من أسباب انشراح الصدور

بسم الله الرحمن الرحيم

من أسباب انشراح الصدور

الحمد لله العلي الأعلى، خلق فسوى، قدر فهدى، أضحك وأبكى، أمات وأحيا، أحمده سبحانه على نعم لا تحصى، ومنن تترى، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، الداعي إلى السبيل الأقوم، وعلى آله وصحبه وسلم... أما بعد:

عباد الله: لقد خلق الله الإنسان في هذه الحياة، وهيأ له من الأسباب والمسببات، ما يضمن له صلاح حياته القلبية والبدنية، والإنسان في هذه الدنيا، في مجاهدة مع أحوالها ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ﴾ مكابدة لنفسه، ومكابدة لنزغات الشيطان، ومكابدة لمصاعب الحياة ومشاقها، يفرح ويحزن، يضحك ويبكي، فالحياة لا تصفو لأحد.

طبعت على كدر وأنت تريدها *** صفوا من الأقذاء والأكدار

عباد الله: وإن من أكدار الحياة، حال تنتاب كثيرا من الناس، بل لو قيل: لا يسلم منها أحد، لم يكن ذلك بعيدا، والناس فيها بين مستقل ومستكثر، فإن ضيق الصدر، وما ينتاب المسلم من القلق والأرق، لا شك أنها تمر على كل واحد منا.

فترى الرجل إذا أصابته تلك الحال، كئيبا كسيرا، تتغير حاله، وتتنكر له نفسه، قد يعاف الطعام والشراب، بكاء وحزن، وحشة وذهول وشكوى، وقد يستسلم للشيطان بجميع أحاسيسه، حتى تصل به الحال إلى اليأس والقنوط، ويكاد يُقدم على خطوات تغير مجرى حياته، من طلاق وترك للوظيفة، وانتقال عن المنزل، وقد يصل الأمر إلى الانتحار والعياذ بالله، مما يدل على عظم تلبيس الشيطان عليه.

عباد الله: ولما كانت تلك الحال تعتري كثيرا من المسلمين، فتؤثر على عباداتهم وسلوكياتهم، ناسب أن يكون الكلام عن الأسباب، التي تعين على انشراح الصدر، وانتقاله من تلك الغشاوة التي أظلمت عليه، إلى حال يشعر فيها بالراحة النفسية، والطمأنينة القلبية، فإن انشراح الصدر نور يقذفه الله في قلب العبد، فيرى به الحقائق، ويفكر في العواقب، ويتحاشى الزلات جهده، ويقبل على الطاعات دهره. ﴿أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِّن رَّبِّهِ﴾.

وإن من أعظم الأسباب لشرح الصدر، وطرد الغم، بل هو أجل الأسباب وأكبرها: قوة التوحيد، وتفويض الأمر إلى الله تعالى رب العبيد، بأن يعتقد العبد اعتقادا جازما لا شك فيه ولا ريب، أن الله عز وجل، وحده هو الذي يجلب النفع، ويدفع الضر، وأنه تعالى لا راد لقضائه، ولا معقب لحكمه، عدل في قضائه، يعطي من يشاء بفضله، ويمنع ويبتلي من يشاء بعدله، ولا يظلم ربك أحدا، لا إله إلا هو يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد، فإنه متى كان العبد كذلك، أذهب الله غمه، وأبدله من بعد خوفه أمنا.

يقول العلامة ابن القيم: فمحبة الله تعالى ومعرفته، ودوام ذكره الطمأنينة إليه، وإفراده بالحب والخوف والرجاء، والتوكل والمعاملة، بحيث يكون هو وحده المستولي على هموم العبد، وعزماته وإرادته، هو جنة الدنيا، والنعيم الذي لا يشبهه نعيم أزهـ

فإن نور التوحيد – يا عباد الله -هو نور الإيمان الذي يشرح الصدر، ويفرح القلب، وإذا فُقِد هذا النور من قلب العبد، حَرُج صدره، وصار في أضيق سجن وأصعبه ﴿أَوَمَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ...

عباد الله: ومن الأسباب: حسن الظن بالله تعالى، وذلك بأن تستشعر أن الله تعالى فارج لهمك، كاشف لغمك، فإنه متى ما أحسن العبد ظنه بربه، والتجأ إليه، وطلب رضاه، فتح الله عليه من بركاته من حيث لا يحتسب.

فليتك تحلو والحياة مريرة *** وليتك ترضى والأنام غضاب

ومن الأسباب: كثرة الدعاء والإلحاح على الله، فيا من ضاق صدره، وتكدر أمره، ارفع أكف الضراعة إلى مولاك، وأظهر له شكواك، وبث حزنك إليه، واذرف الدمع بين يديه، واعلم أن الله تعالى أرحم بك من أمك وأبيك، وصاحبتك وبنيك، فإن الله حيي ستير، يستحي من عبده إذا رفع يديه، أن يردهما صفر. فارفع يديك واجتهد، فليس لك إلا هو ملجأ، وليس لك إلا هو مفزعا.

عباد الله: ومن الأسباب، تفقد النفس والمبادرة إلى ترك المعاصي: أتريد مخرجا لك مما أنت فيه! وأنت ترتع في بعض المعاصي، فيا عجبا لك ﴿أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ .

يقول العلامة ابن القيم: وما يجازى به المسيء من ضيق الصدر، وقسوة القلب... عقوبات عاجلة، ونار دنيوية، وجهنم حاضرة، والإقبال على الله تعالى والإنابة إليه، والرضى به وعنه... ثواب عاجل، وجنة وعيش، لا نسبة لعيش الملوك إليه البتة أزهـ فبادر يا عبد الله إلى تقوى الله، ولن ترى من ربك إلا ما يسرك بإذن الله، يقول ابن الجوزي: ضاق بي أمر أوجب غما لازما دائما، وأخذت أبالغ في الفكر في الخلاص من هذه الهموم، بكل حيلة وبكل وجه، فما رأيت طريقا للخلاص، فعرضت لي هذه الآية ﴿وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاًّ﴾ فعلمت أن التقوى سبب للمخرج من كل غم، فما كان إلا أن هممت بتحقيق التقوى، فوجدت المخرج أ.هـ

ومن الأسباب: المحافظة على أداء الفرائض، والمداومة عليها، والإكثار من النوافل: من صلاة وصيام، وصدقة وبر وغير ذلك؛ فإنها من أعظم أسباب محبة الله تعالى لعبده.

اللهم آنس وحشتنا، وأذهب روعتنا، وتول أمرنا.

الخطبة الثانية:

الحمد لله:

عباد الله: ومن الأسباب: الاجتماع بالجلساء الصالحين، والاستئناس بسماع حديثهم، والاستفادة من ثمرات كلامهم وتوجيهاتهم، واطلب مناصحتهم، وسترى في صدرك انشراحا وبهجة، ثم إياك والوحدة، احذر أن تكون وحيدا لا جليس لك ولا أنيس، وخاصة عند اشتداد الأمور عليك، فإن الشيطان يزيد العبد وهنا وضعفا، وإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية.

ومن الأسباب قراءة القرآن الكريم تدبرا وتأملا، وهذا من أعظم الأسباب في جلاء الأحزان، وذهاب الهموم والغموم، فقراءة القرآن تورث العبد طمأنينة في القلوب، وانشراحا في الصدور ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ القُلُوبُ﴾ ﴿يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ﴾ ﴿وَنُنَزِّلُ مِنَ القُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلاَّ خَسَاراً﴾ .

ومن الأسباب: المداومة على الأذكار الصباحية والمسائية، وأذكار النوم، وما يتبع ذلك من أذكار اليوم والليلة، فهي تحصن العبد المسلم بإذن الله تعالى من شر شياطين الجن والإنس، وتزيد العبد قوة حسية ومعنوية، إذا قالها مستشعرا لمعانيها، موقنا بثمارها ونتاجها.

فلتحرص يا رعاك الله، على تلك الأذكار، المتأكدة فيمن اعتراه هم أو غم، ومن ذلك ما خرجه الشيخان من حديث عبد الله بن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول عند الكرب: «لَا إِلَهَ إلا الله الْعَظِيمُ الْحَلِيمُ، لَا إِلَهَ إلا الله رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ، لَا إِلَهَ إلا الله رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَرَبُّ الأرض وَرَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ».

وعند (خ) عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكثر من قول: «اللهم إني أَعُوذُ بِكَ من الْهَمِّ وَالْحَزَنِ، وَالْعَجْزِ وَالْكَسَلِ، وَالْجُبْنِ وَالْبُخْلِ، وَضَلَعِ الدَّيْنِ وَغَلَبَةِ الرِّجَالِ».

وعند (حم) في مسنده عن عبد الله بن مسعود قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم : «ما أَصَابَ أَحَداً قَطُّ هَمٌّ وَلاَ حَزَنٌ فقال: اللهم إني عَبْدُكَ بن عبدك بن أَمَتِكَ، ناصيتي بِيَدِكَ، مَاضٍ في حُكْمُكَ، عَدْلٌ في قَضَاؤُكَ، أَسْأَلُكَ بِكُلِّ اسْمٍ هو لك، سَمَّيْتَ بِهِ نَفْسَكَ، أو عَلَّمْتَهُ أَحَداً من خَلْقِكَ، أو أَنْزَلْتَهُ في كِتَابِكَ، أَوِ اسْتَأْثَرْتَ بِهِ في عِلْمِ الْغَيْبِ عِنْدَكَ، أَنْ تَجْعَلَ الْقُرْآنَ رَبِيعَ قلبي، وَنُورَ صدري، وَجَلاَءَ حزني، وَذَهَابَ همي، إِلاَّ أَذْهَبَ الله هَمَّهُ وَحُزْنَهُ، وَأَبْدَلَهُ مَكَانَهُ فَرَجاً. قال: فَقِيلَ يا رَسُولَ اللَّهِ، أَلاَ نَتَعَلَّمُهَا؟ فقال: بَلَى، ينبغي لِمَنْ سَمِعَهَا أَنْ يَتَعَلَّمَهَا».

فاللهم يا حي يا قيوم، يا ذا الجلال والإكرام، اللهم إنا عبيدك بنو عبيدك بنو إمائك نواصينا بيدك ماض فينا حكمك عدل فينا قضاؤك نسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابه أو علمته أحدا من خلقك أو استأثرت به في علم الغيب عندك أن تجعل القرآن ربيع قلوبنا ونور صدورنا وجلاء أحزاننا وذهاب غمومنا اللهم اشرح صدورنا، ويسر أمورنا، وهيء لنا من أمرنا رشدا.