أصول التربية الصالحة

بسم الله الرحمن الرحيم

أصول التربية الصالحة

الحمد لله الذي من على عباده بالأموال والأولاد، وابتلاهم بذلك ليتبين من يشكره على هبته إياهم، فيأمرهم بطاعة الله، ويصونهم من الفساد، ممن يهملهم ويفرط فيهم، ويشقى بهم في الدنيا ويخسرهم يوم التناد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له العفو الغفور ﴿لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَن يَشَاءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَن يَشَاءُ الذُّكُورَ (49) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً وَيَجْعَلُ مَن يَشَاءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِير﴾ وأشهد أن محمدا عبده ورسوله المبعوث رحمة للعباد، الذي دعا في كل أمر إلى الهدى والرشاد، وحذر من كل قول أو عمل أو اعتقاد يفضي إلى الفساد، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان في القول والفعل والحال، وسلم تسليما ... أما بعد:

عباد الله: اتقوا الله تعالى في كل حال، واشكروه على ما آتاكم من الإنعام والأفضال، واشكروه سبحانه على أن وهبكم أزواجا وأولاداً، وأمركم أن تجاهدوهم في الله جهادا، فإنكم رعاة فيهم ومسئولون عنهم، فجاهدوهم على ما يصلحهم في الدنيا ويوم الدين، ويجعلهم لكم قرة عين، تكونوا لله شاكرين، ولأنفسكم ناصحين، وبثمرات جهادكم متمتعين في الدارين، لعل الله تعالى أن يجعلكم ممن قال فيهم ﴿جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَن صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَابٍ (23) سَلامٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ﴾ .

عباد الله: إن الله تعالى قد أوجب عليكم وقاية أنفسكم وأهليكم من النار، وذلك بتقواه سبحانه في سائر الأحوال، والقيام بحسن الرعاية والتأديب بأحسن الأقوال والأعمال والأحوال. فقال سبحانه ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ لاَّ يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ﴾ ، فامتثلوا ما أمركم به الله، ونصحكم في حق أنفسكم وأهليكم، ولا تسوفوا فتفرطوا، فيفاجئكم الموت على حين غرة وأنتم على غير استعداد، فتكونوا عرضة لجهنم فإنها بئس المهاد، بل اجعلوا لكم دونها وقاية من تقوى الله، بامتثال أمره واجتناب نهيه، فإنها نعم الوقاية وخير الزاد.

عباد الله: قوا أنفسكم وأهليكم النار، بفتح أبواب الخير لهم، وتوجيههم إليها، وتشجيعهم عليها، وأن تكونوا قدوة صالحة لهم فيها، بينوا لهم الحق ومنافعه، ومروهم به، وكونوا لهم أئمة في السبق إليه والمداومة عليه، وحذروهم من الباطل وبينوا لهم سوء عواقبه ومضاره، وشؤمه على أهله وأخطاره، ولا تقترفوه أنتم أو تتسامحوا فيه بأي عبارة أو إشارة.

لقنوا أولادكم وأهليكم أصول الإيمان، المذكورة في القرآن، وما جاء عن نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم من بيان، فعلموهم الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وبالقدر خيره وشره، قولا باللسان، واعتقادا بالجنان، وعملا بالجوارح والأركان، وألزموهم أركان الإسلام، مروهم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشر، علموهم كيف يتطهرون وكيف يصلون، وماذا يقولون، وماذا يفعلون، وهكذا في سائر أمور الدين في كل مناسبة وحين، بينوا لهم ماذا يفعلون، وماذا يجتنبون، وكيف يتركون.

عباد الله: اغرسوا في قلوب أبنائكم وأهليكم محبة الله وتعظيمه، وبينوا لهم نعمه على الجميع الظاهرة والباطنة، العامة والخاصة، وعظيم ألطافه عند الشدائد، وأنواع جوده وآلائه؛ لترسخ في قلوبهم محبة الله والإيمان به، فإن ذكر النعم يحبب المنعم إلى القلوب.

حدثوا أبناءكم وأهليكم بسيرة النبي الكريم صلى الله عليه وسلم ، وما كان عليه من الخلق العظيم، وما جاء به من الدين القويم، وما حصل على يديه لأمته من الخير العميم، والتخصيص بمزيد التكريم من الرب الكريم، بينوا لهم أنه صلى الله عليه وسلم هو الرسول المطاع، والإمام الواجب الإتباع، وأنه يجب تقديم محبته وأمره على جميع المخلوقين، فلا يؤمن أحد حتى يكون صلى الله عليه وسلم أحب إليه من نفسه ووالده وولده والناس أجمعين، ولا يؤمن أحد حتى يكون هواه تبعاً لما جاء به، ومن عمل عملا ليس عليه أمره فهو رد.

اذكروا لأبنائكم وأهليكم سيرة أصحاب صلى الله عليه وسلم ، وما كانوا عليه رضي الله عنهم من صدق الإيمان بالله تعالى، وكمال الإتباع لرسوله المصطفى صلى الله عليه وسلم ، وما كانوا عليه من الأخلاق الكريمة، وما قاموا به من الأعمال العظيمة من العبادة والجهاد، وبذل المال طلبا لمرضاة رب العباد، حتى أظهر الله بهم الإسلام، وحقق بهم الإيمان، وكسر بهم الأوثان والأصنام، فقد جاهدوا رضي الله عنهم المشركين كافة، حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله، فهم حقا العظماء النبلاء، الذين فازوا بقصب السبق في أعمال الدنيا والآخرة، وحسبهم شهادة الله لهم ﴿مُحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وَجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً﴾ .

عباد الله: علموا أولادكم الصدق في الأقوال والأعمال، فإذا حدثتموهم فاصدقوا، وإذا وعدتموهم فأوفوا، ولا تقروهم على كذب أو خلف، ورغبوهم في أداء الأمانة، وازجروهم عن الخيانة، وعودوهم الإحسان إلى الخلق، وفعل المروءة، وحذروهم من الاعتداء والظلم، وأصِّلوا في قلوبهم محبة المؤمنين، ومحبة الصلح بين المخاصمين، والنجدة إلى إغاثة الملهوفين، ونصرة المظلومين، وأن الواجب على المسلمين أن يكونوا متحابين متآلفين متوادين، وأن المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا، وأنهم كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر. وأصِّلوا في قلوبهم بغض الأخلاق الذميمة، كالبخل والجبن والكسل والغش والخيانة ونحو ذلك من سجايا الأشرار.

ونشئوهم على بغض وعداوة الكفار، لما هم عليه من الكفر والشرك والإلحاد، وفروع تلك العقائد من أخلاق أهل الفساد، ولما يسعون إليه من الإفساد، واذكروا لهم النصوص على ذلك من الكتاب والسنة، وبينوا لهم عداوة الكفار لأهل الإسلام، وما فعلوه من العظائم والفتن في مختلف الأيام، وحذروهم من التشبه بالكفار وسائر الأشرار، فإن التشبه في الظاهر ينتج عنه ميل في الباطن، ومن تشبه بقوم فهو منهم، ومن تشبه بقوم حشر معهم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله:

عباد الله: الأولاد نعمة كبرى، ومنة عظمى، أنعم الله بها على من شاء من عباده ﴿المَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الحَيَاةِ﴾ ، وإن العاقل الذي أوتي هذه النعمة ليدرك أن استقرارها، واستمرار أثرها على الإنسان في حياته و بعد مماته؛ لا يكون إلا بتوجيهها التوجيه الذي أمر الله به، والبعد كل البعد عن التساهل والتفريط في شأنها، فإنها بجانب كونها نعمة، هي ابتلاء واختبار وفتنة، قال جل وعلا ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ﴾ ، وقال ﴿وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ﴾ .

قلب طرفك يا عبد الله في صفحات التاريخ، تقف على حقائق رائعة، ونماذج فذة، كلها صفاء وبهاء، من اهتمام السلف الصالح بتربية أبنائهم، والاعتناء بهم ؛ لأنهم أدركوا ما وراء شكرها والقيام بحقها، من تتابع أجر، وبقاء ذكر، يقول سبحانه عن عباده المؤمنين ﴿يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً﴾.

قال عكرمة : والله ما أرادوا صباحة وجوه أبنائهم، ولا جمال أجسادهم، إنما أرادوا أن تقر أعينهم بصلاحهم، وأن يكونوا مطيعين لله عز وجل. و قال تعالى عن إبراهيم ويعقوب عليهما السلام ﴿وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَابَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ﴾ وعن لقمان أنه قال لولده يوصيه ﴿يَابُنَيَّ لاَ تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾ ويقول له ليزرع في قلبه مراقبة الله جل جلاله ﴿يَابُنَيَّ إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُن فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَوَاتِ أَوْ فِي الأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ﴾ وعن نبيكم صلى الله عليه وسلم : «يا غلام احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة، إذا سألت فسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله».

عباد الله: هكذا كانت أساليب الأنبياء والصالحين في التربية ﴿أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ﴾ إن لم تكونوا مثلهم فتشبهوا إن التشبه بالكرام فلاح. ولكن أكثر الناس اليوم قد أهملوا هذا الجانب، إهمال المستبدل الأدنى بالذي هو خير، فمنهم من يمسي ويصبح، ودنياه همه، وشغله الشاغل، لا يكاد يلتفت إلى أولاده، إلا بقدر ما يوفر لهم من المأكل والمشرب، وما يدري المسكين أنه بعمله هذا ترك لباب ذات اللباب النافع، وجمع قشوره، وأشر من هذا من يأخذ بهم في تربيته إلى العصيان.

فاجتهدوا رحمكم الله في تربية أبنائكم على نحو ما جاء في الكتاب والسنة، وما أثر عن السلف الصالح من هذه الأمة، والصدق في طلب فضله، يؤتيكم الله من فضله فوق ما تأملون، ويؤمنكم مما تحذرون، ويجمعكم بأولادكم وأهليكم في جنات ونهر، في مقعد صدق عند مليك مقتدر ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُم مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ