البيعة والخروج

بسم الله الرحمن الرحيم

البيعة والخروج

فإن الله عز وجل قد امتن على عباده، بمنن عظيمة، وآلاء جسيمة، وأعظم نعم الله عز وجل على المسلمين، أن هداهم لدين الإسلام، وبعث فيهم نبيه محمدا عليه الصلاة والسلام يقول الله عز وجل ﴿لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى المُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ﴾ .

وانعم الله علينا بان أخرجنا من ضلال الجاهلية وظلامها، إلى نور الإسلام وعدله، فان الجاهلية كانوا يعيشون في ضلالات، فجاء الإسلام بكشفها وبيانها، فمن أمور الجاهلية التي نبه عليها الإمام محمد بن عبدالوهاب رحمه الله في مسائل الجاهلية قال: إنهم متفرقون في دينهم كما قال الله تعالى ﴿كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ﴾ وكذلك في دنياهم، ويرون ذلك هو الصواب، فأتى بالاجتماع في الدين بقوله ﴿شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُوا فِيهِ﴾ ونهانا عن مشابهتهم بقوله ﴿وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ البَيِّنَاتُ﴾ ونهانا عن التفرق في الدين ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُوا﴾ .

ومن أمور الجاهلية: زعمهم بأن مخالفة ولي الأمر وعدم الانقياد له فضيلة، والسمع والطاعة ذل ومهانة، فخالفهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأمر بالصبر على جور الولاة، والسمع والطاعة لهم والنصيحة، وغلظ في ذلك وأبدى وأعاد.

ومن المعلوم في دين الإسلام أن طاعة الإمام في غير معصية؛ واجب على أهل الإسلام يقول الله تعالى ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ﴾ والأحاديث الدالة على ذلك كثيرة منها ما أخرجه الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم انه قال: «إنما الإمام جنة يقاتل من ورائه، ويتقى به، فإن أمر بتقوى الله عز وجل وعدل، كان له بذلك أجر، وان يأمر بغيره كان عليه منه» .

وعلى هذا جرى إجماع الصحابة رضي الله عنهم ومن بعدهم من سائر المسلمين.

عباد الله: إمامة المسلمين تنعقد بأمور، منها أن يبايع أهل الحل والعقد الإمام، فإذا بايعوه، صحت إمامته، ووجبت على سائر المسلمين طاعته، ولزمتهم بيعته. في البخاري لما طُعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه : فَقَالُوا أَوْصِ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ اسْتَخْلِفْ، قَالَ مَا أَجِدُ أَحَدًا أَحَقَّ بِهَذَا الأمْرِ مِنْ هَؤُلاءِ النَّفَرِ، أَوْ الرَّهْطِ الَّذِينَ تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ عَنْهُمْ رَاضٍ، فَسَمَّى عَلِيًّا وَعُثْمَانَ، وَالزُّبَيْرَ وَطَلْحَةَ، وَسَعْدًا وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ، وَقَالَ يَشْهَدُكُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، وَلَيْسَ لَهُ مِنْ الأمْرِ شَيْءٌ، كَهَيْئَةِ التَّعْزِيَةِ لَهُ، فَإِنْ أَصَابَتْ الإمْرَةُ سَعْدًا فَهُوَ ذَاكَ، وَإِلا فَلْيَسْتَعِنْ بِهِ أَيُّكُمْ مَا أُمِّرَ ، فَإِنِّي لَمْ أَعْزِلْهُ عَنْ عَجْزٍ وَلا خِيَانَةٍ.

فَلَمَّا فُرِغَ مِنْ دَفْنِهِ، اجْتَمَعَ هَؤُلاءِ الرَّهْط، فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ، اجْعَلُوا أَمْرَكُمْ إِلَى ثَلاثَةٍ مِنْكُمْ، فَقَالَ الزُّبَيْرُ قَدْ جَعَلْتُ أَمْرِي إِلَى عَلِيٍّ، فَقَالَ طَلْحَةُ قَدْ جَعَلْتُ أَمْرِي إِلَى عُثْمَانَ، وَقَالَ سَعْدٌ قَدْ جَعَلْتُ أَمْرِي إِلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ أَيُّكُمَا تَبَرَّأَ مِنْ هَذَا الأمْرِ فَنَجْعَلُهُ إِلَيْهِ، وَاللَّهُ عَلَيْهِ وَالإسلام، لَيَنْظُرَنَّ أَفْضَلَهُمْ فِي نَفْسِهِ، فَأُسْكِتَ الشَّيْخَانِ، فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ أَفَتَجْعَلُونَهُ إِلَيَّ، وَاللَّهُ عَلَيَّ أَنْ لا آلُ عَنْ أَفْضَلِكُمْ، قَالا نَعَمْ، فَأَخَذَ بِيَدِ أَحَدِهِمَا، فَقَالَ لَكَ قَرَابَةٌ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَالْقَدَمُ فِي الإسلامِ مَا قَدْ عَلِمْتَ، فَاللَّهُ عَلَيْكَ، لَئِنْ أَمَّرْتُكَ لَتَعْدِلَنَّ، وَلَئِنْ أَمَّرْتُ عُثْمَانَ لَتَسْمَعَنَّ وَلَتُطِيعَنَّ، ثُمَّ خَلا بِالآخَرِ فَقَالَ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ فَلَمَّا أَخَذَ الْمِيثَاقَ قَالَ ارْفَعْ يَدَكَ يَا عُثْمَانُ، فَبَايَعَهُ فَبَايَعَ لَهُ عَلِيٌّ وَوَلَجَ أَهْلُ الدَّارِ فَبَايَعُوهُ.

وفي حديث انس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم انه قال: «اسمعوا وأطيعوا وان استعمل حبشي كان رأسه زبيبة» أخرجه البخاري ومسلم.

يقول ابن رجب رحمه الله، وأما السمع والطاعة لولاة أمر المسلمين، ففيها سعادة الدنيا، وبها تنتظم مصالح العباد في معايشهم، وبها يستعينون على إظهار دينهم، وطاعة ربهم، كما قال علي رضي الله عنه "إن الناس لا يصلحهم إلا إمام، بر أو فاجر، إن كان فاجرا، عبد المؤمن فيه ربه، وحُمل الفاجر فيها إلى أجله".

وقال الحسن في الأمراء: هم يلون من أمورنا خمسا، الجمعة والجماعة والعيد والثغور والحدود، والله ما يستقيم الدين إلا بهم، وان جاروا وظلموا، والله لما يصلح الله بهم، أكثر مما يفسدون، والله إن طاعتهم لغيظ، وإن فرقتهم لكفر..

الخطبة الثانية

أيها المسلمون : ألا وإن من الكبائر العظيمة، والمصائب الجسيمة، نقض البيعة، ومبايعة آخر، مع وجود الإمام، وانعقاد البيعة له، وهذا خروج عن جماعة المسلمين، وهو محرم ومن كبائر الذنوب، ففي مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من خرج من الطاعة، وفارق الجماعة، فمات مات ميتة جاهلية»، وفي البخاري ومسلم من حديث ابن عباس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال «من كره من أميره شيئا فليصبر، فإنه من خرج من السلطان شبراً مات ميتة جاهلية» ، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم «من أتاكم وأمركم جميع على رجل واحد يريد أن يشق عصاكم أو يفرق جماعتكم فاقتلوه كائنا من كان» أخرجه مسلم.

قال سُويد بن غَفَلة : قال لي عمر : يا أبا أمية ! إني لا أدري لعلي أن لا ألقاك بعد عامي هذا ، فاسمع وأطع، وإن أمر عليك عبد حبشي مجدع ، إن ضربك فاصبر ، وإن حرمك فاصبر ، وإن أراد أمرا ينتقص دينك فقل : سمع وطاعة ، ودمي دون ديني ، فلا تفارق الجماعة.

وعلى هذا سار السلف رضي الله عنهم كلهم يوجب السمع والطاعة لإمام المسلمين ويحرم الخروج عن جماعتهم.

ولقد ابتلينا في هذه الأزمنة المتأخرة، بجماعات إفسادية، ارتكبت أمورا عظيمة، هي من كبائر الذنوب، ومن ضلالات المبتدعة، التي شابهوا فيها فعل الخوارج الأوائل الذين خرجوا في عهد الصحابة رضي الله عنهم فقاتلهم الصحابة رضي الله عنهم، وأمروا بقتالهم امتثالا لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال «يخرج قوم في آخر الزمان، أحداث الأسنان، سفهاء الأحلام، يقولون من خير قول البرية، لا يجاوز إيمانهم حناجرهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، فأينما لقيتموهم فاقتلوهم، فإن في قتلهم أجرا لمن قتلهم يوم القيامة» (خ،م)

قال الآجرى رحمه الله: والخوارج هم الشرار الأنجاس الأرجاس، ومن كان على مذهبهم من سائر الخوارج، يتوارثون هذا المذهب قديما وحديثا، ويخرجون على الأئمة والأمراء، ويستحلون قتل المسلمين . انتهى كلامه رحمه الله .

فاتقوا الله عباد الله ولا تتخطفنكم الشياطين، ولا يستخفنكم الذين لا يوقنون،ولا تروج عليكم الشبهات، ولا تغرنكم الأباطيل، فسبيل المؤمنين واضح،ومنهجهم سوي. والزموا جماعة المسلمين وإمامهم، ففي ذلك النجاة والخلاص، والرفعة والفلاح، وغيظ الأعداء، وكبت الدخلاء.