الحسد وأضراره

بسم الله الرحمن الرحيم

الحسد وأضراره

أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، وطهروا قلوبكم من الأمراض والآفات، والرذائل والآثام، فإن القلب سيد الجوارح؛ «ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب»

فالقلب أشرف الأعضاء، وأعظمها خطرًا، وأكثرها أثرًا، وأدقها أمرًا، وأشقها إصلاحًا، ولما كانت هذه منـزلته ومكانته كان زللـه عظيمًا، وزيغه خطيرًا.

أيها المسلمون: إن من أخطر الآفات، التي تفسد القلب، وتصرفه عن صحته واستقامته، إلى مرضه وانحرافه، الحسد. ذلك الداء العضال، إنه أعظم الأدواء، والابتلاء به من أشد البلوى، يحمل صاحبه على مراكب الذنوب والآثام، ويبعده عن منازل أهل التقوى والإيمان، فللَّه ما أعظمه من بلاء، ما دخل قلبًا إلا أعطبه، وأفسد عليه حاضره ومستقبله.

عباد الله: كم جَرّ الحسد على الخلق من الرزايا والبلايا، فهل أخرج إبليس من فضل الله ورحمته إلى سخطه ولعنته إلا الحسد؟! وهل قتل قابيل أخاه هابيل إلا بالحسد؟! وهل أعرض صناديد الكفر عن اتباع الأنبياء والرسل إلا بالحسد؟! وهل نقم اليهود والنصارى على أمة الإسلام إلا لأجل الحسد؟!: ﴿أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُّلْكاً عَظِيماً﴾ .

عباد الله: حذّر النبي صلى الله عليه وسلم أمته من الحسد، وعظّم أمره في أحاديث كثيرة، منها ما رواه الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إياكم والظن؛ فإن الظن أكذب الحديث، ولا تحسسوا، ولا تجسسوا، ولا تحاسدوا، ولا تباغضوا، ولاتدابروا، وكونوا عباد الله إخوانًا» .

وقد أخبرنا صلى الله عليه وسلم بإفنائه للحسنات، وإفساده للطاعات، فعند أبي داود من حديث أبي هريرة وعبد الله بن كعب رضي الله عنهما قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إياكم والحسد؛ فإن الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب» .

أيها المسلمون: إن الحسد الذي ورد في السنة ذمُّه والتحذير منه، هو أن يحبّ المرء زوال نعمة الله عن المحسود. أما محبة مساواة غيره في الخير والفضل أو الامتياز عليه، كأن تحب أن يكون لك من الخير والفضل، كما لفلان أو أفضل منه دون أن تزول النعمة عنه، فهذا من التنافس في الخير، وليس من الحسد المذموم، ومنه قوله تعالى عند ذكر نعيم الجنة ﴿وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ المُتَنَافِسُونَ﴾ ومنه قوله صلى الله عليه وسلم : «لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها، ورجل آتاه الله مالاً فسلطه على هلكته في الحق» رواه الشيخان

عباد الله: احذروا الحسد، فإنه داء فتاك، لا يوقّر كبيرًا لكبره، ولا شريفًا لشرفه، ولا عالمًا لعلمه، بل يطرق قلب الصغير والكبير، والشريف والوضيع، والعالم والجاهل.

وإن مما يزهدك في الحسد، ويعينك على تركه، أن تعلم أن الحاسد مضاد لله تعالى ومحادّ له، في قدره وشرعه؛ فبالحسد سخطت قضاء الله تعالى، وكرهتَ نعمته التي قسمها بين عباده، واعترضت على عدله الذي أقامه في ملكه، بخفيّ حكمته، ولطيف صنعه، فاستنكرت ذلك واستبشعته.

فللَّه ما أخبثَ هذه النفس التي عصت الله في أمره، وتقدمت بين يديه في قضائه وقدره ﴿أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِياً وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ﴾ .

ومما يعينك أيضًا على تطهير قلبك من هذه الخطيئة أن تعلم أن الحاسد أوّل ضحايا الحسد، فإن الحاسد معذب مهموم مغموم، وقد وصف بعضهم حال الحاسد فقال: "طول أسف، ومحالفة كآبة، وشدة تحرق، فهو مكدر النعمة، لا يجد لها طعمًا، يرى كل نعمة على الخلق نقمة عليه، فهو طويل الهم، دائم السخط، منغَّص العيش". وهذه عاجل عقوبته؛ همّ وغمّ، بغير اجتلاب دنيا مع ذهاب الدين، فلا دنيا حصل، ولا دينًا أبقى.

ومما يعيننا على تطهير قلوبنا من الحسد أن نعلم أن الحسد يهيج أنواعًا من الذنوب والخطايا، فبالحسد تقع في الغيبة، وبه تتبع عورات المسلمين، فتبحث عن السقطة والزلة، وتشيع الهفوات والهنات بحجة النقد، وبدعوى التصحيح والنصح.

ومن أعظم ما ينفع المرء ويعينه على ترك الحسد القناعة بما قسم الله تعالى وقضى، فإنه سبحانه أعلم بمحالِّ فضله وجوده، فطب نفسًا بقسمة الله، وقرّ عينًا بقضائه وقدره؛ فإنه عزيز حكيم عليم خبير.

ومما يعينك على كَسرِ سَورة الحسد ، معاملة المحسود بنقيض ما يقتضيه الحسد من قول أو فعل، فكفّ عنه الأذى، وابذل له الخير والندى، عسى الله أن يعينك على التخلص من هذا الداء الدوي، وأحبه على ما تلقى من جراء ذلك، فإنه من لم يصبر على مرارة الدواء لم ينل حلاوة الشفاء.

فطهروا قلوبكم من الحسد، واحرصوا على قطع أسبابه وإزالة دواعيه

الخطبة الثانية :

أما بعد: فاعلموا أن الحسد فاشٍ منتشر في قلوب كثير من الناس، وسر هذا الانتشار هو إقبال الناس على الدنيا التي فتنوا بها حتى أخذت بمجامع قلوبهم، فعليها يوالون، وعليها يعادون، وعليها يتقاتلون، ولو فطن هؤلاء إلى ما ينفعهم لكفوا أبصارهم عنها، ولمدوا أنظارهم إلى فضل الله ومنّه وكرمه ، فإن خزائن فضل الله ورحمته ومنّه وكرمه لا تنفد، وبحور جوده وعطائه وهباته لا تَنَضب. فاسألوا الله من فضله كما أمركم بذلك، فإنه لا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع، قال الله تعالى: ﴿وَلاَ تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِن فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً﴾ .

أيها المؤمنون، إن الله سبحانه وتعالى أمركم بالاستعاذة من شر الحساد فقال تعالى: ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الفَلَقِ (1) مِن شَرِّ مَا خَلَقَ (2) وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ (3) وَمِن شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي العُقَدِ (4) وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ﴾ .

فهذه السورة من أكبر أدوية الحسد، ولذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرؤها في الصباح والمساء، وبعد الصلوات وعند النوم؛ وما ذلك إلا لما فيها من عظيم النفع وكبير الدفع للشر وأسبابه. فاحرصوا عليها وعلى عامة الأذكار؛ فإنها من أسباب دفع شر الحاسد.

ومن أسباب دفع شر الحاسد تقوى الله تعالى، فإنه من يتق الله يجعل له مخرجًا، ويرزقه من حيث لا يحتسب. ومن أسباب دفع شر الحاسد التوكل على الله، فإنه من يتوكل على الله فهو حسبه، أي: كافيه ومانعه.

ومن أسباب دفع شر الحاسد التوبة إلى الله تعالى من الذنوب والمعاصي، فإن التوبة من أعظم أسباب زوال الشر والفساد. قال ابن القيم رحمه الله: "فليس للعبد إذا بُغي عليه أو أوذِي أو تَسلّط عليه خصم شيءٌ أنفع من التوبة النصوح". فتوبوا إلى الله جميعًا ـ أيها المؤمنون ـ لعلكم تفلحون.

ومن أسباب زوال الحسد وشر الحاسد والباغي والموذي الإحسان إليه، فكلما ازداد أذًى وشرًا وبغيًا وحسدًا ازددتَ إليه إحسانًا وله نصيحةً وعليه شفقة، قال الله تعالى: ﴿وَلاَ تَسْتَوِي الحَسَنَةُ وَلاَ السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ﴾ .

ومن أسباب البعد عن الوقوع في شراك الحساد البعد عن مواطن الريب، والكف عن إظهار المحاسن، سيما في هذه الأيام حيث الأفراح والأعراس، فتقوم بعض النساء هداها الله بإظهار زينتها أمام النساء، وتكشف شيئا من جسدها، مما يطمع من في قلبها مرض، وفي عينها خواء، فتصاب بالعين، فتتحول أفراحها عندئذ إلى أتراح، ومسراتها إلى جراح، فلتتق الله أخت في أخواتها، ولتلتزم بلباس الحشمة، ولتتزين بزينة الحياء.