العشر الأواخر وليلة القدر

بسم الله الرحمن الرحيم

العشر الأواخر وليلة القدر

أيّها المسلمون، يتفضَّل ربُّنا على عبادِه بنفحَاتِ الخيراتِ، ومواسِمِ الطاعات، فيغتنِم الصّالحون نفائِسَها، ويتدارَك الأوّابونَ أواخِرَها. لَيالٍ مبارَكة أوشَكَت على الرّحيلِ، ليالي شهرٍ كَريم، أبوابُ الجنانِ فيه مفتَّحة، وأبوابُ النّار فيه مُغلَقَة، والشّياطين فيه مصَفَّدَة، العشرُ الأخيرةُ تاجُ اللّيالي.

أيّها المسلمون، شرُفت هذه الأمّةُ بشهرٍ تتطهَّر فيه النفوس من العصيان والآثام، ومن مساوئ الأفعال والخصال، يشغَل المسلِمون فيه أوقاتَهم بالطّاعة وتِلاوة القرآن، ينزِّه الصيامُ نفوسَهم، ويهذِّب القِيامُ أخلاقَهم، ويُلين القرآن قلوبَهم، يتسَابقون في ليالِيه بالفَضائل، ويتنافسون في أيّامه بالجود، وفي عَشرِه الأواخر تزكو الأعمال، وتُنال الآمَال، تقولُ عائشة رضي الله عَنها: كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم «إذا دَخَلتِ العَشر الأواخرُ أحيا الليلَ وأيقَظ أهلَه وشَدَّ المئزر». متّفق عليه

القَائمُ في ليلَتِها بالتّعبُّد مغفورٌ له ذنبُه، يقول المصطَفى صلى الله عليه وسلم : «مَن قامَ ليلةَ القدرِ إيمانًا واحتِسابًا غفِر لَه ما تقَدَّم مِن ذَنبِه» متّفق عليه، فيها تُفتَح الأبوابُ ويسمَع الخطاب، يصِل فيهَا الرّبّ ويقطَع، يعطي ويمنَع، يخفِض ويرفَع، تقول عائشة رضيَ الله عنها: قلتُ: يا رسولَ الله، أرأيتَ إن عَلِمتُ أيَّ ليلةٍ ليلةَ القدر ما أقول؟ قال: «قولي: اللّهمّ إنّك عفوٌّ تحبّ العفو فاعف عنّي»

والقيامُ للهِ في الظُّلَم من أعمَال أهل الإيمان ﴿كَانُوا قَلِيلاً مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ﴾ وصَلاةُ اللّيل أعظم ما يُرجَى، وأزكَى ما يُقدَّم، وهي مِن أسبابِ دُخولِ الجِنان، يقولُ عليه الصّلاة والسّلام: «يا أيّها النّاس، أفشُوا السّلامَ وأطعِموا الطّعامَ وصِلوا الأرحامَ وصَلّوا باللّيل والنّاسُ نِيامٌ تَدخُلُوا الجنّةَ بسَلامٍ» ولَيالي رَمضانَ مبَشَّرٌ من قامَها بغُفرانِ الذّنوبِ، قال عليه الصلاة والسلام: «مَن قامَ رَمضانَ إيمانًا واحتِسابًا غفِر لَه ما تقَدَّم مِن ذَنبِه» متّفق عليه

أيّها المسلمون، الدّعاءُ حَبلٌ ممدود بين السّماء والأرض، وهو المغنَمُ بلا عَناءٍ، ومِن أنفعِ الأدوِيَة للدَّاء ﴿أَمَّن يُجِيبُ المُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ﴾ في كلِّ ليلةٍ ساعةُ إجابةٍ، الأبوابُ فيها تفتَّح، والكَريم فيها يمنَح، فسَل فيها ما شِئتَ، فخزائِن الله ملأَى، والمعطِي كريم، وأيقِن بالإجابةِ فالربُّ قديرٌ، وبُثَّ إليه شكواك فإنّه الرّحيم، يقول النبيّ صلى الله عليه وسلم : «إنَّ في اللّيلِ ساعةً لا يوافِقُها رجلٌ مسلِم يسأَل الله خيرًا مِن أمرِ الدّنيَا والآخرَةِ إلاّ أعطاه إيّاه، وذلك كلَّ ليلةٍ» رواه مسلم ونَسَماتُ آخِرِ اللّيل مظِنّة إجابَةِ الدّعوات، قيل للنّبيّ صلى الله عليه وسلم : أيّ الدّعاءِ أسمع؟ قال: «جوفُ اللّيل الآخر ودبُر الصلوات المكتوبة»

والعبدُ مفتقرٌ إلى محوِ أدران خطاياه، والانكسار بين يدَي مولاه، ومِن أرجَى أحوال التذلُّل الاعتكاف في بيتٍ من بيوت الله ، فلقد كان نبيُّنا صلى الله عليه وسلم يعتَكف العشرَ الأخيرةَ من رمَضان، وإذا قرب العبد من ربِّه لطَفَ الله به، وساق إليه الإحسانَ من حيثُ لا يشعُر، وعصمَه من الشرِّ من حيث لا يحتَسِب.

أيّها المسلمون، الزّكاةُ رُكنٌ من أركانِ الإسلام، ومبنًى من مبانِيه العظام، فيها تقوَى أواصِرُ المودَّة بين المسلِمين، وفيها تطهيرُ النفوسِ وتزكِيَتها من الشحِّ، يقول عزّ وجلّ: ﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَ﴾ وهِيَ حقٌّ واجِبٌ، وشريعة عادِلة، فيها استِجلاب البركةِ والزيادةِ والخُلف من الله ﴿وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ﴾ في الزكاةِ سموٌّ بالأرواح والأخلاقِ، بالجود والسّخاء، بها يكتَمِل العدلُ، ويعمُّ الرّخاء، ويسعَد الفقراء، وهي حِليَة الأغنياء، وزِينة الأتقياء ووصيَّة الأنبياء، قال عزّ وجلّ ﴿وَاذْكُرْ فِي الكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الوَعْدِ وَكَانَ رَسُولاً نَّبِياًّ (54) وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عَندَ رَبِّهِ مَرْضِياًّ﴾ .

وجاء الوعيدُ في حقّ من بخل بها ﴿وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ يَقول عَليه الصلاة والسلام: «من آتاه الله مالاً فلَم يؤدِّ زَكاتَه مثِّل له مالُه شجاعًا أقرع ،له زبيبَتان، يُطوَّقه يومَ القيامة، ثمّ يأخذ بلِهزِمَتَيه ـ يعني شِدقَيه ـ، ثمّ يقول: أنا مالُك أنا كَنزك»، ثم تلا النبيُّ صلى الله عليه وسلم قوله عزّ وجلّ: ﴿وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَّهُم بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ القِيَامَةِ﴾ متفق عليه

فتواضَع بقلبك للمِسكين، وابذُل له كفَّ النّدى، ولا تحتقِر فقيرًا، فإنّ أكثرَ أهل الجنة همُ الفقراء، وأنفِق بكرَم يدٍ ، وسَخاوةِ نفسٍ، يبارَك لك في المالِ و الوَلد، فابتغوا الضعفاءَ والمحاويج، وارزُقوهم ترزَقوا، وارحموهم تُرحَموا، فما اشتَكى فقيرٌ إلاّ من تقصيرٍ غنيّ.

الخطبة الثانية:

الحمد لله المتفرد بالدوام والبقاء، نحمده سبحانه وتعالى إذ اختصنا بشهر الصيام ليفيض فيه إحسانًا، ويغفر فيه عصيانًا، ويضاعف فيه أعمالاً، نحمده جل وعلا على كل حال، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه، أزكى الأمة أعمالاً، وأصدقهم أقوالاً وأفعالاً.

أما بعد: عباد الله، اتقوا الله تعالى، وجِدّوا في العمل الصالح في هذه الليالي العشر، وودّعوا شهركم هذا بالإحسان وتلاوة القرآن وبذل الصدقات، وقابلوا نعم الله بالشكر له جل وعلا والامتنان، وانهوا النفوس وازجروها عن مقارفة الهوى والآثام، واستدركوا ما فرّطتم في أول شهركم، وتنافسوا في الدرجات العلى والمنازل الرفيعة، فإنما الأعمال بالخواتيم.

عباد الله، إن شهر الصوم قد قوّضت خيامه وتصرمت لياليه وأيامه، فالسعيد كل السعادة من ربح وفاز، وتدارك ما فاته من العمل الصالح في هذه الأيام العظام، ويكفيك ـ أخي المسلم ـ شرفًا رفيعًا وقدرًا عظيمًا ما خصّ الله به هذه العشر، ليلةٌ هي خير من ألف شهر، ليلة شرّفها الله على غيرها من الليالي، ومنّ على عباده بجزيل خيرها، فاغتنموا هذه الليلة المباركة، وعظموها بالقيام ، وأحسنوا الركوع والسجود وتلاوة القرآن، وأكثروا فيها من ذكر الله وسؤاله المغفرة والنجاة من النار، والتمسوها في الوتر من العشر الأواخر من هذا الشهر المبارك كما جاء بذلك الخبر عن البشير النذير صلى الله عليه وسلم .

فالعَبدُ مفتقِرٌ إلى محوِ أدرانِ خطاياه، والانكسارُ بين يدَيِ مولاه، والافتقارُ إليه في هذه العشرِ المباركَات، والاعتكافِ في بيتٍ من بيوت الله، أحرى بمَغفرَة دنَسِ الخطايا، وأرجَى للقَبول ، فلقد كان نبيُّنا صلى الله عليه وسلم يعتَكِف العشرَ الأواخِرَ من رَمَضانَ حتى توفّاه الله. فارغَب إلى ربِّك بالاعتكافِ، وداوِم على ذكرِ الله فيه، وأكثِر من الدّعاءِ في ساعاتِ الإجابَةِ، فتلك لحظاتٌ تُغتَنَم، يقول القرطبيّ رحمَه الله: "فضيلةُ الزّمانِ إنما تكون بكثرةِ مَا يقَع فيه مِنَ الفضائلِ"، وإذا قرُب العبدُ من ربِّه لطَف اللهُ بِه، وساق إليه الإحسانَ من حيث لا يشعُر، وعصَمَه من الشّرّ من حيث لا يحتَسِب، ورفعَه إلى أعلى المراتِبِ بأسبابٍ لا تكون من العَبدِ على بالٍ.