الدعاء وخروج الشباب بدعوى الجهاد

بسم الله الرحمن الرحيم

الدعاء وخروج الشباب بدعوى الجهاد

الدعاءُ نعمةٌ كبرى، ومنحةٌ جُلَّى، جاد بها المولى تبارك وتعالى وامتنَّ بها على عباده، حيثُ أمرهم بالدعاء ووعدهم بالإجابة والإثابة، فشأنُ الدعاء عظيم ونفعه عميم، ومكانته عاليةٌ في الدِّين، فما استجلبت النعم ،ولا استدفعت النقم بمثله.

أيها المسلمون: إن التضرعَ إلى الله، وإظهار الحاجة إليه، والاعتراف بالافتقار إليه من أعظم عرى الإيمان، وبرهانُ ذلك الدعاءُ والالحاحُ في السؤال، فالله يحبه من عبده، ويحبُ أن ينطرح العبدُ بين يديه، وأن يتوجه بالشكوى إليه، في الحديث القدسي الذي رواه مسلم وغيره عن أبي ذر رضي الله عنه: «قال الله تعالى: ياعبادي، كلكم ضالٌ إلا من هديته، فاستهدوني أهدكم. يا عبادي، كلكم جائعٌ إلا من أطعمته، فاستطعموني أُطعمكم. يا عبادي، كلكم عارٍ إلا من كسوته، فاستكسوني أكسكم. يا عبادي، إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعًا، فاستغفروني أغفر لكم».

عباد الله: ولما كان شهر رمضان حريًّا أن تُعمَر أوقاته بالعبادة، فإن الدعاء أولى ما عُمرت به؛ لأن الدعاء هو العبادة، أخرج أبو داود والترمذي عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الدعاء هو العبادة» لدلالته على الإقبال على الله والإعراض عما سواه، بحيث لا يرجو ولا يخاف إلا إياه، قائمًا بواجب العبودية، معترفًا بحق الربوبية، عالمًا بنعمة الإيجاد، طالبًا لمدد الإمداد على وفق المراد. وتأمل قول الله تعالى ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ﴾ .

قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: "إن الصيام مظنة إجابة الدعاء؛ لأن الله سبحانه وتعالى ذكر هذه الآية في أثناء آيات الصيام، ولا سيما أنه ذكرها في آخر الكلام على آيات الصيام. وقال بعض أهل العلم: إنه يستفاد منها فائدة أخرى: أنه ينبغي الدعاء في آخر يوم الصائم، أي: عند الإفطار"

عباد الله، إن الدعاء حبل مديد وعروة وثقى وصلة ربانية، وهو روضة القلب وجنة الدنيا، وهو صفة صفوة الخلقِ من الأنبياء والمرسلين، ﴿إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونُ فِي الخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً﴾ ، والخليل عليه السلام يقول: ﴿وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلاَّ أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِياًّ﴾ ، هذا نوح عندما لاقى الصد والإعراض من قومه ﴿فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانتَصِرْ﴾ ، وأيوب ﴿نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾ ، وهذا زكريا يقول ﴿رَبِّ لاَ تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الوَارِثِينَ﴾ ، ويونس يتضرع داخل بطن الحوت، فيسمع دعاءه ذو العزة والجبروت ﴿وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لاَّ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾ .

الدعاء عبادة ميسورة مطلقة، لا تقيّد بزمان أو مكان، دعاء في الليل والنهار، وتضرع في البراري والبحار، وابتهال حال الإقامة والأسفار، نفعه يلحق الأحياء في دنياهم والأموات في لحودهم «أو ولد صالح يدعو له».

فيا أيها الصائمون: أكثروا الدعاء، وألحوا في الطلب، وثقوا بعطاء الله، فإنه لا مكره له، ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، واعلموا أن الله لا يستجيب دعاء من قلب غافل لاهٍ، ومروا بالمعروف وانهوا عن المنكر، فعند أحمد والترمذي من حديث حذيفة رضي الله عنه قال صلى الله عليه وسلم «والذي نفسي بيده، لتأمُرن بالمعروف ولتنهُون عن المنكر أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقابًا من عنده، ثم لتَدْعُنَّه فلا يستجيب لكم» .

الدعاء يكشف بفضل الله البلايا والمصائب، ويمنع وقوع العذاب والهلاك، وهو سلاح المؤمن، لا شيء من الأسباب أنفع ولا أبلغ في حصول المطلوب منه، هو عدو البلاء، يدافعه ويعالجه، ويمنع نزوله، ويرفعه أو يخففه إذا نزل، لا شيء أكرم على الله منه، به تفرج الهموم، وتزول الغموم، وأعجز الناس من عجز عن الدعاء، وأضعفهم رأياً وأدناهم همة من تخلف عن النداء، الدعاء هو عين المنفعة، ورجاء المصلحة، ودعاءُ المسلم بين يدي جواد كريم، يعطي ما سُئل، إما معجلاً وإما مؤجلاً.

يقول ابن حجر رحمه الله: "كل داع يستجاب له، لكن تتنوع الإجابة، فتارة تقع بعين ما دعا به، وتارةً بعوضه" .

الداعي موفور الكرامة، مهاب الجناب، وكلما اشتدّ الإخلاص وقوي الرجاء، كلما كانت الإجابة أحرى، فأطب مطعمك ومشربك، وتعفف عن الشبهات، وقدم بين يدي دعائك عملاً صالحاً، ونادِ ربك بقلب حاضر ، وألق نفسك بين يديه، وسلّم الأمر كله إليه، واعزم المسألة، وأعظم الرغبة فما رَدَّ سائله، ولا خاب طالبه، فهو جابر المنكسرين، وإله المستضعفين، هو صاحب كل نجوى، وسامع كل شكوى، وكاشف كل بلوى، لا يؤمَّل لكشف الشدائد سواه، بيده مفاتيح الخزائن، بابه مفتوح لمن دعاه، فلازم الطلب فالمعطي كريم، والكاشف قدير، وإذا تزخزف الناس بطيب الفراش، فارفع أكفَّ الضراعة إلى المولى في دُجى الأسحار، ومن حلَّت به نوائب الدهر وجأر إلى الله حماه: ﴿أَمَّن يُجِيبُ المُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ﴾ .

الخطبة الثانية:

بدعوةٍ تتقلب الأحوال، فالعقيم يولد له، والسقيم يُشفى، والفقير يُرزق، والشقي يسعد، وإذا تقطعت بك الأسباب، وأُغلقت في وجهك الأبواب، فاقرع أبواب السماء، وُبثَّ إلى الجبار اللأواء، فهو مفزع المظلومين، وملجأ المستضعفين، وَعَدَ بنصرة الملهوف، وإجابة المظلوم.

ومن وفق للدعاء لم يحرم الإجابة، يقول النبي صلى الله عليه وسلم «ما على وجه الأرض مسلم يدعو الله بدعوة إلا آتاه الله تعالى إياها، أو صرف عنه من السوء مثلها، ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم ، فقال رجل من القوم: فإذاً نكثر،‍ قال: الله أكثر» (ت)

عباد الله :دعوة الوالد لولده مستجابة، فأكثر من الدعاء لأبنائك بالهداية، وملازمة السعادة، والعصمة من الفتن، فإننا في زمن تنوعت فيه الفتن وتعددت، كثر فيه دعاة الضلالة، وتيسرت سبل الغواية، فهذا داع لزندقة، وذلك آمر بإلحاد، وثالث تلبس بلباس العلم والفتوى، وأخذ على عاتقه إغواء أبناء المسلمين، باسم الغيرة على الدين تارة، وباسم الجهاد في سبيل الله أخرى، حتى رأينا من شبابنا من زج بهم في معارك، لا زمام لها ولا خطام، بل بعضها تقودة أحزاب لا تدين بالإسلام، وقادة لا يوحدون الديان، نصروا في بعض المواطن أعداء الإسلام، نصروا الرافضة من حيث لا يشعرون، وخدموا الكفار من حيث لا يعلمون، حركات سياسية، وأخرى حزبية، لم تنطلق من العلماء، ولم يقدها الولاة، خالفوا علماءهم، وعصوا ولي أمرهم، ولم يستأذنوا الآباء، ولم يشفقوا على الأمهات، فأخرجوا من هذه البلاد باسم الجهاد، وعاد بعضهم إليها في توابيت، والآخر مغلول بالقيود، وعندما يسألهم السائل بعد العودة، كيف رأيتم ما كنتم توعدون، انطلقت من صدورهم الزفرات، وباحوا بالمكنون، لقد غرر بنا، وجعلنا قنابل موقوته، لانملك حلا ولا عقدا. فياليتنا أطعنا الناصحين.

أيها المسلمون: اجتهدوا في الدعاء، وأكثروا من الثناء، وعظموا الرجاء، وتحلوا بآداب الدعاء، فإن خزائن الله ملأى، أرأيتم ما أنفق منذ خلق السماوات والأرض فإنه لم ينقص مما عنده إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر، وفي الحديث القدسي «يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم، اجتمعوا في صعيد واحد فسألوني، فأعطيت كل واحد منهم مسألته، ما نقص ذلك مما عندي شيئاً» .