وجوب الشكر

بسم الله الرحمن الرحيم

وجوب الشكر

اتقوا الله الذي لا مانع لما أعطى، ولا معطي لما منع، ولا رافع لما خفض، ولا خافض لما رفع، العطايا من فضله ترتقب، وهو المرجوُّ لكشف الكرب، بدأنا بالنعم قبل الاستحقاق، ومنحنا ما لا يُحصى من أنواع الأرزاق ﴿وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ .

كيف يحصر نعمه حاصر، ونعمه مع صعدات الأنفاس وهجس الخواطر، وحركات الألسن ولمحات النواظر، أطعمنا وسقانا، وكفانا وآوانا، ومن كل نعمه ومننه أعطانا، ساق إلينا الأرزاق ونحن أجنة في بطون الأمهات، وأخرجنا من تلك المضائق والظلمات ﴿وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ .

أيّها المسلمون: دَيدنُ المؤمن الحقّ وسِمَته التي يمتاز بها ونهجُه الذي لا يحيدُ عنه شكرٌ على النّعماء وصَبر على الضراء، فلا بَطَرَ مع النعَم، ولا ضَجر مع البلاء، ولِمَ لا يكون كذلك وهو يتلو كتابَ ربه الأعلى وفيه قوله سبحانه: ﴿وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ﴾ ، وفيه قولُه عزّ اسمه: ﴿إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ .

وبيَّن رسول الله صلى الله عليه وسلم جميلَ حال المؤمن في مقامِ الشكر والصبر وكريمَ مآله، فقال: «عجبًا لأمرِ المؤمن، إنّ أمره كلَّه خير، وليس ذلك لأحدٍ إلاّ للمؤمن، إن أصابَته سرّاء فشكر فكان خيرًا له، وإن أصابته ضرّاء صبر فكان خيرًا له» (م). فالعَبد ما دام في دائرة التكليف فمِناهج الخير مُشرَعَةٌ بَين يديه، فإنّه متقلّبٌ بين نِعمةٍ وَجب شُكرُها، ومُصيبة وجَب الصبر عليها.

عباد الله: الشكر لله على نعمائه خلق عظيم، ومقام كريم، يصدر عن النفوس المؤمنة، التي تشبعت بحب الله، وعن القلوب الطاهرة، التي ملئت بالإيمان واليقين، وأثر الشكر يكون ظاهراً في اللسان بالثناء، وعلى الجوارح بالبذل والعطاء، وعلى النفس بالطاعة والانقياد لله.

وحقيقة الشكر أن تكون حركات العبد المؤمن وسكناته، وخواطره ومشاعره ، ناطقة بالحمد والثناء على ما أولاه الله من المنن والآلاء، والشكر لله سبحانه خلق الأنبياء والمرسلين وسمة عباده الأبرار المقربين، وبالشكر تدوم النعم وتزاد، وبضده تزول النعم وتباد.

أيها المسلمون : هو سبحانه أهل الثناء والمجد، له الخلق والأمر، وله الملك والحمد، وله الدنيا والآخرة، وله النعمة والفضل، وله الثناء الحسن، له الملك كله، وله الحمد كله، وبيده الخير كله، شملت قدرته كل شيء، ووسعت رحمته كل شيء، كل يوم هو في شأن، يرفع أقواماً ويخفض آخرين، لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه، قال صلى الله عليه وسلم «أطت السماء وحق لها أن تئط، ما فيها موضع أربع أصابع إلا عليه ملك ساجد». لو أن أهل سماواته وأهل أرضه، وأول خلقه وأخرهم، وإنسهم وجنهم ، كانوا على أتقى قلب رجل منهم، ما زاد ذلك في ملكه شيئاً، ولو أن خلقه أولهم وآخرهم، وإنسهم وجنهم، كانوا على أفجر قلب رجل منهم ما نقص ذلك من ملكه شيئاً.

لو أن أشجار الأرض كلها أقلام، والبحر وراءه سبعة أبحر تمده من بعده مداد، فكتب بتلك الأقلام، وذلك المداد لفنيت الأقلام ونفد المداد ولم تنفد كلمات الخالق تبارك وتعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ .

هو الأول الذي ليس قبله شيء، والآخر الذي ليس بعده شيء، والظاهر الذي ليس فوقه شيء، والباطن الذي ليس دونه شيء، كل شيء هالك إلا وجهه، وكل ملك زائل إلا ملكه، لن يطاع إلا بإذنه ورحمته، ولن يعصى إلا بعلمه وحكمته، يطاع فيشكر، ويعصى فيغفر، أقرب شهيد، وأدنى حفيظ، حال دون النفوس، وأخذ بالنواصي، وسجل الآثار، وكتب الآجال فالقلوب له مفضية، والسر عنده علانية ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ﴾ .

أحق من ذكر، وأحق من عبد، وأحق من حمد، وأنصر من ابتغي، وأرأف من ملك، وأجود من سئل، وأكرم من قصد، أكبر من كل شيء، وأعظم من كل شيء، وأعز من كل شيء سبحانه وبحمده.

عن سمرة بن جندب رضي الله عنه قال: قال رسول صلى الله عليه وسلم : «أحب الكلام إلى الله أربع: سبحان الله، والحمد الله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، لا يضرك بأيهن بدأت ....» (رواه مسلم).

وفي صحيح مسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم «إن الله ليرضى عن العبد أن يأكل الأكلة فيحمده عليها أو يشرب الشربة فيحمده عليها» .

فاللهم إنا نحمدك حمدا يليق بجلال وجهك، وعظيم سلطانك، على ما وهبتنا من النعم ودفعت عنا من النقم.........................

الخطبة الثانية

روى البخاري في صحيحه عن رفاعة بن رافع رضي الله عنه قال: كنا يوماً نصلي وراء النبي صلى الله عليه وسلم : فلما رفع رأسه من الركعة قال: «سمع الله لمن حمده» قال رجل: ربنا ولك الحمد حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، فلما انصرف قال: صلى الله عليه وسلم «من المتكلم» قال: أنا، قال: «رأيت بضعة وثلاثين ملكاً يبتدرونها أيهم يكتبها أول».

وعن أنس رضي الله عنه قال: كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم جالساً، ورجل قائم يصلي، فلما ركع وسجد وتشهد دعا فقال في دعائه: اللهم إني أسألك بأن لك الحمد لا إله إلا أنت المنان بديع السماوات والأرض يا ذا الجلال والإكرام، يا حي يا قيوم إني أسألك ..فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه: تدرون بم دعا؟ قالوا: الله ورسوله أعلم: قال: «والذي نفسي بيده لقد دعا الله باسمه الأعظم الذي إذا دعي به أجاب وإذا سئل به أعطى».

وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لقيت إبراهيم ليلة أسري بي فقال: يا محمد أقرئ أمتك مني السلام: وأخبرهم أن الجنة طيبة التربة عذبة الماء وأنها قيعان وأن غراسها: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر».

عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رأى ما يحب قال: «الحمد الله الذي بنعمته تتم الصالحات، وإذا رأى ما يكره قال: الحمد الله على كل حال».

وكان الحسن البصري رحمه الله إذا ابتدأ كلامه يقول: الحمد الله اللهم ربنا لك الحمد بما خلقتنا ورزقتنا وهديتنا وعلمتنا وأنقذتنا وفرجت عنا، لك الحمد بالإسلام والقرآن ولك الحمد بالأهل والمال والمعافاة، كبتّ عدونا وبسطت رزقنا وأظهرت أمننا وجمعت فرقتنا وأحسنت معافاتنا، ومن كل ماسألناك ربنا أعطيتنا، فلك الحمد على ذلك حمداً كثيراً ولك الحمد بكل نعمة أنعمت بها علينا في قديم أو حديث أو سر أو علانية أو خاصة أو عامة أو حي أو ميت، أو شاهد أو غائب، لك الحمد حتى ترضى ولك الحمد إذا رضيت.

عباد الله : الحمد من أعلى مقامات الإيمان، يوجب محبة الله عز وجل ونصرته، وفي كثرة الحمد جلب النعم المفقودة، والمحافظة على الموجودة، وفيه غفران الذنوب وستر العيوب، وفي كثرة الحمد انشغال بذكر الله عز وجل عن الغيبة والنميمة وعن كل ما يسخط الله عز وجل، وفيه قوة البدن وعافيته، وكثرة الحمد تجعل العبد مطمئناً لقضاء الله .

فأكثروا من حمد الله وذكره لاسيما في هذه الأيام ، فهي أيام أكل وشرب وذكر لله تعالى.