إصلاح ذات البين

بسم الله الرحمن الرحيم

إصلاح ذات البين

الحمد لله الذي نزل الكتاب وهو يتول الصالحين، أحمده سبحانه أمر بالإصلاح وبشّر، فقال: ﴿إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ المُصْلِحِينَ﴾، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يعلم المفسد من المصلح، ولا يصلح عمل المفسدين ﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ القُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ﴾، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله إمام الصالحين، وقدوة المصلحين، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه الذين كانوا يصلحون في الأرض ولا يفسدون، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك من الصالحين ... أما بعد:

عباد الله: إن الاختلاف بين الناس والخصومة فيما بينهم أمر واقع، وله أسباب كثيرة، منها الشيطان الذي يعدهم الفقر ويأمرهم بالفحشاء، والنفسُ الأمارة بالسوء، والهوى المضل عن سبيل الله، والشح المهلك، والنميمة المفسدة، واشتباه الأمور، وغير ذلك من الأسباب متفرقة ومجتمعة، التي تُنتج الخلاف، وتورث الفتنة، حتى تفرق بين المحب وحبيبه، والقريب وقريبه، والصاحب وصاحبه، والنظير ونظيره، حتى يهجر الولد أباه، والزوج زوجه، والأخ أخاه، والجار جاره، والشريك شريكه، والجماعة من مجتمعهم، وذلك أنه إذا دب الخلاف، واشتدت الخصومة، فسدت النيات، وتغيرت القلوب، وتدابرت الأجساد، وأظلمت الوجوه، فوقعت الحالقة التي لا تحلق الشعر، ولكن تحلق الدين، حيث يسوء ظن المسلم بأخيه، وهو كما في الصحيح «الظن أكذب الحديث»، وتتفوه الأفواه بفاحش القول، وألوان البهت، وقد تمتد الجوارج إلى الضرب أو القتل وغير ذلك من القبائح، وفي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : «كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه» وحتى يحتقر المرء أخاه وفي الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم قال : «بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم» يقطع ما أمر الله به أن يوصل من حق الرحم، فيقع المرء تحت طائلة قوله تعالى : ﴿وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُوْلَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ﴾ وحتى يتهاجر المسلمان، ونبينا صلى الله عليه وسلم يقول كما في (خ م) : «لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث يعرض هذا فيعرض هذا وخيرهما الذي يبدأ بالسلام» .

وأخبر صلى الله عليه وسلم «أن من هجر أخاه سنة فهو كسفك دمه» وحتى يقع الحسد والتحريش بين المسلمين، وفي الحديث : «إياكم والحسد، فإنه يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب أو قال العشب» .

وقال صلى الله عليه وسلم كما في (م): «إن الشيطان قد أيس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب، ولكن في التحريش بينهم» وذلك لما ينتج عنه من المفاسد، ولو لم يكن من شؤم الهجر والقطيعة إلا ما في (م) عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «تفتح أبواب الجنة يوم الاثنين ويوم الخميس فيغفر لكل عبد لا يشرك بالله شيئا إلا رجلا كانت بينه وبين أخيه شحناء فيقال: انْظِرَا هذين حتى يصطلحان» .

عباد الله: فإذا كان الاختلاف بين المسلمين وما ينتج من الهجر والقطيعة بينهم، تُنْتِجُ هذه المفاسد العظيمة، والعواقب الوخيمة، من الإثم وسوء الظن، والكذب والبهتان، واستحلال الحرمات، وانتهاك العورات، والهجران واللعنة من الله، وذهاب الحسنات، وتأجيل المغفرة أو حرمانها، فمن ذا الذي يزعم أنه يؤمن بالله واليوم الآخر، وهو يعلم أن بين اثنين من إخوانه، وخاصة الأقارب والأرحام، شحناء وقطيعة، ثم لا يبذل وسعه، وغاية جهده في الإصلاح بينهما، رحمة بهما، وشفقة عليهما، وطمعا في فضل الله ورحمته، الذي وعدهما الله من أصلح بين الناس.

عباد الله: إن الصلح بين الناس من الصدقات، التي ينبغي أن يتقرب بها المؤمن كل يوم إلى ربه تعالى، شكرا له على أن عافاه في بدنه، كما في (خ م) أنه صلى الله عليه وسلم قال: «كل سلامى من الناس عليه صدقة، كل يوم تطلع فيه الشمس تعدل بين الاثنين صدقة» أي تصلح بينهما، وعند (حم) أنه صلى الله عليه وسلم قال: «ألا أخبركم بأفضلَ من درجة الصيام والصلاة والصدقة؟ قالوا: بلى يا رسول الله. قال: إصلاح ذات البين».

ولما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم أن بني عمرو بن عوف كان بينهم شر، خرج صلى الله عليه وسلم يصلح بينهم في أناس معه، حتى كادت تفوته الصلاة بسبب ذلك، وفي رواية أنه قال: اذهبوا بنا نصلح بينهم.

الخطبة الثانية :

الحمد لله:

عباد الله: اتقوا الله ربكم، وأصلحوا ذات بينكم، وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين، إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم، واتقوا الله لعلكم ترحمون، والصلح خير، وإن تحسنوا وتتقوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا، قوموا بما أمركم به ربكم من الإصلاح، يُنجِز لكم ما وعدكم من الفلاح، الخير العميم، والأجر العظيم ﴿لاَ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً

عباد الله: ومن أجل عظيم منافع الإصلاح بين الناس، رخص النبي صلى الله عليه وسلم في الكذب الذي يثمر الصلح فقال كما في (خ م) «ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس فينمي خيرا، أو يقول خيرا» ولم يرخص صلى الله عليه وسلم في شيء مما يقوله الناس أي من الكذب إلا في ثلاث «الحرب، والإصلاح بين الناس، وحديث الرجل امرأته، وحديث المرأة زوجها».

فاتقوا الله عباد الله: وأصلحوا بين إخوانكم عند الاختلاف، وتوسطوا بينهم عند النزاع والبغي، ولاسيما قرابتكم، ولا تتركوهم للشيطان وقرناء السوء يضلونهم عن سواء السبيل، ويهدونهم طريق الجحيم، أصلحوا بينهم تحفظوا لهم دينهم، وتحافظوا على نعمتهم قبل زوالها، وتفوزا من الله بالأجر العظيم، والثواب الكريم، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ﴿وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ المُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ﴾.

اللهم استعملنا في طاعتك، واحعلنا مباركين أينما كنا.

اللهم أصلح قلوبنا، واستر عيوبنا، وتول أمرنا، واغفر ذنوبنا، واستر عوراتنا، وآمن روعاتنا.