القرآن فضائل وآداب

بسم الله الرحمن الرحيم

القرآن فضائل وآداب

اتقوا الله واشكروه على نعمة إنزال القرآن، الذي جعله الله ربيع قلوب أهل البصائر والإيمان، فهو كما قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: هو كتاب الله، فيه نبأ من قبلكم، وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم، هو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله، وهو حبل الله المتين، وهو الذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم، وهو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به الألسنة، ولا يشبع منه العلماء، ولا يخلق عن كثرة الرد، ولا تنقضي عجائبه، وهو الذي لم تنته الجن إذ سمعته حتى قالوا: ﴿إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ﴾ من قال به صدق، ومن عمل به أجر، ومن حكم به عدل، ومن دعا إليه هدي إلى صراط مستقيم.

عباد الله: ما منّا من أحد إلا وهو يحتاج إلى ما يشد أزره، ويرسى قدمه، يزيد في إيمانه ويقينه، ليثْبُتَ أمام الشهوات والشبهات، ثبات الجبال التي لا تحركها الهزات، ما منا من أحد إلا وهو محتاج إلى ما يؤنسه إن تطرقت إليه وحشة، ويسليه إن ألمت به مصيبة، ويرجيه إن ضاقت به حال ، أو طاف به طائف اليأس والقنوط ، ويخوفه إن استولى عليه الهوى.. لا تقوية لأزرٍ، ولا رسوخَ لقدمٍ، ولا أنس لنفسٍ، ولا تسلية لروحٍ، ولا تحقيق لوعد، ولا أمن من عقاب، ولا ثبات لمعتقد، ولا بقاء لذكر ، إلا بأن يتجه المرء اتجاها صحيحا بقلبه وقالبه، إلى كتاب ربه ، تلاوة وتدبرا، وتعلما وعملا، فهو المَعين العذب الذي لا ينضب، وهو الكنز الوافر الذي لا يزيده الإنفاق إلا جدة وكثرة، ولا تكرار التلاوة إلا حلاوة ورغبة.

القرآن العظيم، هو كلام الله الذي لا يشبهه كلام، تكفل الله بحفظه، فلا يتطرق إليه نقص ولا زيادة، مكتوب في اللوح المحفوظ، وفي المصاحف مخطوط، متلو بالألسن، ميسر للتعلم والتدبر ﴿وَلَقَدْ يَسَّرْنَا القُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ﴾ يستطيع حفظه واستظهاره الصغار والأعاجم ،لا تكل الألسنة تلاوته، ولا تمل الأسماع من حلاوته ،ولا تشبع العلماء من تدبره، والتفقه في معانيه، ولا يستطيع الإنس والجن أن يأتوا بمثل سورة منه.

القرآن نزل ممن له الأمر، بهر بحسن ارتباط أواخره بأوائله، وبديع إشاراته، وعجيب انتقالاته، من قصص باهرة، إلى مواعظ زاجرة، وأمثال سائرة، وحكم زاهرة، وأدلة على التوحيد ظاهرة، وأمثال بالتنزيه والتحميد سائرة، ومواقع تعجب واعتبار، ومواطن تنزيه واستغفار، إن كان الكلام وعدا أبهج، وإن كان وعيدا أزعج، وإن كان دعوة جذب، وإن كان زجراً أرعب، وإن كان موعظة أقلق، وإن كان ترغيباً شوق.

فسبحان من سلكه ينابيع في القلوب، وصرفه بأبدع معنى وأعذب أسلوب، لا يستقصي معانيه فهمُ الخلق، ولا يحيط بوصفه على الإطلاق ذو اللسان الطلق، فالسعيد من صرف همته إليه، ووقف فكره وعزمه عليه، والموفق من وفقه الله لتدبره، واصطفاه للتذكير به وتذكره، فهو يرتع منه في رياض، ويكرع منه في حياض.

أندى على الأكباد من قطر الندى *** وألذ في الأجفان من سِنَةِ الكرى

يملأ القلوب بشرا، ويبعث القرائح عبيرا ونشرا، يحيي القلوب بأوراده، ولهذا سماه الله روحا، لأنه يؤدي إلى حياة الأبد، ولولا الروح لمات الجسد ﴿يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ﴾ .

عباد الله: إن هذا القرآن أنزل ليكون منهج حياة ، ومرشداً إلى سبيلٍ، يهذبُ النفوس ويزكيها، ويقوِّم الأخلاق ويعليها، يقودُ من اتبعه إلى سعادة الدارين، وينجيه من شقاوة الحياتين ﴿فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَى (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً﴾ .

كتاب ربنا بين أيدينا، نزهه ربنا عن الخطأ والزلل، وجعله صالحا لكل زمان ومكان ﴿لاَ يَأْتِيهِ البَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ﴾ فصل فيه الأحكام، وفرق بين الحلال والحرام، فهو الضياء والنور، وبه النجاة من الغرور، وفيه شفاء لما في الصدور، من تمسك به هُدي، ومن عمل به فاز.

وعد الله بحفظه من عبث العابثين، وتحريف الغالين ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ فيا من يشتكون من عدم استقرار البيوت، عليكم بالقرآن، ويا من يشتكون من القلق والوساوس، عليكم بالقرآن، وما من يشتكون من ضعف الإيمان، عليكم بالقرآن.أحيوا بالقرآن ليلكم، استعذبوا ألفاظه، وتأملوا إتقانه، قوموا به مع القائمين، اصبروا أنفسكم على صلاة التراويح والقيام (من قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه)

فلا تستطل ساعةً تقفها بين يدي مولاك، وجاهد هواك، فإن المأسور من أسره هواه، والمحروم من أبعده مولاه، والجهاد طريق الفلاح ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ المُحْسِنِينَ﴾ .

الخطبة الثانية:

فاتقوا الله عباد الله، وتمسكوا بكتاب ربكم تمسكًا صادقًا، تُرى آثاره في أعمالكم، وأقوالكم وأخلاقكم، وأقبلوا عليه تلاوة وحفظًا، وتدبرًا وفكرًا، وعلمًا وعملاً.

أنزل الله القرآنَ معجزةً خالِدة، وتحدَّى به الثّقلَين، فأذعَن لفصاحَتِه بلَغاؤُهم، وانقاد لحُكمِه حُكَمَاؤهم، وانبَهَر بأسرَارِه علماؤهم، وانقطَعَت حُجَج معارِضيه، وظهَر عَجزُهم، كيف لا وهو كلام الحكيمِ الخبير، الذي لا يطاوِله كلام، ولا يجاريه أسلوب؟! قولُ إيجازٍ، وآياتُ إعجاز.

يسَّر ذكرَه للذاكرين، وسهَّل حِفظَه للدّارسين، فهو للقلوبِ ربيعُها، وللأبصارِ ضياؤها، جعَله الله نورًا، وإلى النّور يهدِي، وإلى الحقِّ يرشِد، وصِراطًا مستقيمًا، ينتهي بسالِكيه إلى جنّةِ الخلد، لا تملُّه القُلوبُ، لا تتعَب من تلاوته الألسن، لاَ يخلَق معَ كثرةِ التّرداد.

القرآن دليلُ دربِ المسلمين، دُستور حياةِ المؤمِنين، عَمود الملّةِ، ينبوع الحكمة، آيَة الرِّسالة، نور الأبصار والبصائر، لا طَريقَ إلى الله سواه، ولاَ نجاةَ بغَيره، مَن رامَ الهدَى والنّورَ، والسعادة في الدّارين،اتَّخذه سَميرَه و أنيسَه، وجعلَه جليسَه، فيوشِك أن يَفوزَ بالبُغيةِ، وأن يَظفرَ بالطّلبَة، ويجِد نفسَه معَ السّابقين .

عباد الله : الجيلُ الأوّل ساروا على نهج القرآن، فأصبَحوا خيرَ أمّةٍ أخرِجَت للناس، لم يكُن القرآن عندَهم محفوظًا في السّطور، بل كان مَكنونًا في الصّدور، ومحفوظًا في الأخلاقِ والأعمال، يَسير أحدُهم في الأرضِ وهو يحمِل أخلاقَ القرآن وآدابَه ومبادِئَه.

يخبِر الربُّ تبارك وتعالى عن عَظمةِ القرآنِ وجَلاله، وأنّه لو خوطِب به صُمُّ الجبال لتصدَّعت من خَشيةِ الله: ﴿لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا القُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُّتَصَدِّعاً مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ﴾ فالقرآن نور تشرق به قلوب المؤمنين، ويضيء السبيل للسالكين المتقين.

عباد الله أين من يريد الرفعة بهذا القرآن ، فهذا هو شهر البر والإيمان ، وإن الله يرفع بهذا الكتاب أقواما، ويضع به آخرين ، إن وجود القرآن بيننا وتيسير الحصول عليه، وتوفير المصاحف في المساجد والبيوت، من أعظم النعم على من وفقه الله لتعلم كتابه، واستماعه والعمل به، إنه العصمة الواقية، والنعمة الباقية، والحجة البالغة، والدلالة الدامغة، وهو شفاء لما في الصدور، والحكم العدل عند مشتبهات الأمور، وهو الكلام الجزْل، وهو الفصل الذي ليس بالهزل، سراج لا يخبو ضياؤه، وشهاب لا يخمد نوره وسناؤه، وبحر لا يُدرك غورُه، بهرت بلاغتُه العقولَ، وظهرت فصاحته على كل مقول.