الدروس الحسان في مناقب عثمان

بسم الله الرحمن الرحيم

الدروس الحسان في مناقب عثمان

رجل حكم المسلمين بالعدل والإحسان، وسار فيهم سيرة سيد الأنام، وطبّق فيهم شريعة سيد ولد عدنان، عليه الصلاة والسلام، فقد كان رضي الله عنه وأرضاه كصاحبيه إحساناً وتقوى، وهدىً وعلماً. حكم الأمة الإسلامية اثنا عشرة سنة. وكان رابع أربعة دخلوا في الإسلام، إنه أمير البررة وقتيل الفجرة، مخذول من خذله، ومنصور من نصره إنه صاحب الهجرتين، وزوج الابنتين ذو النورين ، هو أحد العشرة المشهود لهم بالجنة، قال عنه صلى الله عليه وسلم «عثمان في الجنة» وأحد الستة أصحاب الشورى، وأحد الثلاثة الذين خلصت لهم الخلافة من الستة. ثم تعينت فيه بإجماع المهاجرين والأنصار، فكان ثالث الخلفاء الراشدين والأئمة المهديين.إنه عثمان بن عفان بن أبي العاص بن أمية

كان من السابقين إلى الإسلام، فما إن سمع من أبي بكر عرض الدعوة إلا وانطلق لسانه يردد الكلمة التي دان لها العرب والعجم. لا إله إلا الله، محمد رسول الله.

كان رضي الله عنه معتدل القامة، كبير اللحية، عظيم الكراديس، بعيد ما بين المنكبين، كثير شعر الرأس حسن الثغر قال عبد الله بن حزم المازني: رأيت عثمان بن عفان، فما رأيت قط ذكراً ولا أنثى أحسن وجهاً منه.

أيها المسلمون: لقد جمع الله لعثمان الفضائل والمكارم، فلقد تزوج بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم رقية رضي الله عنها فلما توفيت زوجه رسول الله صلى الله عليه وسلم أم كلثوم، فتوفيت أيضاً في صحبته فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لو كان عندنا أخرى لزوجناها عثمان» .

قال الحسن البصري إنما سمي عثمان ذا النورين لأنه لا نعلم أحداً أغلق بابه على ابنتي نبيّ غيره.

وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في حائط من حيطان المدينة، فجاء رجل فاستفتح -أي استأذن بالدخول- فقال النبي صلى الله عليه وسلم : «افتح له وبشر بالجنة» ففتحت له فإذا أبو بكر، فبشرته بما قال النبي صلى الله عليه وسلم فحمد الله، ثم جاء رجل فاستفتح فقال النبي صلى الله عليه وسلم : «افتح له وبشره بالجنة» ففتحت له، فإذا هو عمر، فأخبرته بما قال النبي صلى الله عليه وسلم فحمد الله، ثم استفتح رجل فقال لي: «افتح له، وبشر بالجنة على بلوى تصيبه» فإذا عثمان. فأخبرته بما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فحمد الله ثم قال: الله المستعان. (متفق عليه).

ولما صعد رسول الله صلى الله عليه وسلم جبل أحد ومعه أبو بكر وعمر وعثمان فرجف الجبل فقال صلى الله عليه وسلم «اسكن أحد فليس عليك إلا نبي وصديق وشهيدان» (رواه مسلم).

أخرج الترمذي عن عبد الرحمن بن خباب قال شهدت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يحث على جيش العسرة. فقال عثمان بن عفان: يا رسول الله عليّ مائة بعير بأحلاسها وأقتابها في سبيل الله، ثم حض رسول الله صلى الله عليه وسلم على جيش العسرة مرة أخرى، فقال يا رسول الله علي مائتي بعير بإحلاسها وأقتابها في سبيل الله، ثم حض رسول الله على الجيش، فقال عثمان يا رسول الله عليّ ثلثمائة بعير بأحلاسها وأقتابها في سبيل الله، فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول: «ما على عثمان ما عمل بعد اليوم». القوس في حاجة إلى الباري، والسهم في حاجة إلى الرامي، والخيل في حاجة إلى الفارس، والمشكلة في حاجة إلى الحلاّل، والكلمة في حاجة إلى اللسان، والأمة في حاجة إلى ذي مال كريم كعثمان.

وهكذا وجدت العسرة عثمانها المعطاء، وقدم عثمان رضي الله عنه لجيش العسرة تسعمائة وأربعين بعيرًا وستين فرسًا أتم بها الألف كما يقول ابن شهاب، وجاء بعشرة آلاف دينار صبها بين يدي محمد صلى الله عليه وسلم ، وجهّز عشرة من القراء على حسابه، وجهّز الجيش كلّه حتى لم يتركه في حاجة إلى خطام أو عقال، يقول أبو هريرة رضي الله عنه: اشترى عثمان بن عفان من رسول الله صلى الله عليه وسلم الجنة مرتين: حين حفر بئر رومة، وحين جهز جيش العسرة.

وهو الذي اشترى بئر رومة حيث قال رسول الله «من يشتريها من خالص ماله فيكون دلوه فيها كدلاء المسلمين وله خير منها في الجنة»، قال عثمان فاشتريها من خالص مالي.

عباد الله: ولم يكن عثمان رضي الله عنه سباقاً في مجالات الجهاد بالمال والنفس فحسب، بل لقد كان عابداً خاشعاً خائفاً من الله لا يمل من قراءة القرآن، قال ابن عمر في قوله تعالى: ﴿أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الآخِرَةَ﴾ .هو عثمان بن عفان.

ومن أعماله العظيمة أيضاً، توسعة المسجد الحرام، عام ست وعشرين من الهجرة. فاشترى لذلك ما حولها من الأماكن. وفي سنة تسع وعشرين قام بتوسعة مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبناه بالحجارة المنقوشة، وجعل أعمدته من الحجارة.

 

الخطبة الثانية:

وإن أعظم منقبة سجلت لعثمان، جمعه الناس على حرف واحد، وكتابة المصحف على العرضة الأخيرة التي درسها جبريل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في آخر سنين حياته. وكان سبب ذلك أن حذيفة بن اليمان أخبره أنه لما كان في بعض الغزوات، رأى الناس يختلفون في قراءاتهم ويجهل بعضهم بعضاً في ذلك بل ويكفر بعضهم بعضاً، فركب حذيفة إلى عثمان فقال: يا أمير المؤمنين أدرك هذه الأمة قبل أن تختلف في كتابها اختلاف اليهود والنصارى ، وذكر له ما شاهد هناك. فعند ذلك جمع عثمان الصحابة وشاورهم في ذلك، ورأى أن يكتب المصحف على حرف واحد. وأن يجمع الناس في سائر الأقاليم على القراءة به. فوافقه الصحابة، فأمر زيد بن ثابت الأنصاري أن يكتب القرآن، فكتب لأهل الشام مصحفاً، ولأهل مصراً آخر، وإلى البصرة وإلى الكوفة وإلى مكة واليمن، وأقر بالمدينة مصحفاً.

إن سيرة هذا العلم مليئة بالأحداث وما زالت فضائله مشهورة بين الناس، وأن أميز صفة تميز بها عثمان رضي الله عنه، والتي أصبحت ملازمة لاسم عثمان،إلا وهي صفة الحياء

فقد كان عثمان حيّيا، كأنه العذراء في خدرها من شدة حيائه. فقد كان إذا اغتسل يغتسل جالساً لئلا يكشف شيء منه مع أنه في بيت مغلق عليه.

قالت عائشة رضي الله عنها كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مضطجعاً في بيتي، كاشفاً عن فخذيه أو ساقيه، فاستأذن أبو بكر رضي الله عنه فأذن له وهو على تلك الحال. فتحدّث، ثم استأذن عمر رضي الله عنه فأذن له وهو كذلك فيتحدث ثم استأذن عثمان رضي الله عنه ، فجلس رسول الله وسوى ثيابه فدخل فتحدث، فلما خرج قالت عائشة: دخل أبو بكر فلم تهتشّ له ولم تباله، -أي لم تغير من حالك شيء- ثم دخل عمر فلم تهتشّ له ولم تباله، ثم دخل عثمان فجلست وسويت ثيابك، فقال: «ألا أستحي من رجل تستحي منه الملائكة» (رواه مسلم).

فلما كان يوم مقتله رضي الله عنه رأى في المنام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر وأنهم قالوا له: اصبر فإنك تفطر عندنا القابلة، فلما أصبح شد عليه سراويله خشية أن تبدو عورته إذا هو مات أو قتل وقال لأهله: إني صائم.

ثم دعا بمصحف فنشره بين يديه وأخذ يقرأ فيه حتى قتل رضي الله عنه من يومه، وذلك قبيل المغرب بقليل، وكان أمر الله قدراً مقدوراً، فكان خبر مقتلة فاجعة على الأمة الإسلامية فبكته النساء وبكاه الصحابة وأكثرهم حزناً عليه علي بن أبي طالب، واغتمت المدينة تلك الليلة وأصبح الناس بين مصدق ومكذب حتى استبانوا الأمر وتيقنوا الخبر، وكان قتله في آخر شهر ذي الحجة سنة خمس وثلاثين للهجرة رضي الله عنه.