المستقيم، سماه الله نوراً وتبيانا، وموعظة ورحمة، وشفاءً لما في الصدور، لا تنقضي عجائبه، ولا يخلق عن كثرة الرد، لا يعوج فيقوم، ولا يزيغ فيستعتب، فيه القصص العجيبة، ودلائل التوحيد والنبوة، فيه المواعظ الحسنة، فيه البراهين الجلية القاطعة، التي تسبق إلى الأفهام ببادىء الرأي، وأول النظر، ويشترك كافة الخلق في إدراكها، فهو مثل الغذاء ينتفع به كل إنسان، بل كالماء الذي ينتفع به الصبي، والرضيع والرجل القوي والضعيف.

في القرآن حث على كل خلق جميل، والتنفير من كل خلق ساقط رذيل ﴿خُذِ العَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الجَاهِلِينَ﴾.

القرآن الكريم: هو الذي أحرزت به الأمة السعادة، وهو الذي اجتث منها عروق الذلة والاستكانة، وهو الذي ربّاها وأدبها، فزكى منها النفوس، وصفى القرائح، وأذكى الفطن، وجلا المواهب، وأعلا الهمم، وأرهف الحس، وقوى العزائم، واستثار العقول.

وهو الذي غرس الإيمان في الأفئدة، وملأ القلوب بالرحمة، وحفز الأيدي للعمل النافع، والأرجل للسعي المثمر، ثم ساق تلك القوى – على ما في الأرض من شر وباطل وفساد – فطهرها منه تطهيرا، وعمّرها بالحق والإصلاح تعميرا.

هذا القرآن: هو الذي أنار العقول، فأصبحت كشافة عن الحقائق العليا، وطهر النفوس من أدران السقوط والإسفاف، فأصبحت نزاعة إلى المعالي، مقْدِمة على العظائم.

وبهذه الروح انفعت النفوس فأصبحت تفتح الآذان قبل البلدان، وتمتلك بالعدل والإحسان الأرواح قبل الأشباح.

هذا القرآن هو الذي أخرج الله به من رعاة الغنم رعاة الأمم، ومن خمول الجهل، أعلام الحكمة والعدل والعلم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله:

عباد الله أيها الصائمون: هذا هو القرآن، وها نحن في شهر القرآن ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ القُرْآنُ﴾ فما أحرانا في هذا الشهر أن نجدد العهد بالقرآن، وأن نكثر من تلاوته وتدبره، وعقله والتخلق بأخلاقه، والامتثال بأوامره، والانتهاء عن نواهيه، وأن يكون ذلك دأباً لنا في بقية أعمارنا، لنسعد في دنيانا وآخرتنا، ولننال الثواب الجزيل من ربنا سبحانه.

ولقد تظاهرت الأدلة من الكتاب والسنة، في فضل تلاوة القرآن الكريم.

فالله سبحانه أمر بتلاوته، وبين أن هذا هو دأَب الصالحين فقال سبحانه ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِراًّ وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ (29) لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ﴾ .

وخرج (ت) من حديث ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من قرأ حرفا من كتاب الله، فله بكل حرف حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول "ألم" حرف ولكن، ألف حرف ولام حرف وميم حرف».

وعند (م) عنأبي أمامة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «اقرؤا القرآن؛ فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه».

فقراءة القرآن خير وأجر وبركة في كل وقت، وهي في رمضان أعظم وأكبر، ولقد كان جبريل عليه السلام يأتي النبي صلى الله عليه وسلم في رمضان فيدارسه القرآن كل ليلة، كما في (خ م) عن ابن عباس قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان، حين يلقاه جبريل في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن، فلرسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة».

وفي العام الذي توفي فيه صلى الله عليه وسلم عارضه جبريل القرآن مرتين، كما في (خ).

يقول الحسن البصري: إلزموا كتاب الله تعالى، وتتبعوا ما فيه من الأمثال، وكونوا فيه من أهل البصر، ثم قال: رحم الله عبداً عرض نفسه وعمله على كتاب الله، فإن وافق كتاب الله حمد الله وسأله المزيد، وإن خالف كتاب الله أعتب نفسه فيرجع من قريب.

فما لكم يا مسلمون، عن كتاب ربكم معرضين، وعن تدبره غافلين، وبه غير مكترثين، انظروا إلى عظمته في نفوسكم، وكم قلت، تأملوا مواضع أقدامكم، فعن تقفي تعاليمه قد زلت، تفقدوا ألسنتكم، فمن ترداده قد ملت، فأروا الله من أنفسكم خيراً، فأنتم اليوم في شهر القرآن.

عباد الله: فيا لسعادة من أحب القرآن، وأقبل عليه تعلما وتعليما، وتلاوة وتدبرا، وعملا لأجل نشره، والدعوة إليه، فيا لسعادة ذلك، ويا لعزته في الدنيا والآخرة، ويا لحرمان من حرم ذلك الخير، وصد عن ذلك النور.