التحذير من الرشوة

بسم الله الرحمن الرحيم

التحذير من الرشوة

فإن فيما قصه الله علينا في كتابه، من أخبار الماضين، في معرض الذم لهم والإنكار عليهم، ما يحمل أرباب العقول، على اجتناب طريقهم، والبعد عن مسالكهم.

وإن مما أخبرنا الله سبحانه من صفات اليهود أنهم ﴿سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ﴾ ، يقول ابن مسعود: السحت هو الرُّشا، وقال عمر بن الخطاب: رشوة الحاكم من السحت، وقال الحسن رحمه الله: "كان الحاكم من بني إسرائيل إذا أتاه أحدهم برشوة جعلها في كمّه فأراها إياه وتكلم بحاجته، فيسمع منه ولا ينظر إلى خصمه.

عباد الله: إن المال فتنه وأي فتنة، وإن الإنسان متى فتح على نفسه باب شرٍ من طريقه فلن يغلق. ألا وإن من طرق أكل المال الحرام ما جاء في قوله تعالى: ﴿وَلاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ فنهى الله المسلم أن يأكل مال غيره بالباطل، وصورها في صورة الرشوة، التي يصانع بها صاحبُ الحاجة الحاكمَ لينال حق غيره، ولقد فُسر قول الله سبحانه ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِّنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ﴾ بأنه أكل الرشوة. والرشوة هي بذل المال للتَّوصّل به إلى باطل، إما بإعطاء الباذل ما ليس من حقّه، أو إعفائه مما هو حق عليه.

الرشوة ـ عباد الله ـ مرض فتاك يفسد الأخلاق، ويسري في الأمة حتى يوردها موارد التلف، ما خالطت الرشوة عملاً إلا أفسدته، ولا نظامًا إلا قلبته، ولا قلبًا إلا أظلمته، ما فشت الرشوة في أمةٍ إلا وحل فيها الغش محل النصح، والخيانة محل الأمانة، والخوف بدل الأمن، والظلم بدل العدل.

الرشوة ـ أيها الناس ـ مهدرة الحقوق، معطِّلة للمصالح، مجرأَة للظلمة والمفسدين، ما فشت في مجتمع إلا وآذنت بهلاكه، تساعد على الإثم والعدوان، تقدم السفيه الخامل، وتبعد المجد العامل، تجعل الحق باطلاً والباطل حقًا، كم ضيّعت الرشوة من حقوق، وكم أهدرت من كرامة، وكم رفعت من لئيم وأهانت من كريم.

الرشوة نقص في الديانة، وضياع للأمانة، وعلامة على الخيانة، الرشوة ملعون صاحبها على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم روى الترمذي وأحمد وابن حبان عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لعن الله الراشي والمرتشي»، وفي رواية عند أحمد: «والرائش» وهو الذي يمشي بينهما.

إذا أتت الرشاوى دار قومٍ*** تطايرت الأمانة من كواها

روى البخاري في صحيحه عَنْ أَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: «اسْتَعْمَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم رَجُلا مِنْ الازْدِ يُقَالُ لَهُ ابْنُ الْلُتْبِيَّةِ عَلَى الصَّدَقَةِ فَلَمَّا قَدِمَ قَالَ هَذَا لَكُمْ وَهَذَا أُهْدِيَ لِي ، قَالَ : فَهَلا جَلَسَ فِي بَيْتِ أَبِيهِ أَوْ بَيْتِ أُمِّهِ فَيَنْظُرَ يُهْدَى لَهُ أَمْ لا ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لا يَأْخُذُ أَحَدٌ مِنْهُ شَيْئًا إِلا جَاءَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَحْمِلُهُ عَلَى رَقَبَتِهِ إِنْ كَانَ بَعِيرًا لَهُ رُغَاءٌ أَوْ بَقَرَةً لَهَا خُوَارٌ أَوْ شَاةً تَيْعَرُ ثُمَّ رَفَعَ بِيَدِهِ حَتَّى رَأَيْنَا عُفْرَةَ إِبْطَيْهِ اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ ثَلاثًا» .

قال صلى الله عليه وسلم «بادروا بالأعمال خصالاً ستًا: إمرة السفهاء، وكثرة الشرط، وقطيعة الرحم، وبيع الحكم، واستخفافًا بالدم، ونشوًا يتخذون القرآن مزامير، يقدمون الرجل ليس بأفقههم ولا أعلمهم، ما يقدمونه إلا ليغنّيهم».

بالرشوة يفلت المجرم ويدان البريء، بها يفسد ميزان العدل الذي قامت به السموات والأرض، وقام عليه عمران المجتمع، هي المعول الهدام للدين والفضيلة والخلق. الرشوة فخ المروءة، ومصيدة الأمانة، وغرق الديانة وحبائل الشرف.

بفشوِّ الرشوة تصاب مصالح الأمة بالشلل، وعقول النابغة بالقصم، ومواهب المفكرين بالجمود، وجهود العاملين بالفتور، وعزائم المجدين بالخور. الكرامة ضائعة، والحقوق مهضومة، والنبوغ مقبور، والجد مدفون، والغيرة على مصالح الأمة مضمحلة. والأمانة في خدمتها غائبة، وتقدير المخلصين متلاشٍ.

فاتقوا الله عباد الله، واعتبروا بمن مضى قبلكم من الأمم، كيف حلت بهم نقمة الله، وكيف توعد الله من سلك سبيلهم واجترأ على معاصي الله.

الخطبة الثانية:

الحمد لله الهادي إلى الصراط المستقيم، أحمده سبحانه وتعالى وهو البر الرحيم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، حث على الخلق الكريم، وهدى إلى النهج القويم، اللهم صل على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وأصحابه والتابعين، وسلم تسليمًا.أما بعد: فياأيها الناس، قاعدة عظيمة ينبغي لكل مؤمن أن يجعلها نصب عينيه في كلّ عمل يعمله، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم «إن الحلال بين، وإن الحرام بين، وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام».

عباد الله، إن تفنُّن الناس في تسمية الرشوة بغير اسمها لا يخرجها عن حكمها، سمَّوها بغير اسمها، ولقّبوها بألقاب تخدع السذج من الناس وتسرّ الغششة، تلبس عند أهلها ثيابًا مستعارة، فتأخذ صورًا متلونة، وأغراضًا متعددة. فهذه هدية وتلك إكرامية، وهذه محاباة في بيع أو شراء، وذلك إبراء من الدين. والصور في ذلك لا تتناهى، وسبل الشياطين وأعوانهم في ذلك عريضة واسعة. فالطالب يعطي أستاذَه، الموظَّف يهدي إلى مديره، صاحب الحاجة يقيم مأدبة لمن هو محتاج إليه، في صوَر أفسدت العمال على أصحاب العمل.

صور الرشوة متعددة،فهي طمس لحق أو سكوت على باطل، وتقديم لمتأخر وتأخير لمتقدم، ورفع لخامل، ومنع لكفءٍ، وتغيير للشروط، وإخلال بالمواصفات، وعبث بالمناقصات، وتلاعب في المواعيد.

أما الراشي والمرتشي والرائش فإنهم ملعونون عند الله على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، مطرودون من رحمة الله ممحوق كسبهم، زائلة بركتهم، خسروا دينهم وأضاعوا أمانتهم، استسلموا للمطامع، واستعبدتهم الأهواء. وأغضبوا الرب، وخانوا الإخوان، وغشوا الأمة، في نفوس خسيسة وهمم دنيئة.

كم من مظالم انتهكت، وكم من دماء ضيعت، وكم من حقوق طمست، ما أضاعها وما طمسها إلا الراشون والمرتشون ، فويل لهم مما عملت أيديهم وويل لهم مما يكسبون.

يقول يوسف بن أسباط: إن الرجل إذا تعبد قال الشيطان لأعوانه: انظروا من أين مطعمه؟ فإن كان مطعم سوء قال: دعوه يتعب ويجتهد فقد كفاكم نفسه. قال الحافظ الذهبي رحمه الله: ويؤيد ذلك ما ثبت في الصحيح من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم : «في الرجل يطيل السفر، أشعث أغبر، ومطعمه من حرام، ومشربه من حرام، وغذي بالحرام، فأنى يستجاب لذلك؟!» .

فاتقوا الله عباد الله وخذوا بأوامر ربكم، واستمسكوا بتوجيهات نبيكم ففي ذلك ما يحفظ حقوقكم، ويطهر قلوبكم ويملأ بالرضا والإيمان نفوسكم، ويمنع تقاطعكم وشحناءكم وتحاسدكم وبغضاءكم.