البيت السعيد

بسم الله الرحمن الرحيم

البيت السعيد

فإنَّ الله تعالى بلطيفِ حكمتِه، وعجائبِ قدرتِه، خلق الإنسانَ مجبولاً على السّكَن والاستقرار، وطبَعَه على الحاجة لذلك والاضطرار، ويسَّر له برحمتِه وفضلِه زوجًا من نفسِه ليسكنَ إليها ويرتبطَ بها؛ إذِ الإنسان لجنسِه أميَل، وعليه أقبل ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ .

عباد الله: البيتُ نعمةٌ لا يَعرِف قِيمتَه وفضلَه إلاَّ مَن فَقَدَه، فعاشَ في ملجَأ مُوحش، أو ظلُماتِ سجن، أو تائه في شارع أو فلاة، قال تعالى ﴿وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُم مِّنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً﴾ .

البيتُ المسلم أمانةٌ يحمِلها الزوجان، وهما أساسُ بنيانه ودِعامة أركانه، وبهما يُحدِّد البَيتُ مسَارَه، فإذا استَقاما على منهجِ الله قولاً وعملاً، وتزيَّنا بتقوَى الله ظاهرًا وباطنًا، وتجمَّلا بحسنِ الخلق والسيرةِ الطيبة، غدَا البيتُ مأوى النورِ وإشعاعَ الفضيلة.

إنَّ البيت المسلم الذي أقامَه الرَّعيل الأوّلُ جعل منهجَه الإسلام قولاً وعملا، صبَغ حياتَه بنور الإيمان، ونهَل من أخلاقِ القرآن، فتخرَّج من أكنافه نماذجُ إسلاميّةٌ فريدة، خرّج البيت المسلِمُ آنذاك للحياة، الأبطالَ الشّجعان، والعلماءَ الأفذاذ، والعبَّادَ الزهاد، والقادَةَ المخلصين، والأولاد البررة، والنساءَ العابدات.

حياةُ البيتِ المسلم وسَعادَتُه وأُنسه ، في ذكر الله، فعَن أبي موسى رضي الله عنه قال: قالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم «مَثَل البيتِ الذي يُذكَر الله فيه والبيتِ الذي لا يُذكر الله فيه مثلُ الحيِّ والميِّت» أخرجه مسلم.

مِن سماتِ البيتِ المسلم، تعاونُ أفراده على العبادة، فضَعْفُ إيمانِ الزوجة يقوِّيه الزوجُ، واعوجاج هذا يقومه ذاك، تكاملٌ وتعاضُد ونصيحة وتناصر، قالت عائشة رضي الله عنها: كانَ رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلِّي من اللّيل، فإذا أوتَرَ قال: «قُومي فأَوتِري يا عائِشة» أخرجه مسلم.

من سمات البيتِ المسلم الحياء، وبه يُحصِّن البيتُ كيانَه من سِهام الفتك ووسائل الشرّ التي تدَع الديار بلاقِع. لا يليقُ ببيتٍ أُسِّس علَى التَّقوى أن يُهتَك سِتره ويُلفظَ حَياؤه ويُلوَّث هواؤه بما يخدش الحياءَ.

لا يدخُلُ البيتَ المسلم من لاَ يُرضَى دينُه، فدخول المفسِدِ فسَاد، وولوجُ المشبُوه خطرٌ على فلَذَات الأكباد، فبالقنوات الهابطة، فسدَت الأخلاق في البيوت، وفشَا السِّحر، وحَدَثت السرقات، وانقلبت الأفراح أتراحًا.

عباد الله: الرّابطة الزوجيّة رابطةٌ عظمى، صدرت عَن رغبةٍ واختِيار، وانعقدَت عن خِبرة وسؤال وإيثار، عقدُها مأمورٌ بِه شرعًا، مستحسَن وضعًا وطبعًا، والأسرةُ هي اللبِنة الأولى لبناء المجتمعات، وبصلاحِها تصلح الأوضاع، وبفسادِها تفسد الأخلاقُ والطّباع، ركناها وقائداها زوجٌ وزوجَة، يجمَع بينهما ولاءٌ ووفاء، ومودّة وصفاء، وتعاطف وتلاطف، ووفاق واتّفاق، وآدابٌ وحُسن أخلاق، تحت سقفٍ واحد، في عِيشة هنيّة، ومعاشرة مرضيّة. وفي كتاب الله وسنّة رسوله صلى الله عليه وسلم من الإصلاح التامّ، والعدل العامّ، ما يؤيِّد قواعدَ هذه الرابطة فلا تنثلِم، ويؤكّد عقائدَها فلا تنخَرِم.

عباد الله: إنَّ سببَ كثرةِ المشكلات، وتفاقُم الخلافات، وظهور المنازَعات، وشُيوع الطلاق والفِراق، إنّما هو التقصير في معرفة الأحكام الشرعية، وآداب الحياة الزوجيّة، وما تقتضِيه المسؤوليّة الأسريّة؛ إذ كيف تكون الأسرَة في هناءٍ وصفاء، والزّوج ذو بذاءٍ وجفاء، إذا غضِب نفخ ونَفَث، واكفهرّ وازمجرّ، فيه حبّ الذّات، خيرُه مُقفَل، وشرُه مرسل، كفٌّ يابِس، ووجه عابس، ومعاملة فاسدة، وأقوالٌ سافلة، تُورِث كَلْمًا لا يندمِل، وصدعًا لا ينشعِب، وتترك المرأةَ حسيرةً كسيرة، حائرةً بين مُرَّين: طلبِ تطليقها أو الصبرِ على تعليقِها. وإنّ مَن الأزواج مَن إذا أبغضَ المرأةَ كدَّها وهَدَّها، وكهَرَها وظلمَها، وأكلَ مالَها ومنعَها حقَّها، وقطع نفقتَها، وتركها أسيرةَ الأحزان.

أيّها المسلمون: وكيف يكون للأسرةِ هناءٌ وصفاء، والزّوجة ولاّجة خرّاجة، ثرثارةٌ مِهذارة، طعَّانة لعّانة، لا تُجيب إلى إنصاف، ولا ترضَى بعَيش كفاف، تئنُّ عند طلبِها تمارضًا، ولا ترضى لأمرِها مُعارضًا، مقصِّرة مفرِّطة، ومسرفة مفرِطة، كثيرة النّوم واللّوم، لا كحلٌ ولا حنّاء، شَوهاء فَوهاء، تبطِل الحقَّ بالبكاء، تنسى الفضلَ وتُنكر الجميل، وتُكثِر على ذلك التّعليل والتّدليل، يقول النبي صلى الله عليه وسلم «اطَّلعتُ في النار فإذا أكثر أهلها النساء»، فقيل: لِم يا رسول الله؟ قال: «يكفُرن العشير ـ يعني: الزوج ـ ويكفُرن الإحسان، لو أحسنتَ إلى إحداهن الدّهرَ ثمّ رأت مِنك شيئًا قالت: ما رأيتُ منك خيرًا قطّ» (خ)

أيّها الزّوجان : اتَّقيا الله في حياتِكما الزوجيّة، بُلاَّها بالحقوق، ولا تدمِّراها بالعُقوق، وليقُم كلّ واحدٍ منكما بما أوجبَ الله عليه، واخضعا لنصوص النّقل، ومَنْطِق العقل، قبل أن يستبدَّ بكما الشّقاق، ويحصلَ الطلاق والفراق، ويأكلَ أحدكما مِن النّدم كفَّيه، ويعضَّ على يديه، ويقُدَّ شعرَه ويمضغَ شفتَيه، واحتكِما لقول المولى جلّ وعلا ﴿وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾ .

الخطبة الثانية:

أيّها المسلمون: إنَّ من رام شريكًا للحياة، بريئًا من الهفوات، سليمًا من الزّلاّت، فقد رام أمرًا مُعوِزًا، وطلب وصفًا معجِزًا، يقول النبيّ صلى الله عليه وسلم كما عند مسلم «لا يفرك مؤمنٌ مؤمنةً، إن كرِه منها خُلقًا رضيَ منها آخر» ويقول صلى الله عليه وسلم «أيّما امرأةٍ سألت زوجَها الطلاق من غير بأسٍ فحرامٌ عليها رائحة الجنة» أخرجه أحمد.

أيّتها المسلمة: كوني لبعلك أرضًا يكن لكِ سماء، وكوني له مِهادًا يكُن لك عمادًا، وكوني له أمَة يكن لك عَبدًا، تعهَّدي وقتَ طعامِه، والزَمي الهدوءَ عند منامِه، اصحبيه بالقناعة، وعاشريه بحُسن السّمع والطّاعة، ولا تُفشي له سرًّا، ولا تعصي له أمرًا، واحذري أنواعَ التقصير، واجتنبي أسبابَ التّكدير، ولا تصومي صيامَ تطوّعٍ وزوجُك شاهد إلاّ بإذنه، ولا تأذني في بيتِه لمن يكرَه إلا بإذنِه، واعلمي أنّك أشدّ ما تكونين له إعظامًا أشدّ ما يكون لك إكرامًا، وإذا دعاك لحاجتِه فحقِّقي رغبتَه وأجيبي دعوتَه،وليكُن ذلك وفقَ القيود الشرعيّة والآداب المرعيّة، يقول رسول الهدى صلى الله عليه وسلم «إذا دعا الرجل امرأتَه إلى فراشه فأبت أن تجيبَ فبات غضبانَ عليها لعنتها الملائكة حتّى تصبح» متفق عليه ، قومي بخدمتِه بنفسٍ راضية؛ فإنّ في خدمته تقويةَ مودَّة، وإرساءَ محبّة، يقول علي بن أبي طالب رضي الله عنه في وصفِ ما قامت به زوجه فاطمة بنتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي عنها: إنّها جرّت بالرّحى حتى أثّرت بيدها، واستقت بالقربة حتّى أثّرت في نحرها، وقمّت البيتَ حتّى اغبرّت ثيابها، وأوقدت القِدر حتّى دكِنت ثيابُها. أخرجه أبو داود.

وحسبُ المرأةِ طوبَى وبشرَى قولُه صلى الله عليه وسلم «أيّما امرأةٍ ماتت وزوجُها راضٍ عنها دخلت الجنّة» أخرجه الترمذي، وقوله صلى الله عليه وسلم «إذا صلّت المرأة خمسَها وصامت شهرَها وحفظت فرجَها وأطاعت زوجَها قيل لها: ادخلي الجنةَ من أيّ أبواب الجنّة شئتِ» أخرجه ابن حبان.

أيّها الزوج الكريم: اتّق الله في زوجك، لا تكلِّفها ما لا تطيق، وأعِنها عند الضِّيق، وأشفِق عليها إذا تعِبت، ودارِها إذا مرِضت، وأجزِل لها الشّكر، وتلقّاها ببرٍّ وبِشر، واعلَم أنَّ قوامتَك لا تعني القهرَ والغلبةَ، والاستبداد والاحتقار، ولا يكن جلَّ همِّك مراقبة أخطائها، وإحصاءُ زلاّتها، ولا تبالِغ في إساءة ظنٍّ بلا ريبَة، ولا تتغاضَ عمَّا يُخلُّ بالدّين والمروءة، واحذَر شكًّا قاتِلاً وظنًّا مدمِّرًا،إيّاك والمعاتبةَ الكثيرة، فإنّها تورث الضّغينة، يقول النبي صلى الله عليه وسلم «كفى بالمرء إثمًا أن يضيِّع من يقوت» أخرجه أبو داود.

كُن جوادًا كريمًا، فمَن جاد ساد، ومن أضعَف ازدَاد، ولا خيرَ في السّرف، ولا سَرَف في الخير، وعاشروهن بالمعروف، أطعموهنّ واكسوهنّ ﴿أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم مِّن وُجْدِكُمْ وَلاَ تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ﴾ يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم «اتَّقوا اللهَ في النّساء، فإنّكم أخذتموهنّ بأمانةِ الله، واستحللتم فروجهنَّ بكلمةِ الله، ولهنّ عليكم رزقهنّ وكسوَتهنّ بالمعروف» (م)