أنواع الكلام

بسم الله الرحمن الرحيم

أنواع الكلام

الكلمةُ عنوان المرءِ، تُتَرجِم عن مُستَودعاتِ صَدره، وتبرهِن على مكنوناتِ قَلبِه، وتدَلِّل على أصله وعقلِه، والعاقِلُ من لزِم الصمت، إلا عن حقٍّ يوضِحه، أو باطلٍ يَدحضه، أو خيرٍ ينشُرُه، أو علمٍ يذكره، أو فضلٍ يشكره، فعن أبي هريرةَ رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم «مَن كان يؤمِن بالله واليوم الآخرِ فليقل خيرًا أو ليصمُت» متفق عليه. وبِتركِ الفضول، تكمُل العقول، والخَرصُ خيرٌ من التفوُّه بالباطل، والبكمُ خيرٌ منَ النّطقِ بالكذِب والزّور، وشرّ الناس مائِلٌ بمقاله، مميلٌ بلسانِه، مُبطِل بكلامِه، وشرّ الكلام، ما خالَفَ كتابَ الله وسنّةَ رسوله صلى الله عليه وسلم ،ممّا تنبو عن قبولِه الطِّباع، وتتجافى عن استِماعه الأسماع.

أيّها المسلمون: عثراتُ القولِ طريقُ الندَم، والمنطِق الفاسِد الذي لا نِظام له ولا خِطام، عنوانُ الحرمان، ودليل الخذلان، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إنَّ العبدَ ليتكلَّم بالكلمةِ ما يتبيَّن فيها يزِلّ بها في النارِ أبعدَ ما بين المشرق والمغرب» متفق عليه، وعن بلالِ بن الحارث رضي الله عنه قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إنّ أحدَكم ليتكلَّم بالكلمة من رضوان الله، ما يظنّ أن تبلغَ ما بلغت، فيكتب الله له بها رضوانَه إلى يوم يلقاه، وإنّ أحدَكم ليتكلَّم بالكلمة من سخَط الله، ما يظنّ أن تبلغَ ما بلغت، فيكتب الله عليه بها سخطَه إلى يوم يلقاه» أخرجه الترمذي وابن ماجه، وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله، وإنّا لمؤاخَذون بما نتكلَّم به؟! فقال: «ثكِلتكَ أمّك يا معاذ، وهل يكُبّ الناسَ في النار على وجوهِهم إلاّ حصائدُ ألسنتهم؟!» أخرجه الترمذي.

أيّها المسلمون: الكلمة الطيّبة مغنَم، والكلِمة الخبيثة مأثم، وقد ضرَب الله لهما مثلاً، وشبَّه لهما شبهًا ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (24) تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (25) وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ﴾ .

والكلمة الطيِّبة هي شَهادة أن لا إلهَ إلا الله، وأنَّ محمّدًا رسول الله، كلمةُ الإسلامِ، وأصدَقُ الكلام، الحجَّة الواضِحَة العظمَى، والعروةُ الوثقى وكلِمة التقوَى، الكلمة العادِلَة السّواء، عاصِمَة الأموالِ والدّماء.

فلتَلهَج ألسنتُكم بالمساء والصباحِ، والغدوِّ والرَّواح، بالتهليل والتوحيدِ، والتقديس والتمجيدِ، والتسبيح والتحميدِ، فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لأن أقولَ: سبحان الله والحمد لله ولا إلهَ إلا الله والله أكبر أحبُّ إليَّ ممّا طلعت عليه الشمس» أخرجه مسلم «ومَن كان آخرَ كلامه لا إلهَ إلا الله وجبت له الجنة» أخرجه أحمد وأبو داود.

أيّها المسلمون: وأمّا الكلِمَة الخبيثة فكلِمَة الكفر، وهي تفوُّهٌ بما يناقِض التصديق، وتلفُّظ بما ينافي التّسليمَ، وطَعنٌ وسُخريّة واستهزاء، وتنقُّص للدِّين وازدِراء، ومَن استهزَأ باللهِ أو آياتِه أو أمره أو وعدِه أو وعيدِه، أو استهزأَ برسولِه محمّد صلى الله عليه وسلم أو بشيءٍ مِن أحكام دينِه، فقد خرَج عن إيمانه وكفَر بعد إسلامه، ﴿يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا﴾ ومَن رأى تحكيمَ شرعِ الله وسنّةَ رسوله محمّد صلى الله عليه وسلم انغِلاقًا فكرِيًّا، وتحجُّرًا حضارِيًّا، وجمودًا عَقلِيًا، ومَسلكًا كَهَنوتيًّا، فقد قال كلِمَة الكفر المحبِطة وأتى المقحِمَة والموبِقة.

وكلِمَة أهلِ النّفاق باديةٌ في لحنِ قولهم، وفلتَات ألسِنَتهم مهما تقنَّعوا بالنُّصح والإصلاح، وتظاهَروا بالصِّدق والإحسان، فالله مخرِج ما يكتُمون ،ومظهِر ما يضمِرون ﴿أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَن لَّن يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ﴾ هَذيان ممجوجٌ، ومنطِق محجوج، يدلّ على فسادٍ باطِن، ومَكرٍ كامِن ﴿الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُم مِّنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ المُنَافِقِينَ هُمُ الفَاسِقُونَ﴾ .

أيّها المسلمون: والقولُ الشّطَط ،والكلِمة الغَلَط، التي لا يقولها إلاّ هالك حائِر، وجاهِل بائر ،وضالٌّ خاسِر، كلِمة الشركِ والتنديد، التي هي أعظمُ الكذِب والزور، وأشدُّ البُهتان والفُجور. قد قال على الله شَططًا، وافترَى على الله كذِبًا، وبَثَّ شرَّ الأقاويل، ونشَر في الأمة أخبثَ العقائدِ والأضاليل، وصدَّ الناسَ عن سواء السبيل، داعيةُ خُرافة، ما قدَرَ الله حقَّ قدرِه ولا خافه، حتى أبان ضلالَه وانحرافَه ﴿فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً لِّيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي القَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ .

الخطبة الثانية :

أيّها المسلمون: وأما كلِمةُ الفسوق، فهي ميلٌ إلى المعصيةِ، وخُروج عن الاستقامة، واستِرسال في الحوبِ، وإفاضةٌ في الخنا، وإشاعةٌ لكلام الفحشِ ولَهو الحديث، وإذاعةٌ لصوتِ المنكَر ، وعبادُ الرحمن لا يتدنّسون باللّغو الفاجر، ولا يجاهِرون بالمعاصي والمناكِر؛

عباد الله: وكلِمَة الإرجافِ والتحريش، إظهارٌ للشّناعةِ، على رؤوسِ الأشهاد، وإشاعةٌ لأراجيفِ الأخبار، والتماسٌ للفرقة، وتفوُّه بما يفضِي لانقصام العَصا، وانفصَام العُرى، وإثارَةِ الدهماء والغوغاء، وتحريك القلوبِ بالسوءِ والفتنة، ضدَّ جماعةِ المسلمين وأئمّتهم وعلمائِهم.

أيّها المسلمون: المسلمُ مَن سلِم المسلِمون من لسانِه ويدِه، والقَالَةُ بينَ النّاس نميمةٌ ، إفسادٌ لذاتِ البين، وتفريق بين المتحَابَّين، ونفثٌ في عُقَد المكارِهِ بين الزوجين، صاحِبُها متوعَّد بالنار وسوءِ القرار، فعن حذيفة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا يدخُل الجنّةَ نمام» متفق عليه

وكلِمةُ الغيبَةِ، لسانٌ مقراضٌ، وفَريٌ في الأعراضِ، همز ولمزٌ، وطعن و غَمز ، مستنقَع آسن، ودَرَك هابِط، وولوغٌ في الجِيَف والأنتان، عِقابها شديد، ومصيرُها رهيبٌ، فعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لمّا عرِج بي مررتُ بقومٍ لهم أظفار من نحاس، يخمِشون وجوهَهم وصدورَهم، فقلت: مَن هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء الذين يأكلُون لحومَ الناس ويقَعون في أعراضهم» أخرجه أحمد وأبو داود .

عباد الله: خاب الطّعّانُ، وخسِر اللّعّان، وباء بالخيبةِ الفاحش وبذيء اللسان، فعن ابن مسعود رضي الله عنه: «ليس المؤمِن بالطّعّان ولا باللّعّان ولا الفاحِش ولا البذيء» أخرجه الترمذي

قال عمرُ بن عبد العزيز: "من لم يَعُدَّ كلامَه من عمله، كثُرت خطاياه"، وفي الأثر: "لسانُ العاقل من وراء قلبهِ، فإذا أرادَ الكلامَ رجعَ إلى قلبه، فإن كان له تكلَّمَ، وإن كان عليه أمسكَ، وقلبُ الجاهلِ من وراءِ‍ لسانِه، يتكلَّمُ بكلِّ ما عَرَضَ له".

 فاستدفِعوا العقوباتِ والنّقمات بإنكارِ المنكراتِ والتخلُّص من المحرَّمات والحذَرِ مِنَ المجاهرة بالمعاصِي والمحظورات، واستديموا النّعَم بتركِ أسباب زوالها ودواعي اضمِحلالها واندثارِها.