ختام شهر رمضان

بسم الله الرحمن الرحيم

ختام شهر رمضان

عباد الله: ما أسرع ما تنقضي الليالي والأيام، وما أعجلَ ما تنصرم الشهور والأعوام، وهكذا حال الدنيا، سريعةُ الزوال، قريبةُ الاضمحلال، لا يدوم لها حال، ولا يطمئنّ لها بال، وهذه سُنة الله في خلقه ، أدوارٌ وأطوارٌ تجري بأجل مسمى ﴿لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ﴾ نودع رمضان ، وكأنّه طيف خيال ، ما أعجلَ ما انقضى ، وما أسرعَ ما انتهى ، ولله الحمد على ما قضى وأبرم ، وله الشكر على ما أعطى وأنعم .

ولقد كان رمضان مدرسة نستلهم منها شدة العزم، وقوة الإرادة على كل خير، تعظيمًا للسلوك ، وتقويمًا للنفوس، وتعديلاً للغرائز، وتهذيبًا للظواهر والبواطن، وصفاءً للأعمال والضمائر، إرادة مستقيمة على الدوام، في قوة على الفضائل لا تعرف لينًا، وفي صلابة على المحاسن لا يدخلها استرخاء.

عباد الله : مطالب القرآن تترى في الدعوة إلى الاستقامة على الخير، والثبات على الهدى ﴿فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْا﴾ وصايا ربانية تتوجه للأفراد والمجتمعات تنتظم الإقامة على أمور الإسلام، والدوام على منهج الدين، والاستمرار في التقيد بقيوده، والوقوف عند حدوده، والاستجابة لأوامره، والانتهاء عن زواجره ، على الوجه الأكمل، والطريق الأقوم.

ولقد رحل شهركم بأعمالكم، وسيخُتم فيه على أفعالكم وأقوالكم، فمن كان مسيئاً فليبادر بالتوبة والحسنى قبل غلق الباب وطيِّ الكتاب، ومن كان في شهره إلى ربه منيباً وفي عمله مصيبا فليُحكم البناءَ ويشكر المنعمَ على النعماء، ولا يكن كالتي نقضت غزلها من بعد قوَّة أنكاثاً.

فيا هذا تدارك موسم الغفران، واجتهد في بقية شهر رمضان، فلعلك لا تدركه في الزمان الثان، نكس الرأس تنكيس ندمان، وقف على باب المولى وقل: يا صاحب الإحسان، عُبيدك الضعيف أسير العصيان، وحليف الهموم والأحزان، قد انطرح بين يديك واستكان، يستقيلك من الذنوب والعصيان، فأنت المعروف بالفضل والامتنان.

عباد الله: لقد يسّر الله طرقَ الخيرات، وتابع لعبادِه مواسمَ الحسنات، وربُّنا وحدَه مصرِّف الأيّام والشهور ﴿يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ﴾ جعل لكلِّ أجلٍ كتابًا، ولكلّ عملٍ حسابًا، وجعل الدّنيا سوقًا يغدو إليها النّاس ويروحون، فبائعٌ نفسَه فمعتِقها أو موبِقها، والأيّام أجزاءٌ من العُمر ومراحل في الطّريق تفنى يومًا بعد يوم، مُضيُّها استنفادٌ للأعمار ، واستكمال للآثار، وقربٌ من الآجال ، وغَلقٌ لخزائن الأعمال.

مضَت ليالٍ غرٌّ بفضائلها ونفحات ربّها، وكأنّها ضربُ خيال، لقد قطعت بنا مرحلةً من حياتنا لن تعود . هذا هو شهرُكم، وهذه هي نهايته، كم من مستقبلٍ له لم يستكمِله، وكم من مؤمِّلٍ أن يعودَ إليه لم يدرِكه، فاغتنِم ما بقي من الشّهر بمضاعفةِ الطّاعات، فما الحياة إلاّ أنفاسٌ معدودة ، وآجال محدودة، وإنّ عمُرًا يقاس بالأنفاسِ لسريعُ الانصرام ، واحذَر الاغترارَ بالسّلامة والإمهال ، ومتابعة سوابغ المُنى والآمال، فالأيّام تُطوى والأعمار تفنَى، فاستلِفِ الزمن وغالِب الهوى، واجعَل لك في بقيّة الليالي مدَّخرًا ، وابكِ على خطيئتِك ، واندَم على تفريطِك، واغتنِم آخرَ ساعاتِ شهرك بالدّعاء، ففي رمضانَ كنوزٌ غالية، وسلِ الكريمَ فخزائِنه ملآى ، ويداه سحَّاء ، فكن للقرآن تاليًا، وودِّع شهرَك بكثرةِ الإنابة والاستغفار ، وقيامٍ لله مخلصٍ في دُجى الأسحار، وإن استطعتَ أن لا يسبقَك إلى الله في بقيّة شهرك أحدٌ فافعل، فلحظاتُ رمضانَ الأخيرة نفيسة، ولعلّك لا تدرِك غيرَه، وافتَح صفحةً مشرقة مع مولاك، وأسدِل الستارَ على ماضٍ نسيتَه ، وأحصاه الله عليك، وعاهِد نفسَك بدوامِ المحافظةِ على الصّلوات الخمس في بيوتِ الله ، وبرِّ الوالدين ، وصلةِ الأرحام ، وتطهير مالِك عن المحرّمات والشّبهات ، وحفظِ لسانِك عن الكذب والغيبة ، وتطهير القلب من الحسَد والبغضاء ، وغضّ البصر عن المحرّمات ، واستدرك هفواتِ الفوات، فالترحُّل من الدنيا قد دنا، والتحوّل منها قد أزِف، والرشيد من وقف مع نفسه وقفةَ حساب وعِتاب، يصحّح مسيرتَها ، ويتدارك زلّتها .

يقول ابن حبّان رحمه الله: "أفضل ذوي العقولِ منزلةً أدومُهم لنفسه محاسبة، والسعيدُ من استودع صالحًا من عملِه، والشقيّ من شهِدت عليه جوارحه بقبيح زَلَله".

عباد الله: أتبعوا صيام رمضان بصيام ست من شوال، يقول عليه الصلاة والسلام كما عند (م): «من صام رمضان ثم أتبعه ستاً من شوال كان كصيام الدهر» ولئن انقضى قيام رمضان، فإن قيام الليل مشروع في كل ليلة من ليالي السنة، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الله ينزل إلى السماء الدنيا كلَّ ليلة حين يبقى ثلث الليل الآخر، فيقول: من يدعوني فأستجيب له، من يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له و «أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل» والمغبون من انصرف عن طاعة الله، والمحروم من حُرم رحمةَ الله.

الخطبة الثانية :

عباد الله: ودَّعتم موسماً مباركاً عظيماً ، من مواسم المتاجرة مع ربكم في الأعمال الصالحة، فأعتق رقاباً قد أرَّقتها جرائر سيئاتها، فاستأثرت بالسعادة ونجت من الشقاوة، فهنيئاً لِمن فاز بجائزة ربه، ويا ويح من عاد بالخيبة والندامة، وكأنكم بالأعمال قد انقضت، وبالدنيا قد مضت، فاستعدّوا بذخائر الأعمال ، لما تلقَون من عظيم الأهوال، وقد آن وقتُ التحويل إلى الوقوف بين يدي الملك الجليل، فأنفاسكم معدودة، وملك الموت قاصدٌ إليكم، يقطع آثاركم ويخرّب دياركم، فرحم الله عبداً نظر لنفسه وقدَّم لغده من أمسه، فترحَّلْ من مواطن غيِّك وهلاكك ، إلى مواطن رشدِك وسدادك، ولا تغترَّ بكثرة الهالكين بزخارف الدنيا، ولا تستوحش من الحقّ لقلة السالكين.

عباد الله : إنّ مِن مسالك الإحسان في ختام شهركم إخراجَ زكاة الفطر، ففيها أُلفة القلوب ، وعطف الغنيّ على أخيه الفقير، فرضها رسول الله صلى الله عليه وسلم طهرةً للصّائم ، وطعمة للمساكين، ومقدارها صاع من طعامٍ من غالب قوتِ البلد، من شعير أو تمر أو زبيب أو أرز أو نحوه من الطعام، عن الصغير والكبير، والذكر والأنثى، والحر والعبد من المسلمين، ووقتُ إخراجها الفاضلُ يوم العيد قبلَ الصلاة، ويجوز تقديمها قبل ذلك بيومٍ أو يومين، فأخرِجوها طيّبةً بها نفوسكم .

عباد الله: شرع الله لنا أهل الإسلام في ختام هذا الشهر عيدا ، تبتهج فيه النفوس ، وتظهر فيه الفرحة الشرعية بتمام النعمة ، وبلوغ المنة ، وهناك أمور يُستحب فعلها أو قولها في ليلة العيد ويومه، فيشرع التكبير من غروب شمس ليلة العيد إلى صلاة العيد ، تعظيمًا لله وشكرًا له على التّمام، قال عز وجل ﴿وَلِتُكْمِلُوا العِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ ويُسنّ جهر الرجال في المساجد والأسواق والبيوت إعلاناً بتعظيم الله، وإظهاراً لعبادته وشكره. ويستحب الاغتسال والتطيب للرجال قبل الخروج للصلاة .

صح عن سعيد بن جبير أنه قال: "سنة العيد ثلاث: المشي والاغتسال والأكل قبل الخروج". وكذا التجمل بأحسن الملابس.

ومن السنة أكل تمرات وترا قبل الذهاب إلى المصلى، لما رواه البخاري عن أنس رضي الله عنه: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يغدو يوم الفطر حتى يأكل تمرات، وفي لفظ: وترا

أما النساء فيشهدن العيد مع المسلمين حتى الحُيّض، ولكنهن يعتزلن المصلى، ويشهدن الخير ودعوة المسلمين. وينبغي أن يبتعدن عن الزينة إذا خرجن، لأنهن منهيات عن إظهار الزينة للرجال الأجانب، وكذا يحرم على من أرادت الخروج أن تمسّ الطيب أو تتعرض للرجال .

ويستحب التهنئة بالعيد لثبوت ذلك عن الصحابة رضي الله عنهم كقوله: تقبّل الله منا ومنكم، وما أشبه ذلك من عبارات التهنئة المباحة.